لأن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، التي يعتبرها العالم قوة عظمى، لا يتحكم في قناة تليفزيونية ضخمة ولا صحيفة أو مجموعة قنوات متفرقة أو "متحدة" لبث خطاباته أو التواصل مع الشعب، خلافًا لبعض الدول الفقيرة التي تتفاخر بسيادتها على إمبراطوريات إعلامية حتى ولو كانت تتلقى مساعدات خارجية للإنفاق عليها، فقد اضطرَّ جو بايدن إلى نشر مقال بصحيفة واشنطن بوست يوم السبت الماضي، ليفسر لشعبه أسباب زيارته يوم الجمعة للسعودية، رغم أن الرحلة تشمل قبلها إسرائيل والضفة الغربية المحتلة.
لا يخفي الرئيس الأمريكي في مقاله المعنون "لماذا أنا ذاهب إلى السعودية؟"، أن هناك انتقادات شديدة لهذه الزيارة، ليس فقط من الجمهوريين المعارضين لأغلب قراراته، ولكن حتى من داخل حزبه الديمقراطي، خصوصًا الجناح التقدمي أو اليساري الشبابي الذي تجاوب مع وعود حملته الانتخابية بجعل أجندة الحريات وحقوق الإنسان محددًا أساسيًا لتوجهات سياساته الخارجية، وبألا يعطي، خلافًا لمنافسه آنذاك ترامب، "شيكًا على بياض" لكل زعيم يطلب صداقة الولايات المتحدة بغض النظر عن سجله في هذا الملف.
وكانت أبرز تعهداته للتدليل على ذلك، المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لدرجة تعهده بجعل السعودية "دولة منبوذة"!
يقول بايدن في مقاله "أعرف أن هناك الكثيرين ممن لا يتفقون مع قراري بالسفر إلى السعودية. بيد أن آرائي في حقوق الإنسان واضحة وثابتة منذ زمن، وكذلك الحريات الأساسية موجودة دائمًا على الأجندة حين أسافر للخارج، مثلما ستكون موجودة وأنا أزور اسرائيل والضفة الغربية".
وشرح الرئيس الأمريكي ما فعله في قضية خاشقجي، خلافًا لسلفه ترامب الذي يحرص على عدم ذكر اسمه، سواء بجعل المخابرات الأمريكية تنشر الأدلة التي تدين المتورطين في القتل، أو اتخاذ إجراءات ضد أعضاء ما يُعرف بفرقة الفهد للاغتيالات، أو سن قانون باسم خاشقجي يحظر إعطاء تأشيرة دخول أمريكا للمتورطين في اضطهاد أو أذى الصحفيين والمعارضين لأنظمة قمعية.
هذه كلها إجراءات لم تمس ولي العهد السعودي الذي اكتفى بايدن منذ انتخابه بتجنب الحديث معه ولو هاتفيًا، والإصرار على اقتصار إشاراته فقط للملك سلمان، حتى وهو يعرف أن العاهل السعودي لظروفه الصحية لم يعد يحكم إلا رمزيًا أو صوريًا.
لكن هذه المرة، لم يُشِر بايدن إلى الملك سلمان بل تحدث عن لقاءاته المرتقبة "مع القادة السعوديين".
مبرر الرئيس الأمريكي أنه حريص على عدم قطع علاقة بلاده الاستراتيجية الممتدة لثمانين عامًا مع السعودية، لكنه أراد تصحيح المسار لعودة الأمور إلى نصابها.
أقل ما تحدث عنه بايدن في تلميحًا عابرًا، شيئان؛ أولًا، المصلحة العاجلة المتمثلة في حاجة أمريكا وحلفائها الغربيين إلى زيادة إنتاج السعودية من البترول، لتخفيض أسعاره عالميًا وبالتالي أمريكيًا؛ وثانيًا، كمصلحة استراتيجية آجلة وهي محاولة الحد من المد الصيني لمنطقة الخليج وإبطاء خطاه ومشروعاته.
وبجانب ذلك، وجد السياسي المخضرم بايدن الذي كان يصف نفسه وهو سيناتور بأنه "صهيوني"، ضرورة التركيز على ربط الرحلة بأهميتها لأمن إسرائيل مع أمن المنطقة في مواجهة الخطر الإيراني، وكذلك بإظهار دعمه لأي عمل رمزي للتطبيع كوصف نفسه "بأول رئيس أمريكي يسافر بطائرة مباشرة من إسرائيل إلى السعودية"!
وهي رسائل مهمة لإرضاء الجيل القديم من قيادات الحزب الديمقراطي الموالي لإسرائيل، خلافًا للجيل الجديد الذي فتح عينيه على إسرائيل القوية والمتغطرسة لا الضعيفة.
يحاول بايدن كذلك إرضاء أقوى جماعة ضغط في السياسة الخارجية الأمريكية وهي اللوبي الموالي لإسرائيل من الحزبين. هذا اللوبي ربما يكون له دور الوساطة الأهم لإتمام الزيارة، وإثبات عربيًا أنه قادر على إحضار أمريكا لكم. وبالتالي، لم تعد الولايات المتحدة هي الوسيط لإسرائيل لدى العرب بل العكس؛ إسرائيل هي وسيط العرب لأمريكا!
صور المصافحات المنتظرة مع الزعماء العرب التسعة في جدة، سيكون التركيز فيها على مصافحتين فقط دون غيرهما: الأولى مع ولي العهد السعودي والثانية مع الرئيس المصري
إذن هل هناك تطبيع سعودي؟
ليس على الطريقة الإماراتية، ولم تعد إسرائيل متعجلة فالكنز الأكبر يحتاج صبرًا ووقتًا أطول، وهو في الاتجاه الصحيح بعد أن أُحضر له بايدن مرغمًا إلى جدة!
كما أن القيادة السعودية الجديدة التي اصطدمت بكبار العائلة الحاكمة، وحبست بعض أفرادها بمن فيهم ولي العهد الأول، واصطدمت بالمؤسسة الدينية ونزعت سلطات مطوعيها؛ لا تريد مزايدة عليها من الشعب وجيشه في التطبيع السافر مع إسرائيل.
ولهذا، أصرت السعودية أن تظهر مصر على الملأ فيما يخص الوساطة الأمريكية بينها وبين إسرائيل لتسلم جزيرتي تيران وصنافير، وكأنها لا تقبل التعامل المباشر مع إسرائيل، مفضلةً أن تقدم ضمانات حرية الملاحة الإسرائيلية عن طريق مصر وكأنها قفاز تحمي به أياديها البيضاء من لمس المفاوض الإسرائيلي.
لكنَّ ما نشره الصحفي الإسرائيلي يوسي ميلمان بصحيفة هاآرتس عشية وصول بايدن لإسرائيل، يكشف تاريخًا طويلًا خفيًا من الاتصالات والاجتماعات السعودية بإسرائيل منذ الثمانينيات عن طريق سفير السعودية آنذاك في واشنطن بندر بن سلطان، الذي واصل اتصالاته واجتماعاته مع مسؤولي الموساد، وكذلك مع رئيسي وزراء إسرائيليين سابقين هما إيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو.
الصحفي ميلمان، وهو من كشف قبل أسبوع عن المقبرة الجماعية لثمانين جنديًا مصريًا أخفتها اسرائيل منذ حرب يونيو/ حزيران 1967 وحتى الآن، يؤكد بناءً على اتصالاته أن السعودية اشترت أسلحةً وأجهزةً وبرامجَ تنصت من إسرائيل، بل إن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان اجتمع في مدينة نيوم السعودية برئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها نتنياهو الذي كان بصحبته مسؤولي مخابرات، وأنكرت الرياض اللقاء بعد تسريب الإسرائيليين أخباره للصحافة! ويعتقد الكاتب أن التطبيع المباشر مع السعودية لن يتم في حياة الملك سلمان.
عمومًا، إسرائيل بدأت التطبيع عسكريًا مع كل الدول العربية التي سيلتقي زعماؤها بايدن في جدة، عن طريق القيادة الوسطى (المركزية) الأمريكية في قطر، بعد أن أصبح العسكريون الإسرائيليون جزءًا من النطاق العسكري في المنطقة بقرار أمريكي في آخر أسبوع لترامب بالبيت الأبيض، وبالتالي يشارك المسؤولون العسكريون العرب في مناوراتها.
لكنَّ إسرائيل تريد وساطة بايدن لتبدأ التطبيع المباشر بحجة مساعدة الفلسطينيين: مشروع للمياه في الضفة، وفتح المجال الجوي لسفر الحجاج من فلسطينيي الـ 48 للحج مباشرة من إسرائيل إلى السعودية، أسوة برحلة طائرة بايدن المباشرة.
لكنَّ الرئيس الأمريكي لن يقدم للفلسطينيين في هذه الزيارة سوى بعض المعونات المالية دون حتى فتح قنصلية أمريكية للأراضي الفلسطينية في القدس، كما كان الأمل من إدارة بايدن في البداية، تعويضًا عن قرار ترامب نقل سفارة بلاده لدى إسرائيل إلى القدس، والإعتراف بها عاصمة للدولة العبرية.
لن يحصل بايدن على كل كمية البترول الني كان يريدها من السعودية، مقابل استئناف مدّها أيضًا بالأسلحة الهجومية الأمريكية وذخيرتها وقطع غيارها. لكنَّ أسعار البترول العالمية هبطت حتى قُبيل أن يبدأ رحلته للمنطقة باعتبار أن الضمانات التي حصل عليها بايدن للذهاب إلى السعودية كافية لخبراء السوق والبورصة باعتبار أن زيادة المعروض من البترول أصبح أمرًا مفروغًا منه.
لكن طالما أن كل طرف متحامل على نفسه في تقديم ما لديه، خصوصًا مع رئيس أمريكي يبدو عابرًا، في حسابات بعض العواصم العربية التي تنتظر عودة الجمهوريين إلى الكونجرس ثم البيت الأبيض، وبالتالي لن يقدم بايدن سوى مصافحات ولقاءات سريعة مع ضيوف السعودية من العرب.
صور المصافحات المنتظرة مع الزعماء العرب التسعة في جدة، سيكون التركيز فيها على مصافحتين فقط دون غيرهما: الأولى مع ولي العهد السعودي والثانية مع الرئيس المصري. لأنهما ستكونان أول مصافحة من بايدن لكلا الرجلين بعد أن صنفهما علنًا بصديقي ترامب المستبدين! وكان ممتنعًا حتى عن الاتصال الهاتفي بأيٍّ منهما، إلى أن اضطر للاتصال بالرئيس السيسي للتوسط لدى حماس في وقف قصفها الصاروخي لإسرائيل ردًا على محاولتها نزع ملكية أهالي الشيخ جراح بالقدس، وقصفها لغزة.
وقبل يومين من سفر بايدن، أرسلت له مجموعة من الباحثين والمتخصصين الأمريكيين في السياسة الخارجية، من المنتمين للحزبين الديمقراطي والجمهوري، رسالةً بشأن لقائه المنتظر في جدة مع الرئيس السيسي، وذلك بوصفهم أعضاء فيما يُعرف بـ "مجموعة العمل على مصر" التي تأسست منذ عام 2010. تبدأ الرسالة بمطالبة الرئيس الأمريكي لو اجتمع ثنائيًا مع الرئيس المصري أن يجعل التركيز الأساسي في حديثه معه عن القلق الأمريكي البالغ تجاه الأوضاع المزرية لحقوق الإنسان في مصر تحت حكمه.
وتستعرض الرسالة الموجهة لبايدن ما وصفته بالانقلاب العسكري وحكم السيسي منذ تسع سنوات والسياسات القمعية، ثم ينصحون الرئيس الأمريكي بألا ينخدع ببعض الإفراجات عن معتقلين فرادى من بين ستين ألف سجين سياسي، ويحذر من خطورة انسداد المسار السياسي السلمي في مصر على وقوع اضطرابات وعدم استقرار. ويحدد الموقعون على الرسالة مطالب يجب أن يصر عليها بايدن كشرط للمشاركة الرسمية الأمريكية في قمة المناخ التي ستستضيفها شرم الشيخ في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وكذلك لاستمرار تقديم دعم سياسي وعسكري للنظام المصري.
لا أحد يتوقع من رسالة كهذه أن تغير نهج أو خطط الرئيس الأمريكي في كيفية تعامله مع نظيره المصري أو موضوعات حديثهما في قمة جدة، لكن ربما يُمكننا توقع، بحساب المصالح، أن يحاول بايدن تعويض اهتزاز صورته مع الديمقراطيين في ذهابه إلى السعودية والتساهل مع بن سلمان، بالتشدد في مطالبه واجتماعه مع السيسي، باعتبار أن مصر في أزمتها الحالية تحتاج إليه أكثر مما يحتاج هو إليها!