برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
الإمام آية الله الخميني مع الجماهير الإيرانية

عودة الخميني

روح الله الذي استثمر في الدّم

منشور الخميس 18 أغسطس 2022 - آخر تحديث الخميس 18 أغسطس 2022

لم يكن الكاتب البريطاني ذو اﻷصول الهندية سلمان رشدي يعرف في سبتمبر/ أيلول 1988 ما الذي ينتظره. فبينما كانت روايته آيات شيطانية في المطبعة تستعد للصدور، لم يتخيل أنه في يوم وليلة سيصبح حديث العالم، ومن سوء حظه أنه عاش في زمن رجل يسعى لصنع مكانة على أي نحو ما وبأي صورة ممكنة، هو روح الله الخميني (1902- 1989)، الذى أراد أن يؤكد للعالم أن ثورته الإسلامية التي اندلعت فى إيران وأطاحت بالشاه وأثارت ضجة كبرى بعنفها المتزايد قد تجاوزت الحدود، وبعد 10 سنوات من سيطرته على بلاد فارس أهدر دم الكاتب الهندي.

ليست فتوى المرشد اﻷعلى للثورة الإيرانية التي أطلقها على أمواج إذاعة طهران في فبراير/ شباط 1989، بعيدة عن مسار ثورته الإسلامية، الخالية من الجمال، والمعادية للشعر والفن التشكيلي والموسيقى، الثورة التي أرادت قياداتها أن تعود بالدولة لصورة ثابتة فى التاريخ، دولة ثيوقراطية تُحكم بالحديد والكتاب.

كان الخميني الذي أملى على الجميع قراءة خاصة للرواية، يبحث عن فرصة ليختبر قدرة تأثيره، ووجدها فى الضجة المثارة حول اﻵيات ليقول للعالم الخارجي إنه قادر على التهديد وعلى التأثير في مجريات الأمور.

خاطب روح الله الخميني مسلمي العالم أجمعين، ولم يكتف بشيعته أو بمواطنيه شيعة وسنّة، بل لعب على العاطفة الدينية، فقال "فليعلم كل الشعب المسلم فى العالم أن مؤلف كتاب آيات شيطانية، المعادي للإسلام، وللنبي وللقرآن، وكل المتورطين فى نشره والعارفين بمحتواه، محكوم عليهم بالموت، وعلى كل المسلمين تنفيذ الحكم عليهم أينما وجدوا"، ليمنح مليار إنسان حق إراقة دم شخص واحد.

ورغم موت الخميني في 3 يونيو/ حزيران، أي بعد أقل من أربعة أشهر على إطلاق الفتوى، فإنها ظلتْ سهمًا انطلق وكلما حاولت البشرية تجاوزه، عاد في محاولة لإصابة الهدف.

كانت حياة سلمان رشدي عادت إلى وتيرتها الهادئة بعد أن ظلّ سنوات يكتب تحت اسم مستعار جوزف أنطون، قبل أن يسترجع اسمه منذ نحو عشرين سنة، لتطارده فتوى روح الله من جديد، وتطعنه أثناء صعوده على خشبة المسرح في حفل بولاية نيويورك الأمريكية، على يد شاب أمريكي من أصول لبنانية فى الرابعة والعشرين من عمره، أي أنه لم يشهد فتوى الخميني، لكنه ورثها بشكل أو بآخر.

لم تعد الحادثة اﻷخيرة رشدي إلى الأضواء العالمية، فالرجل لم يغب عنها بمؤلفاته المتعددة وترشحه للجوائز العالمية وحصوله على التكريمات الدولية، بقدر ما أعادت الخميني؛ بعثته من مرقده، وكأنه إمام غائب كانت عودته منتظرة.

سلمان القربان

كان الخميني يعرف جيدًا أن قطاعًا كبيرًا من المسلمين ليسوا معه، فهو يدرك أن السُّنة فى بلاد الخليج وشمال إفريقيا وربما في العالم كله يخشون ثورته التي اندلعت، كما أن أئمتهم ورجال السياسة يبثون لشعوبهم أن الشّيعة يسبون الصحابة ولا يحبون من آل البيت سوى الإمام علي وبنيه، لذا استغل الخمينى آيات شيطانية كي يرضي نزعة لدى عموم المسلمين، باختلاف مذاهبهم وفرقهم، ويتحول من متهم في نظر الكثيرين من المسلمين السّنة، يسب أمهات المؤمنين وبعض الصحابة، إلى متطوع للدفاع عن الرسول، مغازلًا الرؤية الشعبوية، وكأنه أراد أن يقول إن الثورة الإسلامية تغضب من أجل الله والرسول وآل البيت جميعًا لا فرق بين فاطمة أو عائشة.

أطلق الخمينيى سهمه ووضع المجتمع السني فى مأزق، فهم لا يستطيعون أن ينكروا فتواه وإلا فسوف يتهمون بالاصطفاف مع "أعداء الرسول"، ليزايد الجميع في سباق التكفير وإباحة الدم، وإن تحدث بعضهم عن ضرورة محاكمة رشدي قبل قتله، لكنهم لم يمنحوه حريته ولم يطالبوا بالرد بالكلمة، حسبما أوردت صحيفة نيويورك تايمز عام 1989.

ويعرف رجال الدين المحيطين بالخمينى أن الفتوى فى حاجة إلى فاتح شهية، نعم سوف يسعى المتطرفون من كل صوب وحدب ناحية الفريسة، لكنَّ المالَ أيضًا سيرفع الهمة أكثر، لذا صاحبت إهدار الدم مكافأة مالية وصلت لنحو ثلاثة ملايين دولار.

الربط بين المال والفتوى الدينية يدل على أمرين، الأول أن النظام الإيراني كان مُصرًّا على تحقيق غرضه، فمن لا تؤثر فيه النزعة الدينية، فإن المال الوفير كفيل بإغرائه. والثاني أن الخميني ومن بعده رجال الدين كانوا يعرفون أهمية الموضوع، ولديهم رغبة عارمة فى تحقيقه حتى لو دفعوا من جيوبهم المتخمة ثمن القتل.

وبالفعل لم تمر شهور قليلة حتى تعرض رشدي لأول محاولة اغتيال في 3 أغسطس/ آب 1989، وكانت الوسيلة المستخدمة كتابًا مفخخًا، العملية التي نفذها مصطفى مازح، لكنّ الكتاب انفجر ومات مازح إضافة إلى تدمير طابقين من فندق بادينجتون فى بريطانيا.

وتواصل العداء، حتى أن مُنع رشدي من العودة لوطنه اﻷصلي الهند، للمشاركة فى مهرجان أدبي هو اﻷكبر في آسيا؛ مهرجان جايبور، إثر مظاهرات ترفض عودته. وفي 2013، نشر تنظيم القاعدة لائحة بعنوان مطلوب حيًا أو ميتًا، وضمت اسم مؤلف أطفال منتصف الليل.

ورقة ضغط

مات الخميني وبقيت فتواه، فى كل سنة يتذكرها المثقفون ومحررو الصحف، فيحصونها: ثلاثون عامًا على فتوى الخمينى، الذكرى الواحدة والثلاثون، وهكذا حتى وصلنا إلى الذكرى الثالثة والثلاثين، وسبب التتبع أن السلطات الإيرانية لم تتراجع عن "طلقتها"، بل تحولت إلى جزء من شكل النظام الحاكم، كأنهم أرادوا أن تكون علامة يحيون من خلالها ذكرى الخميني نفسه.

المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئ لم يتراجع عن فتوى سابقه، وفي يناير/ كانون الثاني 2005 وصف رشدي بـ"مرتد ويمكن هدر دمه"، وفي 2007 أعلن رجل الدين الإيراني أحمد خاتمي أن الفتوى "لا تزال سارية".

مرة وحيدة أبدت الحكومة الإيرانية في 1998 أنّها لن تسعى الى تطبيق فتوى الخميني، وذلك خلال فترة حكم الرئيس محمد خاتمي، الذي كان يريد التقارب مع الغرب، ونجح في إعادة العلاقات مع بريطانيا، لكن الأمر كان مجرد إشارة انطفأت سريعًا بمغادرة خاتمي كرسي الرئيس.

الوريث هادي مطر

وفي الثاني عشر من أغسطس الجاري، وبينما يستعد رشدي لإلقاء محاضرة في معهد تشاوتاكوا بنيويورك، يهاجمه شاب أمريكي يدعى هادي مطر، وتتوجه اﻷنظار من جديد صوب إيران، التي انتظرت أربعة أيام كاملة كي تخرج وتتحدث، أو لنقل تتنصل.

المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، نفى في مؤتمر صحفي وجود أي علاقة بمرتكب الواقعة بإيران، وإن ألقى باللوم على المطعون "لا نعتبر أحدًا غير رشدي وأنصاره يستحق اللوم بل وحتى التنديد".

بغض النظر عن إنكار الحكومة الإيرانية، فإنه بعد 33 عامًا جاء مطر ليبث الروح فى الخميني وفتواه من جديد، وإن لم يظهر لنا حتى الآن طبيعة العلاقة بين الفتى المولود في 1998 وروح الله، فهناك تسع سنوات كاملة تفصل ميلاد مطر وإطلاق الفتوى الدامية التي لم لم تدخل القبر مع صاحبها، وظلت مثل ذبابة الموتى تقتات على الجثث وتحلق حتى استقرت فى ذهن الشاب اﻷمريكي ففعل فعلته.

ما فعله مطر يشبه إحياء المومياوات فى أفلام الرعب، أخرج الخميني من قبره بعباءته السوداء وعينيه الحادتين مثل نصل رافعًا صوته ومهددًا الجميع.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.