أصابتني الدهشة البالغة حين شاهدت النبأ العاجل بتعرض الكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي لمحاولة اغتيال أثناء إلقائه محاضرة في نيويورك. فاسم الكاتب بدا أنه قادم من الذاكرة البعيدة؛ 33 سنةً إلى الوراء حيث زمن "فتوى" إهدار دمه التي أصدرها المرشد المؤسس للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله "الإمام" الخميني عام 1989، لأنه رأى أن روايته "آيات شيطانية" تتضمن تجاوزًا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.
هل ما زال هناك من يتذكر سلمان رشدي وفتوى قتله وجائزة الثلاثة ملايين دولار التي أعلنت عنها طهران؟ ظننت ان إيران نفسها أعلنت بشكل ملتبس أنَّ هذه الفتوى لم تعد سياسةً رسميةً في عهد الرئيس السابق "المعتدل" محمد خاتمي، وإن لم يجرؤ أحد على إعلان التخلي عنها رسميًا لأنه لا تجوز مطلقًا مخالفة تعليمات "روح الله آية الله العظمى" الإمام الخميني. لبيك يا إمام!
حينها قامت الدنيا ولم تقعد، وتفجرت المظاهرات في كل أرجاء العالم الإسلامي، شيعي وسني، واتهم السنة المحافظون طهران بمحاولة تزعّم العالم الإسلامي الراديكالي. لم تكن رائحة البعد الطائفي للثورة الإيرانية قد فاحت بعد، ونظر كثيرون بعين الإعجاب للإمام المعمم الذي يواجه أمريكا والغرب وغطرستهم ويدافع عن الإسلام.
ولكنَّ دهشتي لم تدم سوى ثوانٍ معدودة. ففي هذا العالم المجنون الذي نعيشه منذ ما يفوق العقد من الزمن أصبح كل شيء ممكنًا وجائزًا، بما في ذلك بعد أن نسمع عن طعن كاتب متقدم في العمر على خشبة مسرح بطعنات سريعة أصابت الرقبة والكبد وما زالت تهدده بفقدان البصر.
العنف وسفك الدماء والمذابح أصبحت أمورًا معتادةً. ومنذ أن شاهدت فيديوهات حرق الطيار الأردني حيًا وهو محبوس في قفص، ثم ذبح المسيحيين الـ 21 في ليبيا، رأسًا رأسًا، وكلها من إنتاج هوليودي عالي الجودة لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بصحبة موسيقى تصويرية ومؤثرات صوتية وأناشيد حماسية، عرفت إلى أي مدى يمكن أن تصل وحشية وجنون البشر الذين يبررون أفعالهم بنصرة الدين ولا يلقون أي بالٍ لحرمة الدماء.
بعد أن توالت الأخبار وعرفت أن محاولة القتل تمت في منتجع خاص غرب ولاية نيويورك في منطقة غابات تدعى "تشوتاكوا" تسمرت على مقعدي أمام التلفاز. كتبت سريعًا لصديق أمريكي يعمل في أحد مراكز الأبحاث المرموقة في واشنطن "هل هذا المنتجع هو نفس المكان الذي قمت بدعوتي للمشاركة في ندواته قبل عدة أعوام لمناقشة الوضع في مصر بعد مظاهرات 30 يونيو، وكان معي القيادي الشاب في حزب النور نادر بكار؟" وجاءني الرد سريعًا "نعم هو نفس المكان. أنت كنت تجلس على نفس الكرسي وعلى نفس خشبة المسرح حيث جرت محاولة قتل سلمان رشدي".
"تشوتاكوا!" يا للهول! استغرق مني الأمر عدة أيام حتى استطعت حفظ اسم ذلك المنتجع الصعب والذي قال لي المنظمون إنه كان وطنًا لإحدى قبائل الهنود الحمر قبل إعلان الولايات المتحدة الأمريكية.
مركز الأبحاث الأمريكي الذي يعمل به صديقي يقيم، كما المراكز الشبيهة في الولايات المتحدة، مؤتمرات سنوية في منتجعات شهيرة، للمهتمين من الأمريكيين بقضايا متنوعة ومختلفة: سياسة، بيئة، تكنولوجيا، إدارة أعمال، اعتقادًا أنَّ الابتعاد عن المدينة والإقامة وسط الطبيعة والأشجار وجداول المياه وحيوانات الغابة الصغيرة المسالمة يساعد في التفكير بشكل أعمق وفي آفاق اوسع.
ولذلك تكون الأجواء برمتها مسترخية وغير رسمية، ويمكن لأي مواطن التسجيل عبر الانترنت وشراء تذاكر حضور مناسبات معينة، كما محاضرة سلمان رشدي التي استغلها الشاب الأمريكي المولد، لبناني الأصول، لمحاولة قتله في سلاسة ويسر.
وعندما علمت أن من قام بمحاولة القتل لم يتجاوز من العمر 24 سنة، أصابني الحزن أن يدفع ثمن فتوى الإمام الخميني شاب جاء إلى هذا العالم بعد صدورها بتسع سنوات كاملة. ليس من المهم مطلقًا القول إن المدعو هادي مطر لم يقرأ بالطبع كتاب آيات شيطانية، لأن ذلك ينطوي على افتراض بأن القراءة تمنح رخصة للقتل. فمن حاولوا قتل الكاتب العظيم الراحل نجيب محفوظ لم يقرأوا كتبه، ومن اغتالوا فرج فودة لم يهتموا أساسًا بقراءة مقالاته وكتبه.
لم يكن من الممكن حتى أن أتخيل أن يهاجمني أحد بسكين وأنا جالس على كرسي سلمان رشدي في "تشوتاكوا" البعيدة المنعزلة وسط الغابات. فلقد نلت نصيبي من طعنات أمثال "هادي مطر" في شارع قصر العيني
لن أنسى صراخ الشاب محمد ناجي الذي طعن شيخ الأدباء نجيب محفوظ في رقبته أمام منزله بعد صدور الحكم بإعدامه من محكمة عسكرية كنت أقوم بتغطيتها كصحفي "قولوا لنجيب محفوظ لو محمد ناجي خرج، هيرجع يقتلك تاني". ناجي بدوره كان شابًا يافعًا لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره وقت ارتكابه لجريمته، ولكن تلبسه شيطان كريه أقنعه أن طعن كهل يقوى على المشي بصعوبة هو الطريق لجنة الخلد شهيدًا تحمل روحه الملائكة.
تكفي الفتوى من "الأمير والشيوخ" أو من "الإمام"؛ سني وشيعي لا فرق لكي يرتكب هؤلاء الشباب جرائم القتل. ورغم أن مسلمين كثيرين يرون أن ما يميَّز دينهم هو العلاقة المباشرة مع الله من دون الحاجة لشيوخ وسطاء أو أئمة يُرونهم روح الله، فإن الواقع على الأرض شيء آخر كما يعلم الجميع. ويكفي أن يقرأ لنا شيوخنا أو أئمتنا لكي يصدقهم كثيرون بكل إخلاص وينفذون بعد ذلك فتاواهم بالقتل وهم في انتظار الجنة. لبيك يا شيخنا. لبيك يا إمام.
المؤلم أن الشاب الذي حاول قتل رشدي لم يترعرع حتى في سياق الشحن الطائفي الذي يفيض في بلده الأصلي، ولكن وفقًا لما ذكرته والدته، فلقد كانت زيارة واحدة للبنان كافية لكي تحدث تغيّرًا في تفكيره وتدله سريعًا إلى ما رأى أنها هويته الحقيقية: فهو ليس مواطنًا أمريكيًا، بل شيعي أولًا وقبل كل شيء، أمره الإمام روح الله بقتل سلمان رشدي المرتد الكافر.
هادي مطر تحول سريعًا إلى مشروع شهيد في المواقع الشيعية المتطرفة، وانتشرت صورته وهو مكبل اليدين وسط رجال الشرطة الأمريكيين المدججين بالسلاح بعد ارتكابه لجريمته وهو يرتدي عصابة للرأس مكتوب عليها "لبيك يا إمام".
صحيفة كيهان الإيرانية المقربة من المرشد الأعلى الحالي علي خامئني قالت إن "يدي غازي هادي مطر يجب أن يتم إمطارهما بالقبلات. نهنئ هذا الرجل الشجاع لوعيه بواجبه وهجومه على المرتد الشيطان سلمان رشدي. الأمة الإسلامية برمتها تحييك يا سيدي".
ولكن ماذا عن "تشوتاكوا" المنتجع الذي قضيت فيه نحو أسبوع كامل أجيب عن تساؤلات الأمريكيين بشأن ما حدث في مصر والشرق الأوسط؟ تخيلت رد فعل هؤلاء، وكثير منهم من كبار السن الذي يرون أنهم كدافعي ضرائب أمريكيين، من حقهم فهم هذه المنطقة المضطربة التي لا تنتهي فيها الحروب، ويأتي منها المتشددون الذين يكرهون بلدهم "الرائعة والمعجزة والخيرة" ويمتطون الطائرات المدنية ويستخدمونها كصواريخ ترتطم بناطحات السحاب فيقتلون في دقائق نحو ثلاثة آلاف إنسان.
كان سؤال "لماذا يكرهوننا" ما زال يحظى بشعبية في ذلك الوقت وسط الحجج الواهية الكثيرة التي استخدمها الرئيس الأحمق جورج دبليو بوش لغزو واحتلال أفغانستان ثم العراق.
الأمريكيون الذين التقيتهم في "تشوتاكوا" هم من ضمن الطائفة التي يمكن وصفها بـ "الأمريكيين الطيبين" أي من يقبلون بالتنوع الثقافي والانفتاح على العالم والرغبة في المساعدة لنشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، على عكس "الأمريكيين الأشرار" المؤمنين بنظرية تفوق العرق الأبيض وضرورة انغلاق بلادهم على نفسها خشية موجات هجرات الفقراء من كل أنحاء العالم. ولم يراودني شك أن هؤلاء صدمتهم كانت كبيرة وهم يتابعون الشاب "هادي مطر" يطعن سلمان رشدي بلا هوادة.
فكل قيم الحوار والتواصل والسعي لفهم الآخر انهارت أمامهم، وها هم الأمريكيون "الأشرار" يعايرونهم بسذاجتهم وهم يقولون: ألم نقل لكم إنه لا فائدة من الانفتاح على منبع الأشرار في ذلك الشرق الأوسط؟ هؤلاء لا يفهمون سوى لغة القوة الأمريكية. هنيئًا لكم رئيسكم الديمقراطي الضعيف، جو بايدن، ولن يحمينا سوى دونالد ترامب، صاحب اقتراح بناء جدران تحيط بأمريكا وبدأ ولايته باتخاذ قرار يمنع دخول المسلمين للولايات المتحدة من أكثر من عشر دول.
أحاطني الأمريكيون الذين التقيتهم في "تشوتاكوا" بالكثير من الحفاوة، واستمعوا لي ولكل ما قاله نادر بكار عن خصوصية الإسلام وحقنا في أن نعيش بطريقة مختلفة، بما في ذلك منع مرشحات حزب النور السلفيات في الانتخابات من نشر صورهم والاكتفاء بوجه مرسوم لامرأة منتقبة أو بصورة وردة لأن المرأة رقيقة جميلة كما الوردة.
ولكنهم صفقوا لي في النهاية حين أشرت أننا كأنصار للديمقراطية في مصر، لا نرغب في نظام سلطوي يرفع شعار حماية الوطن، ولا نظام ديكتاتوري ديني متشدد يرى أن دماء المخالفين في الرأي حلال بلال وفقًا لتفسيرهم هم فقط للدين والإسلام.
لم يكن من الممكن حتى أن أتخيل أن يهاجمني أحد بسكين وأنا جالس على كرسي سلمان رشدي في "تشوتاكوا" البعيدة المنعزلة وسط الغابات. فقد نلت نصيبي من طعنات أمثال "هادي مطر" في شارع قصر العيني بالقاهرة عقابا على أنني كنت متحدثًا باسم جبهة الإنقاذ التي دعت لإنهاء حكم جماعة الإخوان لمصر في اكتوبر/ تشرين الأول 2013. ولكن بعد أن شاهد الحضور دماء سلمان رشدي تتفجر أمامهم بعد أن بدأ محاضرته بالكاد، لا يمكنني سوى أن أقول: أنا آسف يا "تشوتاكوا".