لنتصور للحظات أن انتخابات نزيهة (والعياذ بالله) أنتجت حكومة في العالم العربي تضم وزراء من غلاة المتطرفين دينيًا الذين يدعون صباحًا مساءً لقتل اليهود ويعيدون ويزيدون من الأحاديث النبوية الضعيفة، التي تزعم أن من علامات الساعة أن ينطق الحجر ليدل المقاتل المسلم على أن وراءه يهودي، "تعالى فاقتله".
وماذا لو كان قد سبق وأن جمع هؤلاء الغلاة التبرعات لدعم جماعات إرهابية تقتل اليهود، بل تولوا الدفاع عنهم أمام المحاكم وتمجيد جرائمها؟ حينها، ماذا سيكون رد فعل العالم الغربي "المتحضر" الأبيض الديمقراطي الداعي لحماية حقوق الإنسان؟
ستقوم الدنيا ولن تقعد، وتُفرض العقوبات على الدولة التي تنتمي لها الحكومة؛ وتحاصر مع الدعوة علنًا لإسقاطها بدعوى أنها تمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، والأهم أمن وسلامة الدولة الجميلة المسالمة واحة الديمقراطية ورمز التقدم الإنساني، إسرائيل المعجزة.
هذا ليس كلامًا نظريًا، بل واقع عملي تعرضت له حركة مثل حماس التي تصنفها الولايات المتحدة "جماعة إرهابية"، بعد فوزها في الانتخابات الفلسطينية 2006. كذلك رئيس وزراء النمساوي الراحل يورج هايدر رئيس حزب الحرية اليميني المتشدد، الذي دُفع للاستقالة 2000 لتبنيه آراء تمجد الحقبة النازية وتدعم نظرية "تفوق العرق الأبيض" العنصرية.
لكن الداهية بنيامين نتنياهو "ملك إسرائيل" العائد بقوة ليترأس الحكومة لفترة سادسة لن يضم في وزارته فقط إرهابيين متطرفين و منتمين لجماعات تعتبرها الولايات المتحدة نفسها، داعم إسرائيل الأول، إرهابية، لكنه سيضم أيضًا وزراء فاسدين سبقت إدانتهم بتلقي الرشاوى وقضاء شهور طويلة في السجن.
ليس هذا أمرًا مستغربًا، فنتنياهو فاز في الانتخابات وهو يواجه المحاكمة مع زوجته سارة المحبة للرفاهيات، بسبب اتهامات بالفساد. وبجانب كل تعقيدات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأبعاد الإقليمية والدولية لتشكيل هذه الحكومة المتطرفة التي لا يعرف أحد كيف سيتم التعامل معها، فإن نتنياهو يأمل في التمكين من تمرير تعديلات تشريعية تمنحه حصانة من الملاحقة القضائية أثناء شغله منصب رئاسة الوزراء.
"يوم أسود لإسرائيل"، "نهاية التعايش بين اليهود والفلسطينيين"، "الحكومة الأكثر تطرفًا/ يمينية في تاريخ الدولة اليهودية"، كانت هذه عناوين لصحف إسرائيلية وأمريكية وغربية بعد إعلان فوز التحالف الذي شكله نتنياهو بغالبية مريحة، 64 مقعدًا، بعد أربع انتخابات متتالية أنتجت برلمانًا منقسمًا غير قادر على تشكيل حكومة تكمل فترتها كاملة لمدة أربع سنوات.
الشخص الأكثر إثارة للجدل في الحكومة المتوقعة، والمرشح لمنصب وزير الأمن الداخلي هو إيتمار بن غفير، نائب الكنيست الحالي الذي اكتسب شهرته من تاريخه المتطرف الذي بدأه مبكرًا، ما دفع الجيش الإسرائيلي نفسه إلى رفض تجنيده في إجراء استثنائي للغاية في دولة يجب على كل سكانها الانضمام للجيش عند بلوغ سن الثامنة عشر.
وانضم بن غفير لحركة كاخ الإرهابية التي ترأسها الحاخام الشهير مائير كاهانا الداعي للتطهير العرقي وجعل إسرائيل دولة يهودية خالصة خالية من الفلسطينيين، ليس فقط الخاضعين للاحتلال في الضفة الغربية والقدس وغزة منذ 1967، بل من الفلسطينيين سكان المناطق الخاضعة للضم منذ 1948 والذين يوصفون خطأ بـ"عرب إسرائيل" في محاولة فاشلة لطمس هويتهم الفلسطينية.
ويرى محللون إسرائيليون أنه من ضمن النقاط التي استغلها بن غفير وأحزاب اليمين للفوز اتهام الحكومة السابقة برئاسة يائير لابيد أنها اعتمدت في بقائها على تحالف أقامته مع حزب إسلامي من مناطق 1948 يترأسه النائب منصور عباس عن القائمة العربية الموحدة، تحت شعار "لقد نلنا ما يكفي" We have had enough، على اعتبار أن مثل هذه التحالفات تضرب في مقتل فكرة نقاء الدولة اليهودية.
يفتخر بن غفير بعلاقته الشخصية مع الإرهابي باروخ جولدشتاين منفذ مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل 1996، حيث قتل 29 فلسطينيًا أثناء صَلاتهم، لدرجة تعليق صورتهما معًا على جدار منزل النائب، الذي اكتسب شهرة إضافية في السنوات الأخيرة بسبب إصراره على اقتحام حرم المسجد الأقصى بصحبة متطرفين يهود، والإصرار على الصلاة هناك.
وعندما اعترض سكان حي الشيخ جراح في القدس في بداية العام على إزالة منازلهم، أصر بن غفير على إقامة خيمة له في الحي وكان يذهب للتشاجر مع الفلسطينيين شاهرًا مسدسه في وجوههم.
كما كان يحرض جنود جيش الاحتلال على إطلاق الرصاص ردًا على الحجارة، مرددًا أن الحجارة إرهاب لا يقل خطره عن الرصاص. وعندما أحرق متطرف يهودي منزل عائلة الدوابشة الفلسطينية وقتل طفلًا لم يتجاوز الأعوام الأربعة، كان بن غفير المحامي المفوه لذلك الإرهابي.
وفي هذا السياق، لم تمانع حرم نتانياهو، سارة، من استقبال زوجة بن غفير في مقر منزل اﻷولى ضمن وفد ضم زوجات قادة الأحزاب التي فازت في الانتخابات الأخيرة التي جرت مطلع الشهر الجاري، بينما آيالا بن غفير، تحيط خصرها بحزام يحمل مسدسًا.
وعندما أثارت هذه الهيئة تحفظ بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، استهزأت آيالا وقالت "هذا أمر طبيعي يجب أن يتعايشوا معه بحكم أنها زوجة أكثر رجل معرض للتهديد في إسرائيل" ويعيشان معًا في مستعمرة كريات أربع جنوب الخليل.
لكن بن غفير ليس المتطرف الوحيد الأكثر إثارة للقلق في الحكومة المتوقعة لنتنياهو. فهناك أيضًا بتسلئيل سموتريتش رئيس حزب الصهيونية الدينية، المنتمي له بن غفير، والذي يعطل تشكيل الحكومة برئاسة نتانياهو حتى الآن بسبب إصراره على تولي منصب وزير الدفاع.
الصحف الإسرائيلية والأمريكية قالت إن واشنطن أبلغت تل أبيب أنها لن تستطيع التعامل مع شخص مثل سموتريتش في مثل هذا المنصب الحساس في ضوء العلاقات العسكرية المتشابكة والعميقة بين البلدين.
سموتريتش، الذي سبق أن دعا إلى فصل الأمهات الفلسطينيات عن الأمهات اليهود في أجنحة الولادة في المستشفيات العامة، عرض عليه نتنياهو وزارة المالية بدلًا من الدفاع، بجانب السماح لأحد أعضاء حزبه بتولي منصب وزاري في مكتب رئيس الوزراء يتابع أوضاع المستوطنات وتوسيعها في الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية.
أما منصب وزير الدفاع فيفضل نتنياهو أن يذهب لرئيس حزب شاس اليهودي السلفي اريه درعي، الذي سبق أن أدين بالرشوة في العام 2002 وقضى نحو عامين في السجن. كذلك أدانته محكمة إسرائيلية قبل شهور بالتهرب من الضرائب وحكمت بسجنه لمدة عام مع وقف التنفيذ.
وللتحايل على القانون الإسرائيلي الذي يمنع المدانين بحكم جنائي من تولي أي مناصب عامة لسبع سنوات، فإن من ضمن أولويات نتنياهو بعد السيطرة على الكنيست تمرير تعديل تشريعي يسمح لهؤلاء تولي المناصب، وهو ما ترفضه محكمة العدل العليا أي الدستورية.
لا شيء يعطل التحالف اليميني برئاسة حزب الليكود، وهم الآن بصدد تمرير تعديلات تسمح للبرلمان برفض أحكام المحكمة الدستورية نفسها في تطور يهدد أي استقلالية نظرية لأعلى مؤسسات القضاء.
بعض المحللين يرون أن نتنياهو المعروف بدهائه السياسي يحاول التقليل من تغول حلفائه المتطرفين في الحكم، على الأقل حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة في العام 2024 على أمل هزيمة المرشح الديمقراطي جو بايدن وعودة حليفه اللصيق الجمهوري دونالد ترامب للحكم.
للأسف من سيدفع الثمن الأكبر كالمعتاد سيكون الفلسطينيين أنفسهم بينما لن ينالهم من العرب والمسلمين والديمقراطيين في أمريكا سوى بيانات الشجب والإدانة
المؤكد أن حلفاء نتنياهو لن تهمهم أمريكا أو غيرها، ويرون أن الوقت الحالي، اﻷفضل من أجل قتل فكرة الدولة الفلسطينية تمامًا والتوسع في بناء المستعمرات وتهويد القدس المحتلة.
فغالبية الدول العربية منشغلة أزماتها الداخلية، بما في ذلك التهديد لوجود هذه الدول نفسها كما هو حال سوريا واليمن وليبيا والعراق ولبنان. كما ينشغل العالم بتوابع غزو روسيا لأوكرانيا والمواجهة المتصاعدة بين أمريكا والصين. ويعتقد نتنياهو ان أهم ما أنجزه بالتعاون مع ترامب، هو نسف الربط الذي تمسك به العرب لعقود والقائم على ربط التطبيع بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وقال "لقد تمكنا من الالتفاف حول الفلسطينيين" وتجاوزهم.
لكن ماذا سيفعل قادة دول الاتفاقات الإبراهيمية العربية عندما تندلع انتفاضة جديدة تبدو وشيكة ليس فقط في الضفة وغزة والقدس، لكن كذلك في المدن الفلسطينية المحتلة منذ عام 1948؟ هل سيجري استقبال بن غفير وسموتريتش في أبو ظبي والمنامة والدار البيضاء والخرطوم بالحب والترحاب رغم دعواتهم العلنية لقتل الفلسطينيين؟ كيف ستتعامل إدارة بايدن "الديمقراطية" مع حكومة من اِلإرهابيين والمرتشين؟
للأسف من سيدفع الثمن الأكبر كالمعتاد سيكون الفلسطينيين أنفسهم بينما لن ينالهم من العرب والمسلمين والديمقراطيين في أمريكا سوى بيانات الشجب والإدانة، والدعوة للاستمرار في وهم ما كان يسمى بحل الدولتين، وذلك لأن الحكومة المتطرفة في إسرائيل ستلغي هذا البديل رسميًا إذا قررت، كما يتوقع كثيرون، إعلان ضم الضفة الغربية لأراضيها كما هو حال القدس والجولان.