أثناء قرائتكم لهذه السطور وصل تعداد سكان الكرة الأرضية إلى ثمانية مليارات نسمة وبضع عشرات، بحسب إعلان الأمم المتحدة. مبروك علينا!
المفارقة أن البشرية احتاجت إلى 300 ألف سنة لتصل إلى المليار الأول، ومئة سنة أخرى لتصل إلى ملياري نسمة، لكن الطفرة في الخصوبة التي شهدها العالم في خمسينيات القرن الماضي غيرت المعادلة. بدأت الزيادة السكانية في الأمريكيتين وأوروبا، وهو أمر مفهوم بعد الحرب العالمية الثانية، مع الحاجة لتعويض خسائرها البشرية، ليتحول ذلك النمو بعدها إلى آسيا، بداية من الصين ثم الهند، التي يتخطى تعداد السكان في كل منهما المليار نسمة.
ساهمت عوامل كثيرة في تلك الزيادة، منها تقدم الطب ونجاحه في القضاء على الكثير من الأمراض التي طالما فتكت بالبشر على مر التاريخ، وبالتالي زيادة عدد وصحة المواليد وتمكينهم من الوصول لسن البلوغ والإنجاب، بالإضافة إلى زيادة معدل عمر الانسان بشكل عام.
وتشير الأرقام اليوم إلى أن واحدًا من بين كل عشرة أشخاص يبلغ من العمر 65 عامًا، وستصبح هذه النسبة واحدًا من بين كل ستة أشخاص سنة 2050. وأن التعداد السكاني سيستمر في الازدياد ليقارب التسعة مليار نسمة في العشرين سنة القادمة. لكن المليار الأخير قبل العشرة سيحتاج إلى مئة سنة أخرى!
هذا لأنه وبحسب تحليلات الأرقام، فإن عدد البشر سيبدأ بالتراجع.
مع الطفرة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ازدادت فرص التعليم أمام المرأة، في الغرب تحديدًا وبمعدلات أقل في الدول التي تعاني من الإفقار. وبالتالي أثر خروجها إلى مجالات العمل المختلفة على معدلات الإنجاب، التي تراجعت من خمسة أطفال في الستينيات إلى 2.4 في العام الحالي.
وهناك دول كالولايات المتحدة يصل فيها معدل الخصوبة إلى 1.6 فقط، بينما النسبة المطلوبة للحفاظ على النمو السكاني بمعدل صحي هو 2.1. حتى في الصين التي طبقت لعقود طويلة سياسة صارمة للحد من الإنجاب، يتراجع فيها الآن معدل الخصوبة رغم رفع القيود، لتصبح كاليابان التي تعاني من تراجع ونقص في عدد سكانها.
وغني عن الذكر، فإن هذه الأرقام تشير إلى أنه كلما تقدمت المجتمعات ودخلت ركب الحداثة، تراجعت فيها الخصوبة وزادت إنتاجيتها، ما يعني أن الدول التي تخلَّفت عن ذلك الركب ستستمر فيها الزيادة، كما تشير الأمم المتحدة في تقريرها الأخير. ويمكن لنا أن نتصور شكل عالمنا في المئة سنة القادمة دون الحاجة إلى الكثير من الخيال، يكفي أن نقرأ الأرقام لنتأكد من أن الهوة في التوزيع العادل للثروات ستزداد اتساعًا.
يترك العدد الحالي للبشر وغياب عدالة التوزيع آثارهما على مقدرات الكرة الأرضية المستنفدة أصلًا لتلبية الطلب المتزايد عليها، من مصادر طاقة وغذاء ومساحات للعيش والزراعة والحفاظ على التوازن البيئي، العامود الفقري لبقائنا. ففي الوقت الذي يستهلك فيه الإنسان العادي 50% فوق احتياجاته من مقدرات الأرض، تزيد معدلات استهلاك المواطن الأمريكي خمس مرات عنه، فالاستحمام بماء ساخن في البانيو يختلف كثيرًا عن الاستحمام بالطشت والكنكة!
تاريخ وجود نوعنا على هذا الكوكب لا زال في طور المراهقة قياسًا بعمر الأرض، ولا زالت تفصلنا مئات، وربما آلاف السنين، للوصول إلى مرحلة النضج والإدراك
غياب العدالة هذا نعيشه اليوم وتقام له المؤتمرات والخناقات، ويعلو فيها الصراخ ويسمونها قمم المناخ أو قمم الاقتصاد أو قمم الصحة، في محاولة للحد منه ودفع الدول الأكثر استهلاكًا للطاقة وأكثر تلويثًا للبيئة لتحمل مسؤولياتها وتخفيف العبء عن كاهل الدول المُفقرة، لإنها دول مُفقَرة وليست دول فقيرة بل غنية بالموارد الطبيعية والبشرية ولكنها تعاني من سياسات الإفقار. بينما ما يتم إحرازه على صعيد تقليل الفجوة قليل جدًا مقارنة بحجم الخراب الحاصل.
ومع شُح الموارد، علينا توقع المزيد من الصراعات والحروب، وستكون المياه ومصادرها السبب الأول لتلك النزاعات مع زيادة التصحر والاحتباس الحراري. وكالعادة ستدفع الدول المُفقَرة الأثمان العالية، كما يحدث في الصومال الذي يواجه مجاعة هي الأخطر في تاريخه، وبينما تناور الدول الأوروبية والولايات المتحدة على المزيد من الامتيازات لبلدانها يواجه أربعة مليون صومالي الموت جوعًا وعطشًا.
ولنفترض أن الدول الغنية المستغّلة لثروات العالم التزمت بواجباتها البيئية والغذائية، فما هي الخطط التي تضعها بلداننا لمواجهة ما لا بد منه؟
مع درايتها الكاملة لما يتجه نحوه العالم، لازالت دولنا، وأقصد بها جميع دول جنوب الكرة الأرضية، عاجزة عن إدارة مواردها الغنية واستغلالها بما يعود بالنفع على شعوبها، وعلى العالم عمومًا. وغير قادرة على استغلال الطاقات البشرية لديها مع غياب برامج التنمية والتعليم، وحتى التعويضات التي تطالب بها من الدول المصنعة لترميم الآثار البيئية لديها، من يضمن وصولها إلى وجهتها الصحيحة وأنها لن تنتهي في الحسابات السرية الخاصة للحكام وأعوانهم وميليشياتهم؟ للأسف لا ضمانات!
رغم توقعات الأمم المتحدة بأن النمو السكاني سيصل إلى مرحلة يبدأ بعدها بالتراجع بعد مئة عام، لكن مع غياب التوازن سيعاني هذا العالم من اختلالات أخرى، عالم تسوده الصراعات على ما تبقى لدينا من كرم الطبيعة، عالم مقسم إلى أول وعاشر.
يردد الجزء الواعي من عقلي "أن الجنس البشري لا أمل فيه"، لكن الجزء الحالم يتخيل عالم سيصل به البشر إلى إدراك حقيقة أننا لن ننجو فرادى، وأن وعي العقل الجماعي وإدراكه لهذه الحقيقة هو الطريق إلى الخلاص.
متى؟ أكيد ليس الآن. لأننا لم نتعلم الدرس بعد، تاريخ وجود نوعنا على هذا الكوكب يمكن القول إنه لا زال في طور المراهقة قياسًا بعمر الأرض، ولا زالت تفصلنا مئات، وربما آلاف السنين، للوصول إلى مرحلة النضج والإدراك. ولحين تحقق ذلك لا بد أن نعيش الدروس القاسية ونصل إلى عنق الزجاجة مرات ومرات قبل الخروج إلى البراح.