لم يتوقع أحد أن تتجاوز الحرب الروسية على أوكرانيا المئتي يوم، لكنَّ هذا ما حدث رغم التوقعات التي كانت تشير إلى انتصار روسي كاسح خلال شهر على الأكثر، يبسط خلاله جنود فلاديمير بوتين سيطرتهم على الأراضي الأوكرانية ويجبرون قادتها على تفاوض مذل. غير أن الواقع جعل محللين عسكريين، بينهم روس، يتوقعون استمرار الحرب لسنوات.
اعتمدت تحليلات "الحرب الخاطفة" على مقارنات مجردة بين جيشي البلدين وقوتهما الاقتصادية، فمالت التوقعات نحو روسيا، بعد أن قللت من أهمية الدعم الغربي لكييف مع أن يقتصر على السياسية والاقتصاد فحسب.
لكنَّ الغرب قرر دعم أوكرانيا عسكريًا أيضًا وإن لم يرسل جنوده للمعركة، بإرسال الأسلحة وتدريب القوات ومشاركة المعلومات الاستخباراتية وتقديم النصائح العسكرية.
هذه المساعدات مكنت أوكرانيا من الصمود ثم الهجوم لاستعادة ما سيطرت روسيا عليه. ورجحت وزارة الدفاع البريطانية، صدور قرار انسحاب روسي من خاركيف أوبلاست المحتلة في أوكرانيا غربي نهر أوسكيل.
قبل أسبوعين تقريبًا كانت القوات الروسية تسيطر على أجزاء كبيرة من منطقة خاركيف (الشمالية الشرقية) إلا أن أوكرانيا، وخلال هجوم مضاد، حققت تقدمًا على هذه الجبهة. وانسحبت القوات الروسية بشكل مذل من نقاط مهمة، وهذا الانسحاب هو الأهم منذ انسحاب القوات الروسية من محيط كييف في أبريل/ نيسان الماضي.
بعد سيطرة القوات الأوكرانية على خاركيف تقدمت نحو شمال دونيتسك (جنوب شرق البلاد) ونجحت في عبور نهر سيفيرسكي دونتس، في اتجاهها إلى منطقة ليمان، وهي نقطة التقاء خطوط سكك حديدية تجعلها موقعًا استراتيجيًا في الطريق إلى الحدود الإدارية بين مقاطعتي خاركيف ولوهانسك.
وفي حال نجاحها في هذه العملية، تكون القوات الأوكرانية تمكنت من تحرير كامل مقاطعة خاركيف وكامل مناطق شمال مقاطعة دونيتسك المؤيدة لروسيا والمعلنة من جانب واحد كجمهورية مستقلة عن أوكرانيا باسم "دونيتسك الشعبية".
الانتصار الكبير للقوات الأوكرانية هزَّ الإدارة الروسية، رغم محاولتها التقليل منه. تؤكد الآلة الإعلامية لموسكو أن الحرب "تسير في خطها"، وأن ما حدث هو إعادة تموضع للقوات، وليس انسحابًا أو هزيمةً، وهو نفس تعليق وزارة الدفاع التي تحدثت عن "مجرد إعادة تموضع للقوات". قبل أن يخرج بوتين ليؤكد أن "الهجمات المضادة لن تغير الخطط العسكرية الروسية في شرق أوكرانيا".
جاء هذا بينما على أرض الواقع، وللمرة الأولى، يخرج الرئيس الشيشاني، رمضان قاديروف، لينتقد الانسحاب الروسي من المناطق التي كان مسيطرًا عليها "لقد ارتكبوا أخطاءَ وأعتقد أنهم سيستخلصون النتائج الضرورية. إذا لم يتم إجراء أي تغييرات في الاستراتيجية اليوم أو غدًا، فسأضطر إلى التحدث مع قيادة وزارة الدفاع وقيادة البلاد لشرح لهم الوضع الحقيقي على الأرض. إنه وضع مثير للاهتمام للغاية. بل سأقول إنه أمر مخز".
تكمن أهمية هذا التصريح أنه صادر عن أحد المقربين من بوتين وعادة ما يوصف بأنه "الابن/ الفتى المدلل" للقيصر الجديد.
تعكس هذه التصريحات الأزمة الداخلية التي يواجهها بوتين، بعد أن أحبطت الضربة الأوكرانية الأخيرة مساعيه لإبقاء الوضع كما هو عليه وتجميد الموقف حتى الشتاء؛ الفترة الأنسب لفرض شروطه عندما يضرب البرد أوروبا ولا تجد الغاز الذي يشغل مدافئها.
يتبنى بوتين خطابًا مفاده أن روسيا تتعرض لمؤامرة كونية، وهو ما أفصح عنه أثناء إعلانه "التعبئة الجزئية"، واعتبر القرار "ضروريًا لحماية الشعب من الحرب التي يشنها الغرب بشكل جماعي" على بلاده. لم يكن القرار مفاجئًا؛ فأمام التقدم الأوكراني، ظهرت دعوات من الدائرة المقربة من بوتين تشجعه على الذهاب إلى الجبهة الأوكرانية.
وانتشر مقطع مصور لمؤسس مجموعة فاجنر يفجيني بريجوزين، يعرض على مجموعة من السجناء عفوًا شاملًا مقابل القتال لمدة ستة أشهر مع رجاله، في أوكرانيا محذرا إياهم من الهروب الذي يقابله الإعدام، وواعدًا بالأوسمة إذا قتلوا في الحرب.
وعادة لا تعلن روسيا وأوكرانيا عن خسائرهما في الحرب، إلا أن روسيا أعلنت على لسان وزير دفاعها سيرجي شويجو، الأربعاء الماضي، أن خسائر قواته بلغت منذ بداية الحرب 5937، بينما تقول أوكرانيا إن روسيا خسرت أكثر من 57 ألف قتيل منذ بداية الحرب، بحسب وكالة الأنباء الأوكرانية، في وقت تشير تقديرات استخباراتية غربية إلى أن العدد نحو 15 ألفًا. بينما خسر الجانب الأوكراني نحو 60 ألف جندي.
ولا تخفى المحاولات الروسية لتجنيد المواطنين والأجانب وإرسالهم للحرب. منذ أسبوع وقّع بوتين على قانون ينص على إجراءات مبسطة للحصول على الجنسية الروسية للأجانب الذين وقّعوا عقدًا عسكريًا لمدة عام على الأقل. وفي نفس اليوم وقع تعديلات على القانون الجنائي نصت على عقوبة السجن حتى عشرة أعوام بحق العسكريين الذين يفرون أو يرفضون القتال في فترة التعبئة، ردًا على الاحتجاجات التي خرجت في مدن روسية ضد قرار التعبئة، بحسب ما نشرت مجموعة "ovd.news".
وتحدث الموقع ذاته عن زيادة المواطنين الروس الراغبين في مغادرة البلاد مؤخرًا والانتقال إلى البلاد المجاورة التي لا يحتاج دخولها تأشيرة، ونقلت وسائل إعلام أنه فور إعلان التعبئة توجه المئات من الشباب في طوابير إلى كازخستان خوفًا من إرسالهم إلى الحرب، ونشرت فديوهات وصور لهذه الطوابير.
ولا تسمح روسيا بخروج الرأي المعارض للعلن، فبالإضافة إلى قوانين تجريم التظاهر، أقرت كذلك قانونًا يحظر على وسائل الإعلام الروسية نشر أي معلومات عن خسائر الجيش الروسي إلا ما تعلنه وزارة الدفاع أو الكرملين، وكذلك تم إقرار قانون يمنع ازدراء وإهانة الجيش على السوشيال ميديا تصل عقوباته إلى السجن 15 سنة.
الآن وأمام هذه الوضع يبدو أن بوتين ونظامه يعيش واحدة من أسوأ فترات حكمه، فالأسطورة التي بناها في سنوات تتحطم، وصورة القائد الذي لا يُهزم باتت اليوم مهزوزةً.