وصلت العلاقات الأمريكية السعودية إلى الحضيض عمليًا وسط تبادل غير مسبوق للاتهامات بين كبار مسؤولي البلدين، بعد قرار منظمة أوبك+ الأخير بخفض انتاجها بمقدار مليوني برميل، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط في العالم، قبل أسابيع فقط من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي مطلع الشهر المقبل، التي ستحدد نتيجتها قدرة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن على تمرير سياساته في العامين المقبلين.
إدارة بايدن تعاملت مع القرار على أنه إهانة شخصية للرئيس الأمريكي، ودعم مباشر لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون إلى خنقه وهزيمته منذ قراره شن الحرب على أوكرانيا قبل ثمانية أشهر، وضم أربع مقاطعات أوكرانية للأراضي الروسية، وتلميحاته المتكررة إلى استعداده لاستخدام الأسلحة النووية، خاصة بعد سلسلة هزائم تلقتها قواته في الأسابيع الأخيرة.
كان بايدن اضطر إلى "ابتلاع لسانه" والتراجع عن تعهدات قدمها في حملته الانتخابية، بعزل المملكة وتحويلها إلى "دولة منبوذة" بسبب الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، وتحديدًا مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان شخصيًا عن قتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في اسطنبول قبل أربع سنوات.
وفور وصوله لمنصبه قبل عامين، اتخذت إدارة بايدن قرارات بوقف توريد أسلحة أمريكية قد تستخدمها السعودية في حربها في اليمن، وألغت قرارًا أصدره الرئيس السابق دونالد ترامب باعتبار الحوثيين في اليمن "منظمة إرهابية"، كما أعلنت استئناف المفاوضات مع إيران لإحياء الاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب إرضاءً لحلفائه المقربين في الرياض وأبوظبي وتل أبيب.
ولكن مع انطلاق الحرب الروسية ضد أوكرانيا، أدرك بايدن سريعًا أنه في حاجة إلى حلفاء بلاده التاريخيين في الرياض من أجل السيطرة على سوق النفط ومنع ارتفاع أسعاره بطريقة تزيد من تعقد الأزمة الاقتصادية العالمية مع ارتفاع معدلات التضخم، ما سيُضعف من الحملة الغربية لهزيمة موسكو والإطاحة ببوتين.
زار بايدن جدة والتقى بابن سلمان في يوليو/ تموز الماضي، وبذلت إدارته جهودًا لم تنجح في الترويج لأنه لم يذهب ليلتقي ولي العهد السعودي أو يبحث قضية النفط، بل ليعقد قمة مصغرة مع زعماء تسع دول عربية حليفة واشنطن في المنطقة؛ دول الخليج الستة بجانب مصر والأردن والعراق، هدفها دعم السلام في المنطقة وتشجيع استمرار التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.
الجديد في الأزمة الأخيرة بين واشنطن والرياض كان ردَّ الفعل السعودي، الذي لم يكتفِ بالدفاع عن موقف المملكة والقول إن قرار أوبك+ كان بالإجماع، ومبرراته كانت اقتصادية في الأساس. بل أشار أيضًا إلى أن إدارة بايدن لم تكن تعارض قرار خفض الإنتاج من حيث المبدأ، ولكن طالبت الرياض بتأجيل القرار لمدة شهر واحد فقط، في إشارة واضحة إلى أن الرئيس الأمريكي يهتم فقط بتأثير القرار على انتخابات الكونجرس الشهر المقبل في حال زيادة أسعار النفط للمستهلكين الأمريكيين.
ابن سلمان وقادة دول المنطقة العربية باتوا يدركون أن الولايات المتحدة لم تعد الآمر الناهي الوحيد على الساحة الدولية
كان جزء من حملة المرشحين الديمقراطيين في الانتخابات يستند إلى تمكّن إدارة بايدن من السيطرة على أسعار البترول وخفض سعر الجالون من خمسة دولارات إلى معدله الطبيعي؛ 3.8 دولار.
التقط الجمهوريون وأنصار الرئيس السابق ترامب بسرعة "الغنيمة" التي وردت في البيان السعودي، واتهموا بايدن باستخدام نفوذ الولايات المتحدة لأغراض انتخابية داخلية. وهو نفس الاتهام تقريبًا الذي وجهه الديمقراطيون للرئيس السابق ترامب، وشكل بداية إجراءات عزله في الكونجرس بسبب محاولته الضغط على الرئيس الأوكراني ليبدأ تحقيقًا في مزاعم فساد تخص نجل بايدن قبيل انتخابات الرئاسة الماضية للتأثير على نتائجها، وإلا سيوقف معونات تقدر بـ 400 مليون دولار للعاصمة كييف.
تساءل أنصار ترامب عن الفارق بين الموقفين، ولماذا لا يبدأ الجمهوريون في الكونجرس إجراءات شبيهة تدفع نحو عزل بايدن.
الأخير شخصيًا لم يخفِ غضبه من القرار السعودي، وقال إنه سيطالب أعضاء الكونجرس بعد الانتخابات بالنظر في إجراءات محددة للرد على الرياض ودورها السلبي في التحكم في أسعار النفط في العالم. كما أعلن كبار المسؤولين الأمريكيين أنهم بصدد "مراجعة وإعادة تقييم" العلاقات بالسعودية في ضوء التحالف المتنامي بين ولي العهد السعودي والرئيس الروسي، والذي انضمت إليه مؤخرًا الإمارات، بعد لقاء ودّي عقده رئيسها محمد بن زايد في موسكو مع بوتين قبل أيام، تبادلا فيه كلامات الإعجاب والإطراء.
ولكنَّ المراقبين الأمريكيين أنفسهم يدركون أن تهديدات بايدن وكبار مسؤوليه مجرد "ضجيج بلا طحين"، وسعي لإنقاذ ماء الوجه بعد الإهانات التي وجهها له السعوديون؛ سواء بقرار خفض الإنتاج بعد محاولات مضنية لإثنائهم عن ذلك، أو بكشف مطالب إدارة بايدن بتأجيل القرار شهرًا. فالوضع الحالي لسوق النفط وارتفاع الأسعار لا يسمحان بأية إجراءات من شأنها زيادة الاضطرابات في تلك السوق الحساسة التي تربط كل اقتصادات العالم، خاصة مع اقتراب فصل الشتاء في أوروبا في ظل انقطاع الغاز الروسي.
فالتهديد مثلًا بتفعيل مشروع قانون NOPEC، ويعني بالانجليزية "لا لأوبك"، الذي مررته اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ الأمريكي في مايو/ أيار الماضي، ويسمح للمحاكم الأمريكية بمقاضاة دول منظمة أوبك بسبب التلاعب في أسعار النفط عالميًا، قد يهدد بإلحاق ضرر بالدول النفطية كالسعودية، ويخفّض أسعار النفط.
ولكنَّ ذلك الانخفاض سيضر أيضًا الشركات الأمريكية المنتجة للنفط بسبب ارتفاع تكلفة استخراجه في الولايات المتحدة مقارنة بالسعودية. ولو انخفض السعر كثيرًا؛ فستخسر الشركات الأمريكية بينما تستمر السعودية في جني الأرباح، وإن كانت بمعدلات أقل.
أما تهديدات أعضاء الكونجرس بقطع امدادات الأسلحة الأمريكية للسعودية، فأول المتضررين كذلك ستكون الشركات الأمريكية ووظائف الأمريكيين. فالمملكة مشترٍ سخي أمواله حاضرة، يحصل على 24% من صادرات السلاح الأمريكية.
أي تراجع عن بيع السلاح الأمريكي سيضطر الرياض للجوء إلى تنويع مصادر تسليحها من دول أخرى، وهو ما بدأت به بالفعل، عن طريق عقد صفقات سخية مع روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والبرازيل وجنوب إفريقيا.
وقد يكون أقصى ما يستطيع المشرعون الأمريكيون الذهاب إليه هو فرض قيود على توريد أنواع معينة من الأسلحة للسعودية قد تستخدم في حربها في اليمن. ولكن من الناحية العملية لن تستطيع إدارة بايدن أو أي إدارة أمريكية أخرى التوقف عن بيع السلاح للسعودية، لأن المتضرر الأول سيكون الاقتصاد الأمريكي نفسه.
قد يكون من السهل كذلك على المشرعين الديمقراطيين المطالبة بسحب القوات الأمريكية من السعودية والإمارات، وربما نقلها لقطر الأكثر قربًا من إدارة بايدن من بين كل الدول الخليجية. ولكن القوات الأمريكية في المنطقة لا تتواجد هناك من أجل حماية الأسرة المالكة السعودية، وإنما لحماية مصالحها وضمان استمرار تدفق النفط، وعدم ترك تلك المنطقة الهامة تقع تحت نفوذ أي قوى دولية أو إقليمية أخرى، مثل روسيا والصين وإيران.
وبالتالي فإن هذا الإجراء أيضًا يبقى مستبعدًا، ولن تسحب واشنطن كل قواتها من الخليج، مع الوضع في الاعتبار أن عدد تلك القوات تضاءل كثيرًا، ولم يعد يتعدى بضع آلاف مقارنةً بما كان عليه الوضع بعد غزو واحتلال العراق عام 2003.
وبينما كان المحللين والمراقبين يتعاملون مع متانة العلاقات الأمريكية السعودية باعتبارها أمرًا مسلمًا به، وأن الرياض ستنفذ دائمًا ما تطلبه واشنطن، فإن ابن سلمان، وقادة الكثير من دول المنطقة العربية، باتوا يدركون أن الولايات المتحدة لم تعد الآمر الناهي الوحيد على الساحة الدولية، بل بات المجال مفتوحًا للمناورة في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة منافسةً شرسة من روسيا والصين، تمامًا كما في زمن الحرب الباردة.
وفي الظروف الحالية، فإن مخزون السعودية الضخم من النفط وتعطش السوق للمادة الخام بعد اندلاع حرب أوكرانيا قد لا يسمحان بالتحكم فقط في سوق النفط العالمية، ولكن كذلك في نتيجة الانتخابات الأمريكية الداخلية.
لم يكتفِ ابن سلمان بالرد على محاولات إدارة بايدن عزله دوليًا باجباره على المجيء شخصيًا إلى جدة والتراجع عن كل مواقفه الحادة السابقة، بل أصبح الآن يهدد فرص بقائه في منصبه، بينما هو مدرك ومطمئن إلى أن كل تهديدات المشرعين الديمقراطيين بالعقاب لن يتحقق منها شيء على أرض الواقع.