ذات صباح استيقظنا على صراخ حاد في بيت الجيران، وحالة من الارتباك دلت عليها الأصوات الصادرة من شقتهم في الطابق السابع من عمارتنا.
قال سكان العمارة إن ابنة الجيران، التي عادت من السفر بعد غياب 4 سنوات قضتها في روسيا للدراسة، تعاني من مشكلة ما، وقيل إن لديها "عقدة"، وهو تعبير شائع كان يستخدم لوصف الحالات النفسية. وحاكت الألسن قصصًا كثيرة عن تلك "العقدة" المفترضة، بأنها ربما أحبت شابًا وتخلى عنها، أو أنها لم تحقق النجاح الذي كان متوقعًا منها في الدراسة، وغيرها من القصص التي كانت تبحث في سر الحالة التي وصلت إليها الفتاة.
حتى منتصف التسعينات لم يكن للأمراض النفسية والعقلية أسماءً يتداولها الناس، ولم تكن تشخص وتحدد كما هو الحال اليوم. كانت كلمة "مجنون" هي الكلمة الوحيدة الكافية لوصف كل الحالات العصبية أو الذهانية دون التمييز بينها. مصطلحات مثل اضطراب الشخصية الحدية واضطراب ثنائي القطب والاكتئاب والميول الانتحارية والفصام وصعوبات التعلم، جميعها كانت مجهولة وغير متداولة. يعتقد الكل أنه بمنأى عنها، و أن من يصاب بأي عارض محتمل منها، ليس له مكان غير المصحة النفسية.
مس شيطاني
حتى بدايات الألفية الثانية، كان الناس ما يزالون يتحدثون همسًا عن تلك الأمراض. كانت أسماء الأدوية المضادة للاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية معروفة فقط لمتعاطيها بوصفة طبي. لكن الحديث عنها كان تابو اجتماعيًا، يتم تداوله بين من يكشفون "سر" أحدهم. أما الدخول إلى المصحات فكان بمثابة حكم الإعدام على من يدخلها، لأنه سيوصم بالجنون وعدم الأهلية لممارسة حياته الطبيعية.
كانت جمل من قبيل "الله يعينه بياخد حبوب" أو "فلانة عايشة على المهدئات" تُهمس بين الحاضرين لوصف أحدهم، أو تستخدم للمعايرة والتقليل من صاحب الحالة في جدالات بين أفراد الأسرة أو الزملاء في العمل.
وللتعبير عن نوبات الهلع أو القلق التي لم نكن نعرف لها اسمًا، كنا نقول "قلبي مقبوض" ونطلب الستر من الله أن تكون العواقب سليمة نتيجة ذلك الانقباض المفاجئ في الصدر وصعوبة التنفس، لأن الاعتقاد الشائع أنها إشارات غيبية على حدوث شر لا تُحمد عقباه.
فيما كان التعامل مع حالات الاضطراب النفسي يتم غالبًا من خلال اللجوء إلى الشيوخ والقساوسة أو العرافين بحثًا عن العلاج، للاعتقاد أنها تتعلق إما بالابتعاد عن الله والعبادة، أو عدها مسًا شيطانيًا أو سيطرة من الجن على جسد المريض، في تقليد لا يزال متبعًا في الكثير من البلدان والمجتمعات رغم تراجع سطوته، في مقابل اتساع مساحة الطب الحديث والعلوم لمعالجة الأمراض النفسية والعقلية.
انفعالاتنا وردود أفعالنا محكومة بالضرورة بتركيبة معقدة من العوامل التي تعجز قدرتنا عن التحكم بها وتوجيهها
هذا التقدُم في المجالات النفسية والعقلية، وتسارع تطور علم الأعصاب وفهم جزء لا بأس به من آلية عمل المخ البشري وتأثره بمجموعة كبيرة من المؤثرات، كالبيئة والهرمونات والانزيمات، التي تحدد ملامح شخصياتنا وبالتالي الاختلالات التي قد نعاني منها، ربما يكون قد ساهم في رد الاعتبار للكثير منا؛ نحن الذين وُصمنا بالجنون أو الغباء وتم تمييزنا عن بقية الجموع "السوية" كما يظنون.
الوعي بداية الطريق
شقيقتي الصغرى التي عانت الأمرّين من نظام تعليمي اتهمها دائمًا بالكسل والغباء، تعرف اليوم، بعد كل هذه السنين، أنها كانت تعاني من صعوبات التعلم، التي لا تؤثر على ذكائها وقدراتها الكامنة، لكنها كانت تحتاج إلى تعامل مختلف، وأن اختلافها ليس فيه ما يعيبها، لو كان النظام قادرًا على التعامل مع حالتها.
وبالمناسبة، هي اليوم أم لثلاثة أطفال، وما زالت تعاني من صدمات سنوات الدراسة، ولا تفوت فرصة للتعبير عن مدى كراهيتها للمدارس والنظام التعليمي برمته.
اليوم صرنا نعرف أن انفعالاتنا وردود أفعالنا محكومة بالضرورة بتركيبة معقدة من العوامل التي تعجز قدرتنا عن التحكم بها وتوجيهها. وأننا أصبحنا أقل قسوة في أحكامنا على أنفسنا وعلى الآخرين بسبب تلك المعرفة.
مؤخرًا، مع معرفتنا بالطيف الواسع لتشخيصات الأمراض النفسية والعقلية، أدركنا ما نحمله من سماتها وأعراضها، لتفسر لنا الكثير عن أنفسنا وتساعدنا على فهم ما يدور بدواخلنا. كما بتنا نعرف أننا قد نرث الصدمات، أو نحمل آثارها منذ سنوات الطفولة الأولى، فتتحكم في اختياراتنا في الحياة وتخط مسارها، وتطرح سؤالًا إلى أي مدى نكون مسؤولين عن الاختيارات أو القرارات التي نتخذها؟
لا أملك الإجابة العلمية الكاملة لهذا السؤال، الذي لا زال قيد البحث العلمي، غير أن المعرفة هي بداية الإدراك واكتشاف الطريق. لا تعيبنا أمراضنا النفسية، كما لا يعيبنا إصابتنا بأي مرض عضوي، العيب هو في تجاهل الأمراض وعدم الاعتراف بها، مجتمعيًا ومؤسسيًا.
تعتمد المدارس الحديثة اليوم، خططًا علمية لتحديد المشكلات والأمراض العقلية، ليبدأ التشخيص في سن مبكرة تُسهل وضع خطط التدخل المناسبة. كما تتبع المؤسسات والشركات لوائح تنص عليها القوانين، تتعلق بالتعامل مع المشكلات النفسية وملاحظتها لدى الموظفين، وإيجاد البيئة المناسبة لاحتوائها، والسماح للموظف بآداء مهماته دون أن تشكل مشاكله العقلية عائقًا أمام تقدمه المهني.
أعتقد أن أحد سمات هذا القرن هو الثورة على المفاهيم القديمة المتعلقة بفهم البعد النفسي والعقلي لشخصية الإنسان، واحترام القدرات، بل وتقديرها، وأننا رويدًا رويدًا بدأنا نفقد الوصم الاجتماعي للمريض النفسي، والتعامل مع الأمر بوعي وتفهم كبيرين قد يساعدانا على إيجاد العلاجات والحلول.