هذا المقال مهدى لنقابة الصحفيين المصرية في وقفتها ضد محاولات الحجر على حرية الصحافة في مصر.
توفي منذ أيام، وبالتحديد يوم 19 مايو/آيار 2016، مورلي سيفر، Morley Safer، أحد أشهر رجال الإعلام الأمريكيين في القرن الماضي، وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة عن حياته وكيف أثر في الإعلام الأمريكي، أود أن أركز على صراع دار ما بين البيت الأبيض وإحدى قلاع الصحافة الأمريكية، شبكة سي بي إس الإخبارية، في أثناء حرب فيتنام وكان بطلها مورلي سيفر.
في بدايات حرب فيتنام، وبالتحديد في أغسطس/آب من عام 1965، كان سيفر أحد المراسلين الصحفيين لشبكة سي بي إس في فيتنام، وقدم تقريرًا مصورًا عن جريمة حرب اقترفها جنود البحرية الأمريكية في فيتنام عندما دكت المدفعية قرية كام ني بشدة برغم ضعف المقاومة الآتية من القرية، وبرغم هجر كل الرجال في سن القتال للقرية، مضى جنود البحرية عند دخولهم القرية في إحراق أكواخ القرية ولم تفلح التوسلات الباكية لنساء وعجائز القرية في وقفهم عن ذلك.
وذكر سيفر في تعليقه على تلك الجريمة "ليس هناك من شك من قدرة أمريكا على كسب الحرب عسكريًا، ولكن بالنسبة لقروي يعيش هنا، والذي يمثل المنزل [المحترق] بالنسبة له عملًا شاقًا مدى الحياة، سيتطلب الأمر شيئًا أكبر من وعد من الرئيس كي يصدق أننا حقًا نقف في صفه".
وحالما وصل تقرير سيفر لشبكة سي بي إس أذاعتها على الفور، وكان التلفزيون في ذاك الوقت في أوج تأثيره على الرأي العام الأمريكي، وأشارت استطلاعات الرأي وقتها إلى ميل الشعب الأمريكي للتعاطف مع الدور الذي تقوم به أمريكا في حرب فيتنام، وجاء تقرير سيفر ليقدم وجهًا آخر مخالفًا لما يدعيه البيت الأبيض عما يحدث هناك. وينظر الكثيرون لتقرير سيفر الصادم على أنه كان بمثابة بداية التحول في الرأي العام تجاه الدور الذي تلعبه أمريكا في تلك الحرب والذي أخذ في التصاعد بعد ذلك وحتى انتهاء الحرب في 1974. ولكن المدهش حقًا هو أنه برغم صدمته من هذا التقرير، جاء موقف الرأي العام مؤيدًا لما فعله سيفر بكشفه لحقيقة ما يحدث في فيتنام.
وعند إذاعه شبكة سي بي إس تقرير سيفر، استشاط الرئيس الأمريكي ليندون جونسون والبنتاجون غضبًا واتصل جونسون صباح اليوم التالي برئيس شبكة سي بي إس، فرانك ستانتون، ووبخه بشدة على ذلك التقرير واتهم رئيس الشبكة بتلويث العلم الأمريكي، وأعطاه محاضرة عن الوطنية ودور الإعلام في تلك الظروف. وطالب جونسن ستانتون بفصل سيفر من الشبكة تحت ذريعة أن مثل هذه التقارير تضعف الروح القتالية لدى الجنود الأمريكيين وأن الأمة في حالة حرب وتحتاج لكل دعم من الداخل، بل وهدد جونسون بمحاكمة سيفر بتهمة الشيوعية، ويقال إنه عندما قيل لجونسون أن سيفر ليس شيوعيًا، وأنه كندي الجنسية، قال "كنت أعلم أن هناك شيئاً [مريبًا] خلف هذا الرجل!"
ولما لم يستجب ستانتون لأوامر جونسون، استدعاه الأخير للبيت الأبيض بعد تلك المكالمة بعدة أيام وهدده بأنه سيطرح الأمر على الشعب الأمريكي وادعى ان لديه أدلة على أن سيفر شيوعيًا، ولم يأبه رئيس شبكة سي بي إس بأوامر وتهديدات الرئيس جونسون والبنتاجون وأيد تقرير سيفر وصمم على استمراره في عمله.
وبرغم احتدام المواجهة لم يستطع جونسون تنفيذ أي من تهديداته للشبكة نظرًا لوقوف إدارة الشبكة مع سيفر، وأيضاً لأن الرأي العام الأمريكي، وبرغم ميله في ذاك الوقت للتعاطف مع دور أمريكا في فيتنام، إلا أنه أيد بشدة الدور الذي لعبه سيفر في تقديم الحقائق لهم.
وعقب نشر التقرير، أنكرت البحرية حرق منازل القرية بحجة أن ما صوره سيفر كان لمنزلين احترقا من جراء قذائف المدفعية عندما انطلقت نيران منهما على القوات الأمريكية، وعندما تبين أن الأمر لم يكن مجرد منزلين، وأن هناك لقطات لجنود يقومون بحرق الأكواخ بولاعات السجائر وقذائف اللهب صرح مسؤولون بالبحرية بأن سيفر اصطنع كل هذا التقرير عن طريق الذهاب لنموذج لقرية شيدتها البحرية الأمريكية لأغراض التدريب، مما اضطر سيفر للرجوع للقرية لتوثيق ما حدث، وبالطبع أثبت بالدليل كذب مسؤولي البحرية!
وفي اليوم التالي لإذاعة التقرير، أبلع أحد رجال البحرية الأمريكية سيفر أنهم غير مسؤولين عن سلامته لو أتى إلى مقر البحرية الأمريكية في فيتنام، وكان هذا بمثابة تهديد صريح لسيفر الذي قرر أن يذهب للمقر هناك وقضاء عدة ليالي في الفندق الصغير الموجود هناك تحديًا لتهديد المارينز له. وعند سؤاله عما إذا كان خائفًا وقتها قال، "نعم كنت خائفًا جدًا، حتى أني شعرت بالحاجة لحمل سلاح معي لأول مرة في فيتنام"، وأضاف ضاحكًا:"ولكني كنت خائفًا لأن العتاد الذي كان معهم كان يفوق السلاح الذي معي!"
وتعد تلك المواجهة بين البيت الأبيض والبنتاجون من ناحية، والإعلام الأمريكي من ناحية أخرى، نقطة فاصلة في رسم الحدود ما بين سلطة الدولة وقدرتها على توجيه ما ينشره الإعلام، وخصوصًا مع تعاظم تأثير التقارير المصورة والتلفزيونية على الرأي العام، وقدرة الإعلام على مقاومة فرض تلك القيود بدعاوى الوطنية والحالة المعنوية للجنود في أثناء الحرب، والتأكيد على حق الناس في معرفة حقيقة ما يجري باسمهم.
الجميل في الأمر هو وقوف الشبكة الإخبارية في صف مراسليها وتحديها للبيت الأبيض والبنتاجون (وزارة الدفاع) برغم حالة الحرب التي كانت تمر بها البلاد، وكان للموقف الذي اتخذته إدارة شبكة سي بي إس من دعم لمراسليها الفضل في رسم الخطوط الفاصلة ما بين سلطة الدولة وسلطة الصحافة، وربما كان أهم عامل في تحييد نتائج تلك المواجهة هو وقوف الرأي العام مع حق الشعب في معرفة ما يجري باسمهم وعدم فرض قيود على حرية الصحافة والإعلام.
تحية لروح مورلي سيفر، وتحية لصمود نقابة الصحفيين في مصر!
بعض المصادر المستخدمة:
http://www.cbsnews.com/news/controversial-report-changed-war-coverage-in-america/
http://wamu.org/audio-player?nid=230669
http://money.cnn.com/2016/05/19/media/morley-safer-death/
http://www.pbs.org/weta/reportingamericaatwar/reporters/safer/camne.html