يعيش الصحفيون المصريون أزمة مزدوجة على مدى السنوات العشر الماضية. الأولى تتعلق بأجواء الحريات العامة في ظل الرؤية الرسمية للدولة لدور الإعلام، والثانية ترتبط بالظروف الاقتصادية الصعبة التي تطال الجميع، مع الوضع في الاعتبار أن الصحافة عمومًا في مصر لم تكن يومًا من المهن التي تدر دخلًا مرتفعًا.
وهاتان الأزمتان مترابطتان؛ فالتضييق على وسائل الإعلام ودفعها لتبني الرواية الرسمية، وانعدام أي درجة من الاستقلالية، والصعوبة البالغة في الحصول على المعلومات، تضرب أصل المهنة التي تقوم على توفر المعلومة في مقتل.
كما أن غياب التنوع في التغطية الصحفية وضرورة الالتزام بالدور الدعائي للإعلام الذي يضخم من الإنجازات والترويج لما يسمى بـ"الصحافة الايجابية"، مقابل "الصحافة الموضوعية" التي تهتم بالحدث ومحاولة أن تمثل انعكاسًا لاهتمام القراء. كل ذلك لا يؤدي فقط إلى تراجع مصداقية وسائل الإعلام ولجوء الجمهور المصري إلى مصادر خارجية عربية وأجنبية، ولكنه يدفع المواطنين عمليًا إلى التوقف عن شراء المنتج الصحفي، وهو ما يترتب عليه تدهور الأوضاع الاقتصادية للمؤسسات الصحفية والإعلامية والعاملين فيها.
كل ذلك يضيف لأهمية الانتخابات التي ستشهدها نقابة الصحفيين الجمعة 17 مارس/آذار الجاري، لاختيار نقيب جديد ونصف أعضاء المجلس البالغ عددهم 12. ستمثل الانتخابات مؤشرًا مهمًا عمّا إذا كانت الأوضاع ستبقى على ما هي عليه من هيمنة كاملة للدولة على المشهد الإعلامي، أم سيفتح الباب لبصيص أمل يسمح أولًا باستعادة دور النقابة في الدفاع عن المهنة ومصالح العاملين فيها، ثم استعادة بعض الحرية والحيوية في المشهد الصحفي نفسه، الذي سيطر عليه الركود والإحباط.
كان الإعلام من أكثر القطاعات ازدهارًا في أعقاب ثورة يناير، وتأسست العشرات من الصحف والمحطات التلفزيونية الجديدة التي ضمت المئات من العاملات والعاملين. ولكن بعد 2014، تغير المشهد تمامًا. قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في تصريح شهير بعد شهور قليلة من تولي منصبه "يا بخت عبد الناصر، كان الإعلام كله معاه".
ومنذ ذلك الوقت، بدأت تدريجيًا إعادة هيكلة المشهد الإعلامي لضمان أن يتحقق للنظام الحالي ما حققه عبد الناصر عندما أمم وسائل الصحافة والإعلام (تلفزيون، راديو) في مطلع ستينيات القرن الماضي، ليصبح "الإعلام كله معاه" عمليًا، بما في ذلك وسائل الإعلام التي كانت يومًا ما مملوكة للقطاع الخاص وأصبحت تمتلكها الآن شركة واحدة متشعبة وضخمة ساهمت في تغيير تركبية عضوية نقابة الصحفيين، من خلال تعيين أعداد كبيرة من العاملين الذين حصلوا على عضويتها.
سنوات المشمع الأخضر
الجمود والهيمنة الرسمية على وسائل الإعلام انعكسا بالطبع على نقابة الصحفيين، التي كانت بحق منذ نشأتها إحدى القلاع المهمة للدفاع عن الحريات العامة في مصر، وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير. فالصحافة تحديدًا لا يمكن أن تنمو وتزدهر إلا في أجواء من الحرية، ولذلك ارتبطت دائمًا بالأوضاع السياسية القائمة في مصر.
ولأن الجهات الأمنية المعنية تدرك ذلك، خاصة في ضوء تجربة سنوات ما قبل ثورة يناير، حين كانت سلالم النقابة بقعة هامة لتنظيم التظاهرات والاحتجاجات المطالبة بإنهاء الحكم الممتد لمبارك، أُغلق هذا الباب تمامًا، وغُطّي المبنى والمدخل والسلالم الشهيرة بلفافات طويلة من المشمع الأخضر القبيح، بدعوى التطوير الذي لم تكن هناك أي حاجة له، ولم يتحقق على مدى أكثر من خمس سنوات.
تم التعامل مع النقابة على أنها فرع آخر من فروع كثيرة تابعة للدولة، خاصة بعد أن تولى منصب النقيب رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، التي هي رسميًا الذراع الإعلامية الدعائية للدولة. وتحولت الانتخابات فيها إلى منافسة بين الأطراف الأكثر قدرة على توفير الخدمات وتحسين الدخول الضعيفة أصلًا للصحفيين (مشاريع علاج، إسكان، رحلات، إلخ).
التعامل مع المعلومات في مصر ومحاولة نشر الحقيقة أصبح له ثمن كبير قد يصل لسنوات طويلة في السجن
ورغم أن الدولة رفعت مؤخرًا الحد الأدنى للأجور إلى 3500 جنيه، فلقد بقي الحد الأدنى لدخول الصحفيين ثابتًا عند 1200، هذا إذا توفرت أصلًا فرص للعمل، سواء في المؤسسات الخاصة أو القومية التي تجمَّد التعيين فيها منذ سنوات، وتراجع توزيعها بشكل حاد، وزاد اعتمادها بشكل كبير على الأموال التي تتلقاها من الدولة.
وفي ضوء أن السياسة الرسمية للدولة أصبحت التوسع في إلقاء القبض على من يعبرون عن آرائهم علنًا سواء في وسائل الإعلام أو عبر السوشيال ميديا، فقد كان من الطبيعي أن يكون الصحفيين من ضمن الأكثر تأثرًا بتلك الإجراءات، بحكم طبيعة المهنة نفسها التي تقوم على النشر.
لا يلتحق الصحفي بالعمل الإعلامي لأنه بطل قومي أو راغب في الدفاع عن قضية، ولكن التعامل مع المعلومات في مصر ومحاولة نشر الحقيقة أصبح له ثمن كبير قد يصل لسنوات طويلة في السجن، سواء احتياطيًا أو بموجب أحكام صادرة بناء على قوانين عدة تم اعتمادها في السنوات الأخيرة، وتفرض عقوبات مشددة على نشر الأخبار الموصوفة بالكاذبة أو تلك التي تسيء لسمعة الدولة وتهدد السلام والاستقرار، وغيرها من التهم الفضفاضة.
وقفت النقابة عاجزة أمام ذلك التوسع في القبض على الصحفيين، وكان من الصعب على النقيب أن يذهب إلى هيئة الاستعلامات في الصباح لكي يؤكد أن أوضاع الحريات في مصر لا يشوبها شائبة، ثم يصدر بيانات في المساء يندد بالقبض على الصحفيين وحبسهم لسنوات دون محاكمة.
"البدل يا ريس"
وإذا كنا اعتدنا على مشهد الاحتفال في عيد العمال في الأول من مايو/أيار من كل عام، عندما يقف واحد من الجمهور ليقول لرئيس الجمهورية "المنحة يا ريس"، فإن انتخابات نقابة الصحفيين تمثل مناسبة موسمية بدورها لكي تطالب جموع الصحفيين بـ"المنحة يا ريس" والمتمثلة فيما يسمى بـ"بدل النقابة" واسمه الرسمي "بدل التدريب والتكنولوجيا" والذي يخرج شهريًا من الميزانية الرسمية للدولة لصالح كل أعضاء النقابة.
بدأت قصة ذلك البدل بنحو أربعين جنيهًا في ثمانينيات القرن الماضي، وبلغ قبل الزيادة المتوقعة الأخيرة مع موسم الانتخابات الحالي، نحو ثلاثة آلاف جنيه.
هذا البدل في حد ذاته من معضلات العاملين في مهنة الصحافة في مصر. فإذا كان الافتراض هو أن تكون الصحف مستقلة لكي لا يتم دفعها لتبني الموقف الرسمي للدولة، فعلى على أي أساس يتم تمييز الصحفيين تحديدًا لكي يتم منحهم جميعًا، سواء العاملين في الصحف المملوكة للدولة أو القومية أو القطاع الخاص.
هذه المنحة الشهرية تكلف ميزانية الدولة، نحو 40 مليون جنيه كل شهر ونصف مليار جنيه كل عام. عندما بدأ تقليد تقديم الدولة لبدل شهري للنقابة كان عدد أعضائها نحو أربعة آلاف عضو، ويتجاوز الآن 11 ألفًا، وهو ما يجعل البدل سيفًا مسلطًا في يد الدولة التي تستطيع أن تمنع كما تمنح.
تقول النقابة إن السبب الأساسي هو انخفاض أجور الصحفيين، وهو ما يجعل من الضروري الحصول على ذلك البدل الشهري. وبلغ من أهمية ذلك البدل أن بعض الصحف الصغيرة والحزبية التي لا تمتلك مصادر للدخل أصبحت تلجأ لتعيين صحفيين لا يعملون في المهنة أصلًا مقابل الحصول على مبالغ مادية من الراغبين في عضوية النقابة، بزعم أنهم سيحصلون بعد ذلك على مبلغ مالي منتظم يتمثل في "البدل الشهري".
الممثل المفترض لـ"الدولة" في الانتخابات الحالية، رئيس تحرير الأخبار الزميل خالد ميري سارع في "زف البشرى" فور إطلاق حملته الانتخابية وقال إنه تلقى "وعودًا" من رئاسة الوزراء بزيادة البدل الشهري بنحو 600 جنيه، وهو أمر لم يكن ليتمكن مرشح "تيار الاستقلال" الزميل خالد البلشي من القيام به في ضوء الدعاية المضادة له أن انتخاب "صحفي معارض" سيؤدي إلى الإضرار بأوضاع الصحفيين المادية، وربما حتى إلغاء البدل برمته بزعم التقشف وعدم توفر السيولة.
لا يتوقع أحد أن تنجم عن انتخابات نقابة مهنية صغيرة تغيرات واسعة في الواقع السياسي الذي نعيشه، ولكن طبيعة مهنة الصحافة في مصر وارتباطها بالسياسة سيجعل من انتخابات نقابة الصحفيين محط أنظار، وبمثابة اختبار للعاملين في المهنة بشأن رغبتهم المساهمة في تحقيق تحسن ولو نسبي في الكثير من الأوضاع المتعثرة، خاصة في ضوء توافر اختيارات متعددة من بين قوائم المرشحين، وكثير منهم لديه بصيص أمل رغم كل الظروف الصعبة التي عانى منها العاملون في الصحافة على مدى السنوات الأخيرة.