حين وصلت إلى لبنان في زيارة سريعة، كان رئيسه ميشيل عون ترك منصبه بنهاية فترته لست سنوات، منتقلًا من قصر الرئاسة إلى منزله، أو قصره الخاص الجديد، الذي يصر الرئيس المنصرف أنه بناه من عرق جبينه، ردًا على المشككين في ذمته المالية!
استغربت كيف يمكن لدولة أن تبقى بدون رئيس، ولو كانت السلطة مقسمة بين ثلاثية رئيس الجمهورية، المسيحي الماروني شأنه شأن قائد الجيش، ورئيس الوزراء، المسلم السني، ورئيس البرلمان، المسلم الشيعي. كيف تبقى دون تكليف الرئيس لحكومة تصريف أعمال، بينما الفرقاء مختلفون فيما بينهم سواء في الحكومة أو البرلمان.
كما أن البرلمان، الذي ينتخب الرئيس بأغلبية ثلثي أعضائه، لم يتمكن خلال الشهرين الأخيرين من نهاية فترة الرئيس عون، من انتخاب رئيس جمهورية جديد بتلك الأغلبية الساحقة. أما الانتخابات العامة فهي للبرلمان، ولن تتم قبل موعدها المقرر في شهر مايو/ أيار القادم!
لم يشاركني أحد من اللبنانيين الذين التقيتهم، أو تحدثت معهم بشكل عابر في الشارع أو التاكسي، الاستغراب أو القلق لعدم وجود رئيس! فقد تعودوا على "الفراغ" الحكومي وليس فقط الرئاسي، وذكّروني بأن لبنان بقي بدون رئيس لسنتين وشهرين قبل تولي الجنرال عون الرئاسة في أكتوبر/ تشرين الأول 2016.
نادرًا أن ترى شرطيًا في الشارع، وإن وجدت رجل مرور فصدفة عند تقاطع من بين عشرة تمر بها، لأن أحدًا لا يريد التوقف عند إشارة مرور أو يتردد في المرور بسيارته أو التاكسي بالاتجاه المعاكس لشارع ضيق له حارة واحدة!
فعندما يبلغ راتب رجل الشرطة من 70 إلى 100 دولار فقط، لا تتوقع منه أن يعمل سوى ليوم واحد في الأسبوع ويذهب بقية الأيام للعمل بمطعم أو مقهى لتوفير الكفاف لأسرته. أما القضاة فلم يعجب كثيرون منهم عدم الاكتراث بتحسين أوضاعهم، فأضربوا عن العمل. وابحث أنت عمن يدخلك سجنًا أو يخرجك منه بعد نهاية عقوبتك!
قال لي سائق تاكسي إن المثل الشعبي يقول عندهم "لا تَعلَّق حالك بحكومة أو بحكيم (طبيب)".
لم يتغير الراتب الشهري للشرطي اللبناني بالليرة، بل تغيرت قيمتها الشرائية محسوبة بالدولار الأمريكي الذي لم يرتفع. انخفضت العملة اللبنانية نتيجة الفشل الاقتصادي للدولة والاستدانة لدفع أقساط الديون السابقة.
كان الدولار، ولأكثر من عقدين من الزمن، منذ اتفاق الطائف عام 1989 وحتى ثلاث سنوات فقط، يساوي 1500 ليرة. وكان يمكنك من أي بنك أو صرافة أو حتى محل بقالة أن تصرف بالدولار أو الليرة حتى عام 2019.
بعد ذلك انكشف المستور.. لكن بعد فوات الأوان لأغلب المواطنين، وغيرهم من خارج لبنان، ممن أودعوا أموالهم في البنوك اللبنانية سواء كنقود سائلة أو سندات، عندما أعلنت البنوك عدم قدرتها على إرجاع ما لديها من مدخرات وودائع سواء بالليرة أو الدولار.
كم تبلغ قيمة الليرة مقابل الدولار؟ كل يوم أو ساعة تختلف الإجابة و الوضع، وستعرف ذلك عند ملء خزان وقود سيارتك. ليس بسبب تغير سعر البنزين بل لتغير سعر الليرة أمام الدولار!
كان البنك مصرًا حتى أشهر قريبة على أن الدولار يساوي رسميًا ألف وخمسمئة ليرة، لكنه رغم ذلك لن يبيعك دولارًا واحدًا. لماذا؟
لأن سعر الدولار وصل إلى أربعين ألف ليرة، اشتريته حين وصلت بـ 35 ألفًا بعد منح وسيط الفندق عمولته. والنصيحة التي يقولها لك الجميع: إياك واستخدام بطاقة ائتمان، بالدولار أو غيره، في أي مكان، لأنهم سيحاسبونك بالدولار أو ما يعادله في بلدك، بينما بحساب الآن يساوي أربعة أضعاف السعر القديم، أي أن الدولار الواحد يغيره لك البنك بثمانية آلاف ليرة.
فلو تكلفة توصيلة التاكسي بمائة وخمسين ألف ليرة، سيخصمون من حساب بطاقتك، لو قبلوها، مايقرب من تسعة عشر دولارًا أو مايعادلها بعملة بلدك. بينما لو حوّلت دولاراتك من الصرافة الخاصة والسوق العلنية، وليست السوداء، ودفعت نقدًا بالليرة، فستدفع للتاكسي قرابة أربعة دولارات على المشوار، وتوفر 15.
النتيجة: لا أحد أصلًا يقبل الدفع ببطاقات الإئتمان، لا بالدولار ولا بالليرة، فلم يعد أحد يأمن البنك. وعليك أن تحمل حقيبة أو مظروفًا كبيرًا تضع فيه ملايين الليرات لتدفع كل تعاملاتك نقدًا. حتى مقهى ستاربكس الأمريكي، المعروف في كل فروعه بأمريكا بلافتة No Cash لضمان عدم التلاعب، لايقبل في بيروت إلا الدفع نقدًا.
تصور أيضًا لو كان راتبك الشهري كرجل شرطة قديم التعيين بالليرة، كان يمكنك تغييره فتحصل على ألف وخمسمائة دولار. الآن أصبح راتبك بعد ثلاث سنوات من التعويم، سواء غيرته في محال الصرافة أو بقدرته الشرائية: مائة دولار فقط لا غير!
هذا هو التعويم الحقيقي وليس التدرج في تخفيض العملة كما بدأ يحدث لدينا في مصر!
كيف بلغت الليرة هذا القاع؟
لن نذهب بعيدًا فنتحدث عن رؤية الحريري الأب، بدعم مالي سعودي وخليجي، عقب انتهاء الحرب الأهلية بإعادة بناء باريس الشرق في لبنان، وناطحات السحاب، والطرق السريعة، والتطوير العقاري للتغطية على الفقر والقبح، ولجذب الاستثمارات.
فالدعم المالي الخليجي لم يدم، وخصوصًا مع تنامي قوة حزب الله سياسيًا بعد تصدره الساحة ضد اعتداءات إسرائيل عام 2006. وزاد الربيع العربي بعد 2011 الوضع سوءًا لمعاقبة النظام السوري من خلال لبنان، وتزايدت ديون الدولة اللبنانية وإنفاقها بلا حساب، معتمدة أيضًا على السياحة وتحويلات اللبنانيين بالخارج لذويهم وأرصدتهم بالداخل.
في عام 2016 ولتعويض نقص الاحتياطي النقدي الأجنبي، بدأ محافظ البنك المركزي اللبناني المخضرم بمنصبه منذ عام 1993، والذي أصبح سابقًا، بإغراء مستثمري العالم بشراء سندات مصرفية من لبنان وبنوكها بأسعار فائدة لا تُقاوم، ليس فقط بالليرة ولكن حتى بالدولار. وصلت الفائدة على الودائع نحو 9% حين كانت فوائد البنوك الأمريكية نفسها 1% فقط.
بدأت المأساة واستمرت على مدى ثلاث سنوات. أموال اللبنانيين في الخارج والعرب والأوروبيين تريد مكاسب سريعة، مع عملة ثابتة مقابل الدولار منذ أكثر من عشرين عامًا!
من جانبه، أخذ البنك المركزي ودائع البنوك الخاصة لديه وأعطاها عائدًا أعلى مما تدفعه لعملائها لمزيد من تدفق العملة الأجنبية، التي كان أكثر من ثلثها يذهب فقط لتسديد أقساط الديون السابقة. وهكذا، قروض لدفع قروض حتى جاءت لحظة الحقيقة.
في أواخر 2019 بدأ عدم تسديد ديون مستحقة لسندات داخلية بثمانية مليار دولار، ثم عدة مليارات للأوروبيين. وقبل أن ينتبه العالم واللبنانيون لما يحدث، سارع النافذون من السياسيين وزعماء الطوائف والمقربون من رجال الأعمال بسحب نحو عشرة مليارات دولار قبل الإفلاس وإغلاق البنوك أبوابها وإعلان عدم قدرتها على الدفع لأحد، حتى من يملك مدخرات في حساب جارٍ. لا يوجد دولار نعطيه لك، ولا نستطيع إعادة كل ليراتك المودعة!
القصص كثيرة ودامية عما حدث بين المواطنين والبنوك، أشهرها منذ نحو شهرين قصة الشابة اللبنانية سالي حافظ التي تعبت من الإلحاح وإرسال وسطاء لمدير البنك ليفرج عن مدخرات حياتها، وكانت عشرين ألف دولار، لا لشيء إلا لعلاج أختها المريضة بالسرطان، ودون جدوى. فاقتحمت البنك وهي ملثمة ومعها ما يشبه المسدس، فخاف الموظفون وأخرجوا كل ما بخزنتهم، وكانت 13 ألف دولار فقط. خرجت بها وسط تصفيق وهتاف المتجمعين في الشارع تحية "لرجولتها" ضد دولة نهبتهم علنًا.
سلّمت سالي نفسها بعد أسبوعين، فأفرج عنها القاضي بكفالة، وخرجت تحكي للتليفزيون قصتها. كانت محظوظة بوجود قاضٍ غير مضرب عن العمل، يشعر كمواطن بأنه بالمثل ضحية لاستعباط الدولة. (ملحوظة: مجمع اللغة العربية في مصر أجاز لغويًا منذ أيام استخدام كلمة "عبيط" ومشتقاتها في حياتنا من "استعباط"!).
مقابلة سالي حافظ مع قناة الجديد اللبنانية
لحظة الحقيقة
بعد تخفيض قيمة الجنيه المصري، ولا أقول زيادة قيمة الدولار، في عام 2016 من 8.8 جنيه للدولار إلى 16 جنيهًا لإصلاح اختلال ميزان المدفوعات، واصلت الحكومة قروضها لمشاريع التطوير العقاري وجذب الأموال الساخنة من المضاربين في الخارج ومدخرات المصريين بأسعار فائدة "مضمونة" بدلًا من استثمارها في مشاريع اقتصادية. ووفرت الدولار بالسعر الذي لم يعد يعبر عن قيمته الحقيقية، حتى اقتربنا من لحظة الحقيقة فهرب بسرعة عشرون مليار دولار من الأموال الساخنة بمجرد أن "شمّوا" خبر التخفيض التالي.
هذه المرة، يريد صندوق النقد الدولي التأكد من عدم معاودة الحكومة لدعم سعر الجنيه ومراجعة قيمته الشرائية الحقيقية، لينزل تدريجيًا إلى مرحلة التعويم. نحن في المراحل الأولى من عملية تخفيض قاسية على الموظفين وثابتي الدخل، وليس فقط محدودي الدخل، ولا أحد يعلم متى سنصل إلى التعويم الحقيقي، مثلما لم يقل لنا أحد متى سيمكن للدولة إصلاح موازنتها قبل أن يلحق الجنيه بالليرة.