من الصور اللافتة في حفل افتتاح كأس العالم لكرة القدم بقطر يوم الأحد الماضي، وربما المؤثرة إنسانيًا للبعض، كانت لقطة تقبيل أمير قطر تميم (42 سنة) يد والده الأمير السابق حمد بن خليفة (70 سنة) قبل أن يطلب الابن من أبيه توقيعه على فانلة صفراء بخطين حُمرٍ، للذكرى.
جسَّد المشهد رمزية الحُلم الذي تحقق لهم، باستضافة بطولة كأس العالم بعد مجرد الاحتفاظ بفانلة التدريب التي كان يرتديها الأب في شبابه وهو يلعب الكرة مع رفاقه بالصحراء، وبدون حتى ملعب له مبنى أو حتى في نادٍ متواضع آنذاك!
لفتت انتباهي لقطة تقبيل الابن يد والده، وهو يجلسه عن يمينه بينما أجلس ملوك ورؤساء العالم المدعوين أبعد منه. وأثارت لقطة توقيع الفانلة تعليقات ساخرة من مصريين على السوشيال ميديا، رأوا في الفانلة واحدة من فانلات نادي الزمالك، أحضروها إلى قطر وصبغوها لعمل فانلة مختلفة للمنتخب القطري الفقير وقتها!
أعود الى اللقطة التي تهمني. فما زلت أذكر في أواخر ربيع عام 2003، وكنت وقتها مديرًا لمكتب الجزيرة بواشنطن، زيارة قام بها وزير خارجية قطر آنذاك حمد بن جاسم آل ثاني، ومعه شاب من أبناء الأمير، في الثالثة والعشرين من العمر، يقدمه للمسؤولين الأمريكيين، رغم أن الأمير الشاب كان وقتها معنيًا رسميًا فقط بشؤون الرياضة في قطر.
استغربت تقديمه لمسؤولين سياسيين بينما شقيقه جاسم هو ولي العهد آنذاك، والأَولى باصطحاب وزير الخارجية لزيارة واشنطن في تلك الفترة الحرجة من الحرب الأمريكية على العراق!
لكنَّ استغرابي العابر أنهته، بعد بضعة أشهر، مفاجأة تعيين الأمير لهذا الشاب؛ تميم، وليًا للعهد في أغسطس/ آب 2003 بدلًا من شقيقه، ولي العهد وقتها؛ جاسم بن حمد، الابن الأكبر لأمهما الشيخة موزة بنت ناصر المسند، والابن الثالث من أبناء الأمير.
هذا التبديل لولي عهد بدلًا من شقيقه، لم يكن وحده التداول السلمي والطوعي للسلطة في قطر، حتى وإن كان تغيير ولي العهد حدثًا مدويًا وبمثابة انقلاب، بدون تراضٍ، في دول مجاورة أخرى. فقد كانت المفاجأة الحقيقية التي شكّلت سابقة لتداول السلطة في المنطقة، ولو بدون إرادة شعبية، تنازل الحاكم بطواعية بعد عشر سنوات من اختيار ابنه وليًا للعهد، ليصبح هو أمير البلاد ويعود الأب لمنزله بكامل قواه العقلية والبدنية مراقبًا فقط للأحداث.
هذا ما فعله في 25 يونيو/ حزيران عام 2013 الشيخ حمد بن خليفة ليصبح، بمجرد تسليم السلطة لابنه تميم في عمر 33 سنة، مجرد "الأمير الوالد" في عمر 61 سنة، منهيًا طواعية 18 سنة من حكم قطر.
تعددت التفسيرات للخطوة التي اتخذها الأمير الأب، رغم تأكيد رغبته في تولي الشباب قيادة البلاد، في مقابلة مع صحيفة فاينانشيال تايمز قبل ثلاث سنوات من تسليمه السلطة، وقبل عام من الربيع العربي، أكد خلالها أنه نقل بالفعل نحو 85% من أمور البلاد لابنه تميم، الذي وصفه بأنه يعمل في الظل بهدوء ودون ضوضاء، مضيفًا أن "الأجيال الجديدة لا ترتاح في العمل معنا، لديهم أفكار جديدة وقدرات جيدة".
بعد هذه المقابلة بعامين، وفي آخر مرة حضر أمير قطر الاجتماع السنوي للجمعية العامة في الأمم المتحدة رئيسًا لوفد بلاده، كتب في السجل الرسمي للزوار أن هذه آخر مرة يقوم فيها بتلك المهمة. وهي عبارة لم يفسرها وقتها أحد!
صحيح أن الشيخ حمد، البالغ من العمر الآن سبعين عامًا، يعاني من مشاكل صحية منذ كان أميرًا، ومنها زرع الكلى مرتين، لكنها مشاكل كانت معروفة ولم تمنعه حتى يوم افتتاح بطولة كأس العالم من حضور حفله والوقوف، ولو متكئًا على عصا، لمصافحة زعماء العالم الحاضرين، ومنهم الرئيس السيسي.
مثلما لم تمنعه تلك المتاعب في عام 2010 من حضور حفل إعلان نتائج اختيار قطر مضيفًا لكأس العالم بموافقة 14 من بين 22 صوتًا. أمريكا خسرت آنذاك المنافسة لاستضافة الكأس لعام 2022 وخرجت وزارة العدل الأمريكية لتعلن بعد ذلك أن لديها دلائل على دفع رشاوى لمسؤولي اتحاد الكرة العالمي فيفا من روسيا وقطر، للفوز باستضافة كل منهما بطولتي 2018 و2022.
إذن الربيع العربي الذي دعمته قطر إعلاميًا منذ عام 2011، حاول حاكم قطر أن يطبقه مبكرًا بتغيير القيادة ولكن ليس بإرادة شعبية او انتخابات أو مشاركة في الحكم، ولكن بتسليم حكمه لابنه طوعيًا. وربما يكون هذا من باب إبراء الذمة السياسية لتبرير دوافع انقلابه على حكم أبيه باستيلائه على حكم الإمارة صيف عام 1995 بينما كان أبوه، الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني (1932-2016)، في زيارة خارج البلاد، بعد أن استمر في السلطة 23 عامًا.
حتى الأب، أو جد الأمير الحالي، أي الشيخ خليفة فقد استولى بدوره على السلطة بانقلاب سلمي سابق عام 1972 على ابن عمه الشيخ أحمد بن علي (1920-1977) الذي حكم قطر 12 سنة منذ عام 1960.
أراد الأمير "الوالد" حمد بن خليفة بعد 18 سنة في الحكم أن يتنازل سلميًا عن الحكم لابنه، وكأنه ينهي سلسلة مفرغة من انقلابات الابن على أبيه وابن العم على ابن عمه. بل وحرص على أن يأخذ معه خارج الحكم رفيقه في الوصول للسلطة: رئيس وزرائه ووزير خارجيته حمد بن جاسم آل ثاني، وهو ابن عمه الذي كان في منصب الوزير منذ عام 1992 أي في السنوات الثلاث الأخيرة للأمير السابق حتى الانقلاب عليه عام 1995، وبعدها حتى تسليم الأب الحكم لابنه عام 2013.
كأن الأب يخشى على ابنه الأمير الجديد الشاب من أن يطيح به عمه رئيس الوزراء المحنك فأخذه معه، مثلما تغير كل وزراء الأمير الوالد ليأتي الأمير تميم بوزراء من الشباب مثله كوزير خارجيته محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. لكن باستثناء واحد!
أصبح الأمل المتاح لنا نموذجه الآن في قطر: وهو على الأقل، ألا يبقى أمير أو رئيس يحكم بلده عشرين أو ثلاثين عامًا أو تزيد، بمرض أو خَرَف أو بعناد
شخص واحد بقي في منصبه حتى الآن من أبناء عم الأمير الوالد وظل يدير أحد أهم ملفات قطر للأمير الابن تميم، الذي هو في سن أبناء هذا المسؤول؛ ألا وهو الشيخ حمد بن تامر آل ثاني رئيس مجلس إدارة الجزيرة منذ إنشائها عام 1996 أي بعد عام واحد من تولي الشيخ حمد بن خليفة حكم قطر!
لقد ألغى حمد بن خليفة عند توليه الإمارة منصب وزير الإعلام الذي استحدثه والده عام 1972 ولكن أعطى صلاحيات الإعلام، منذ تولي الحكم، خصوصًا سلاح الجزيرة النافذ، لشخصية تنطبق عليها الصفات التي وجدها الأمير في ابنه تميم فأعطاه السلطة بدلًا من أخيه جاسم، وهي كما وصفها لصحيفة فاينانشيال تايمز عن تميم بأنه يعمل بدأب وفي الظل، خلافًا لوزير خارجيته حمد بن جاسم.
بالفعل، أبقى الأمير تميم على العقل المدبر والمُسيّر للجزيرة والإعلام القطري حتى الآن بكل هدوء، ودون أن يعرفه أغلب من يعرفون الجزيرة ويكتبون عنها.. فذلك الغموض أو الابتعاد عن الضوء والضوضاء مصدر قوته وبقائه في منصبه!
لا ننسى أيضًا أن حمد بن خليفة حرص على مصالحة والده، الذي أصبح بعد الانقلاب عام 1995 يعيش في المنفى ما بين السعودية والإمارات يبحث عن طريقة لاستعادة حكمه دون جدوى، وذلك بعد عدة مقابلات جمعت الابن بأبيه في أوروبا، عاد بعدها لقطر عام 2004 حتى توفي بها بعد 12 عامًا، أي بعد ثلاث سنوات من تنازل ابنه حمد عن الحكم طواعية للحفيد تميم!
لكن يبقى التساؤل عما إذا كان كل ما تبقى لنا من أمل في تداول السلطة سلميًا في عالمنا العربي هو هذا النموذج القطري في التنازل الطوعي لأمير أو ملك أو حتى رئيس عربي يحكم شعبه بشكل مطلق، دون مشاركة شعبية "حقيقية"؟ أي طالما أنه لا يبقى في السلطة أكثر من 18 عامًا، أي بافتراض أنها ثلاث فترات رئاسية، مدة كل فترة ست سنوات، أسوة بالدساتير "الاستثنائية" لرؤساء "الضرورة"!
بالطبع، لا.. ليس هذا المنتهى. لكن هذا هو المتاح سلميًا في عالمنا العربي الآن خصوصًا في أنظمة الحكم الملكي الوراثي المطلق. إنه البصيص الأشبه بثقب ضوء ينفذ إلى عالمنا الحديدي من أبواب موصدة لزنزانات مظلمة على شعوب عالمنا العربي المقموعة!
أصبح الأمل المتاح لنا نموذجه الآن في قطر: وهو على الأقل، ألا يبقى أمير أو رئيس يحكم بلده عشرين أو ثلاثين عامًا أو تزيد، بمرض أو خَرَف أو بعناد، دون أن يسلم السلطة سلميًا مبكرًا لمن يرى فيه أفضل لحكم البلاد، ولو لمجرد أنه ابنه وشاب كُفء.
إنها ضرورة التغيير، فلا حاجة لحكام ملهِمين حتى لو كان الحاكم الأب في قطر قد استطاع أن ينهض ببلده في 18 عامًا ليزيد متوسط دخل الفرد فيها من 15 ألف دولار سنويًا إلى مائة ألف، ويجعل إعلامها يصل كل بيت عربي، سواء كرهه أو أحبّه، ثم يجعل بلده الذي لا يزيد سكانه عن ثلث المليون نسمة، مَضيفًا لكأس عالم يحضر إليه أكثر من مليون زائر، ويشاهده نحو خمسة مليارات من كل انحاء العالم.
افعلوها حكامنا و تنحّوا.. وسنُقبّل بعدها أياديكم أمام كاميرات العالم!