هل يدعونا الكون كي نهدأ قليلًا؟ أن نتأنى ونبطئ الخطى لالتقاط الأنفاس؟ من الصعب حسم الإجابة ومعرفة إذا ما كان الكون بالفعل يرسل لنا رسائل معينة، أو يحاول التواصل معنا، فهو براح واسع لنظام شديد التعقيد والعفوية في آن. محكوم بقوانين الفيزياء وصيرورتها، وليس بالضرورة معدًا للتواصل مع البشر بطريقة مباشرة أو متعمدة.
ولكني أود الاعتقاد أن ذلك ممكن، وأننا في حوار دائم لا ينقطع معه. إنه يحمل رسالة لكل منا تقول "على مهلك" في عالم يلهث نحو النهايات ويقطع أنفاسنا. وأود أيضًا تصديق أن الكون أجبرنا على التوقف والنظر إلى الحياة من منظور مختلف خلال السنتين التي قضيناهما في إقامة جبرية داخل منازلنا خوفًا من "وحش" لا يُرى بالعين المجردة كاد يقضي علينا. حيث اضطررنا للجلوس مع أنفسنا ومواجهتها، لم يكن الأمر هينًا على الكثيرين، فغالبًا ما نتهرب بمشاغل الحياة من تلك المكاشفة.
ورغم الآثار النفسية والعقلية السلبية التي تركتها جائحة كورونا على الناس، كشفت دراسة نشرت عام 2020 في مجلة علم النفس الاجتماعي وعلوم الشخصية، أن فترة الوباء أدت إلى تغير الأولويات والقيم بالنسبة للبشر، مع ازدياد التقدير لدور العائلة والمجتمع والبيئة الطبيعية في حياتنا، بالإضافة إلى الوعي باحتياجاتنا البدنية وصحتنا.
نعيش اليوم في عالم تدعونا قيَمه الاستهلاكية إلى الوقوع بسهولة في فخ الإثارة والأكثر والأكبر والأجمل، وكل أفعال التفضيل الفقاعية، عسى أن نحقق وهم سعادة ننشده ونبذل في سبيله كل ذرة طاقة متبقية في أجسادنا. كالآلة التي تُستنزف طاقتها لتزيد إنتاجيتها تصبح عرضة للأعطال وتحتاج إلى أعمال صيانة دائمة، إلى أن ينتهي عمرها الافتراضي، كذلك أجسادنا تحترق قبل أوانها في سعي دائم لتحقيق المستوى المطلوب منا كإنسان القرن الواحد والعشرين المتحقق ذي المكانة.
تحترق أجسادنا قبل أوانها في سعي دائم لتحقيق المستوى المطلوب منا كإنسان القرن الواحد والعشرين المتحقق ذي المكانة
لا تتحقق تلك المكانة إلا حين تكتمل الصورة النمطية المعدة سلفًا لهذا الإنسان، الذي يسكن إحدى المدن الرئيسة أو ضواحيها الراقية، يمتلك منزلًا وسيارة ولديه وظيفة مستقرة وكم هائل من الديون يقسطها مدى العمر للبنوك. يسافر مع أسرته مرة كل سنة في إجازة صيفية ينشر صورها على السوشيال ميديا ليحظى بأكبر عدد من القلوب الحمراء والتعليقات الطيبة. ثم يعود إلى سريره يستعد ليوم جديد في طاحونة هواء يبحث وراءها عن السعادة.
كيف لهذا الإنسان أن يتمهل وألا يقلق من اختلال المنظومة من حوله مما يؤذن بخراب حياته بصورتها الكاملة؟ هل سيتعرف على نفسه من دون كل تلك الأعباء الملقاة عليه؟ هل يجرؤ على المغامرة بالقفز خارج صورته؟ ربما لا. فنحن رهائن تلك الصورة وقد نضيع خارج إطارها. لكنها رغم ذلك صورة وهمية على جدار هش؛ هزة صغيرة في سوق المال كفيلة بتصدعه، حتى لو لم تكن أنت شخصيًا مضاربًا في سوق البورصة، لكن كل ما يتعلق بحياتك، من ماكينة الحلاقة إلى الطائرة والصاروخ الفضائي مرتبط بها.
دعني أسألك، متى كانت آخر مرة زرعت فيها بذرة ليمونة وصبرت عليها كي تكبر؟ وراقبت ظهور البرعم الأول وحلمت ببستان من الليمون؟
هل سمعت عن شرائح التوصيل أو الرقائق الإلكترونية؟ هي رقائق معدنية قد يبلغ حجم إحداها حجم رأس إصبعك الصغير، تعطلت بسببها أهم الصناعات الكبرى في العالم؛ من الألعاب الإلكترونية إلى السيارات والمصانع.
أنا وأنت لا شأن لنا بالرقائق الإلكترونية، وربما لم نكن لنسمع عنها قبل الأزمة الأخيرة. ومع ذلك قد تكون هي السبب في خسارتك لعملك كمحاسب أو حتى حارس أمن في إحدى تلك الشركات. فمهما بدونا مسيطرين على حياتنا وقراراتنا فيها، فإن عوامل خارجة تمامًا عن إرادتنا قد تكون لها الكلمة الحاسمة.
كأن يقرر إيلون ماسك شطبك من سجلات الموظفين بكبسة زر، أو أن يعوض بك جيف بيزوس خسائره السنوية فيتخلص منك مع آلاف غيرك، أو أن تضع أموالك في أحد البنوك اللبنانية مثلًا وتخسرها كلها مرة واحدة. هل أدركت هشاشة الأمر؟
قدامك عيد
فعلى مهلك، "يابا على مهلك قدامك عيد، ليل السهر بيندهلك والصبح بعيد" تقول السيدة فيروز، في دعوة للسير إلى منزل مسيَّج بالفل على مهل، أن تعيش تلك اللحظة وتحفظها بذاكرتك وتكتبها وتغنيها بلحن يخلدها. دعني أسألك، متى كانت آخر مرة زرعت فيها بذرة ليمونة وصبرت عليها كي تكبر؟ وراقبت ظهور البرعم الأول وحلمت ببستان من الليمون؟
لا ألومك إن لم تفعل في زحمة الحياة. ربما لأنك تخاف من "تضييع الوقت" مع "أن الوقت الضائع الذي نستمتع بإضاعته ليس وقتًا ضائعًا" كما يقول عالم الرياضيات البريطاني برتراند راسل. أكيد أن الرجل حسب كلامه جيدًا. فاستمتاعنا بالحياة ليس وقتًا نندم عليه، وتخففنا من شيء من أحمالنا، ولو جبرًا، ليس خطأً يجب تصحيحه. خاصة إذا أدركنا أن غيابنا بالكامل عن تلك الصورة لن يغيِّر شيئًا، وظيفتك سيشغلها غيرك، وأحلامك سيحلمها شخص آخر، وقد تُنسى كأنك لم تكن.
نحتاج جميعًا إلى هدنة مع الأهداف الكثيرة التي وضعناها لحياتنا. نحتاج ألا نخشى السقوط من علو أوهامنا، الارتطام بالأرض موجع، لكنه ليس قاتلًا، فأنا أحدثك من هناك. خسارة ما لا نملكه ليس خسارة أصلًا، وبعض الرواق أو الروقان في حياتنا رفاهية يجب أن نسعى إليها، بعض الوقت المقتطع من وسط الزحام لمراقبة البراعم أو تعلم الكروشيه هو انتصار على سيستم يبتلعنا وسط الآلات وناطحات السحاب وسباق الإنجازات والنجاحات، لا بأس أن تدع الحياة تمر أحيانًا وأن تكتفي بالفرجة. وتذكر وأنت تخطو أعتاب العام الجديد، أن أهم الأهداف تُحرَز أحيانًا "في الوقت بدل الضائع".