صفحته الرسمية على فيسبوك
محمد منير من حفله الأخير

منير: حدوتة غير مكتملة

التمرد قد يفنى ولكن يستحدث من العدم

منشور الخميس 21 يوليو 2022 - آخر تحديث الجمعة 22 يوليو 2022

كانت الأجواء جميعها توحي بحفل من نوع خاص. بداية من سعر التذكرة، المكان، الجمهور، أولى كلمات محمد منير في مدينة غاب عنها لأكثر من 10 سنوات "الساحل الشمالي سرقنا شوية، ولكن راجعين معاكو إسكندرية". لم يخلُ الأمر من مفارقة، بعد أن غنى "أنا كنت فين لما شبتي/ أنا هُنت لما إنتي هُنتي/ من تاني أديكي اتولدتي...".

بالعودة نصف قرن إلى الوراء، لم يكن منير أسير صوته. صبغت هيئة الشاب تجربته قبل أن تنطلق أغنيته؛ أسمر، نحيل، شعره مجعد. أغرق فيضان النوبة قريته، فهاجرت أسرته إلى الفقر في أسوان.

كان ابنُ المظلومية التاريخية الصوتَ الأنسب لأفكار من خارج السياق؛ شعراء صنيعة زمن أقل رداءة، حملت كلماتهم رأيًا وانتقادًا وتمردًا أحيانًا؛ فؤاد حداد، صلاح جاهين، أحمد فؤاد نجم، عبد الرحمن الأبنودي، عبد الرحيم منصور وكوثر مصطفى. وموسيقيين عبروا بالموسيقى عما عجزت عنه الكلمات؛ رومان بونكا، أحمد منيب، فتحي سلامة، حسين الإمام، ويحيى خليل.

كانت كل أغنية مزيجًا من تمرد فني وموسيقي؛ بعد الطوفان، اتكلموا، يا إسكندرية، طفي النور، موال الصبر، بره الشبابيك، حدوتة مصرية، إيه يا بلاد يا غريبة، يا عروسة النيل، شجر اللمون، المدينة، اتكلمي، ساح يا بداح.

حمل صوت منير في الثمانينيات والتسعينيات موقفًا أيديولوجيًا رغم ابتعاده عن الاشتباك السياسي بإبداء الرأي أو اتخاذ المواقف على مر السنين. بينما بدا لجمهوره أن أغانيه تكفي، اعتبروها سلاحًا أقوى وأكثر فاعلية، فحسبوه على تيار بعينه، انتمى إليه رفقاء رحلته من شعراء وملحنين، كلعنة لا يمكن الانسلاخ منها، ولو حاول عبر تصريحات منفلتة بين حين وآخر، وبعضها سبقت أغنياته على المسرح لجمهور حسبه متمردًا.

 

من تحت الكوبري إلى بلاط الملك

في حفله الأخير بالإسكندرية، في 15 يوليو/ تموز 2022، على شاطئ أحد الفنادق التابعة للقوات المسلحة، أعلن الكينج عمّن اعتبرهم "امتدادًا للأغنية المصرية". اختار الثلاثي النوبي أعضاء فرقة بلاك تيما، ليشاركونه على المسرح غناء أولى فتوحاته الغنائية عام 1977 علموني عينيكي، ويحققون حلمًا سيطر عليهم منذ أسسوا فرقتهم عام 2004 "مهما قلنا مش هنقدر نوصف إحساسنا باللحظات اللي غنينا فيها مع الأب والقدوة الملك محمد منير.. حلم واتحقق الحمد لله".

كان اختيار بلاك تيما محل إعجاب بعض الجمهور بالحفل، قالت واحدة من الحاضرين إنه "انتصار لجيل نحت في الصخر عشان يوصل".

في العام 2021، كان بلاك تيما على موعد مع حفل "ضخم" في استاد القاهرة الدولي. احتفل الفريق بإنجازه، وكتب قائده أمير صلاح الدين على فيسبوك "بدأ الفريق رحلته الفنية صيف 2004 من ساقية الصاوي تحت كوبري 15 مايو، أمام جمهور لا يتعدى 160 متفرج. صيف 2021 يكمل الفريق مسيرته ويغني في استاد القاهرة الدولي أمام 30 ألف متفرج، وبحضور رئيس جمهورية مصر العربية السيد عبد الفتاح السيسي".

وللألفية حكاية ليست ككل الحكايات. مع انطلاقها، بدا أن شرايين السياسة في طريقها إلى انسداد، تدهور الاقتصاد واتسعت الفوارق الاجتماعية، بات الأنين مسموعًا. وبالتزامن خفتت حدة صوت منير، مع تقدم العمر وابتعاد أو وفاة عرّابي مسيرته الفنية من شعراء وملحنين، وتغير سوق الأغنية المصرية بشكل عام بصعود ألوان موسيقية جديدة، جذبت إليها أجيالًا أحدث سنًا وتجربة.

ما بين "إزاي".. و"أبطال رجالة"

حاول الكينج مواكبة ذاك التحديث، وفشل في الأغلب. انخفضت شعبيته حتى بين جماهيره. وكان التغيير محتمًا. انطلقت شرارة الثورة في العام 2011. وأصدر أغنيته إزاي، التي اكتسبت رواجًا أكبر بين أغاني تلك الأيام. اعتبر منير نفسه وقتها محرضًا على الثورة طوال 30 عامًا، وقال إن "غنائى لـ25 يناير بالنسبة لي بدأ مع أولى أغنياتي، لكن لهجتى ازدادت عنفًا في إزاي".

لكن ما بعد إزاي، لم يكن مثلما قبلها أبدًا. جرت في نهر السياسة مياه كثيرة. مياه قلبت مصير الأحداث رأسًا على عقب. تراجعت مطالب يناير بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. قبل أن يتم الانقلاب عليها بعد الثالث من يوليو 2013. كُتم الهتاف. ولم يكن الفن بمنحى عن ذلك كله. الفن مرآة المجتمع. والغناء صوته. 

في الذكرى العاشرة لثورة يناير، فاجأ منير جمهوره بـأبطال رجالة على ألحان ليست بعيدة عن إزاي. لم تكن المشكلة في طرحه لأغنية احتفالًا بعيد الشرطة، تخليدًا لبسالة قواتها في مواجهة الاحتلال البريطاني بموقعة الإسماعيلية عام 1952. هي ذكرى مشرفة تفتخر بها مصر، وعليها أن تفتخر.

لكن الإشكالية، وبغض النظر عن ضعف الأغنية فنيًا، يبرزها السياق الذي طرحت فيه. اعتبر "المنايرة" أن غناءَه "إهداءً من حزب مستقبل وطن إلى وزارة الداخلية"، يُفقدُه استقلاليته وتمرده اللذين عهدوهما. فضلًا عما اعتبروه انحيازًا لرؤية النظام الحالي الذي يرى في ثورة يناير مؤامرة تقتضي محوها، ولو بإزاحة احتفالات عيد الشرطة لعيد الثورة يوم 25 يناير.

وللإنصاف، لا يمكن محاكمة منير من خلال تلك الزاوية الضيقة، أو تحميله بأكثر مما يحتمله كمغنٍّ. هو فنان أتيحت له الفرصة ليصنع إرثًا قيمًا، لا يصح المطالبة بتجاهله نكاية في مواقفه.

شجر الليمون علاجًا للتطبيع

لا يختلف الأمر فيما يتعلق بإعلان منير عزمه تنظيم جولة غنائية في الأراضي المحتلة، بعد حوالي شهر واحد من إطلاقه أغنية أبطال رجالة، واصفا نفسه بـ"مندوب السلام" على غرار الرئيس الراحل أنور السادات، ومبررًا "أنا فنان والفن ليس له وطن".

لم يكن ممكنًا تلخيص ذلك الإعلان في إطار فني فقط. يعبر الفن حدود الزمان والمكان عندما لا يتورط فيما هو مشين. وباعتراف المجتمع الدولي، إسرائيل دولة احتلال، متورطة في جرائم حرب وفصل عنصري، مما ينفي عنها أي ادعاءات سلام.

كما لم يكن ممكنًا كذلك فصله عما يدور في إقليم يتصارع لإعادة رسم خرائطه. ولم يُبدِ النظام في مصر رفضًا قاطعًا لذلك النوع الجديد من التطبيع مع إسرائيل. 

بقدر الغضب الذي يعكس اتساع الرفض الشعبي للتطبيع في مصر، وما ناله من انتقاد على وسائل التواصل الاجتماعي، تراجع الكينج عن موقفه، دون أن يعلن ذلك بالتصريح، لكن ربما بالتلميح على الطريقة القديمة.

وسط حفل الإسكندرية، وجد الجمهور نفسه على موعد مع شجر الليمون، غير ملحقة بمقدمة من منير كما اعتاد مع كل أغنية.

لم تكن مصادفة، أن تكتسب أغنية شجر الليمون، تلك المكانة والانتشار في العام 1981. الكلمات كتبها الشاعر الكبير عبد الرحيم منصور، ولحنها أحمد منيب، وغناها منير في العام الذي أعلنت فيه إسرائيل ضمها هضبة الجولان رسميًا، وبعد عام واحد من إصدار الكنيست قانون الأساس الذي يزعم أن "القدس هي العاصمة الموحدة لإسرائيل".

"شجر الليمون دبلان على أرضه/ بيني وبينك أحزان ويعدوا/ بيني وبينك أيام وينقضوا"؛ كانت روح المقاومة العربية ضد الاحتلال تلهم أغنياتها. "وكل شيء بينسرق مني/ العمر من الأيام/ والضي من النني/ وكل شيء حواليا يندهلي/ جوايا بندهلك/ يا ترى بتسمعني".

اجتذبت الأغنية تصفيقًا حادًا في الإسكندرية. واعتبر شاب في أوائل الثلاثينيات من عمره، غناءها في فندق تابع للقوات المسلحة، في التوقيت الذي ينطلق فيه قطار التطبيع العربي مع إسرائيل بسرعة الصاروخ، تراجعًا غير مباشر عن موقفه السابق.

كان حفل الإسكندرية معبرًا عن إرادة جيل واعٍ، أحب منير لتمرده، وتمنى أن يبقى كما عهدوه. وفيما طغى شباب التسعينيات مقابل شباب الألفية الجديدة على الحضور، كان هناك تمثيلًا معتبرًا لمن هم في الأربعينيات والخمسينيات من العمر، ونساء محجبات ومنتقبات وأخريات يرتدين ملابس أكثر انفتاحًا.

الحفل العابر للطبقية احتضنته منطقة سيدي جابر، المصيف الرسمي والشعبي للمصريين منذ الأربعينيات الذي تغيرت ملامحه في السنوات الأخيرة بكتل أسمنتية استثمارية على شاطئ عروس البحر، كشاهد على اتساع الفوارق الطبقية.

جاء الحفل أيضًا بعد أيام قليلة من حفل عمرو دياب بمدينة العلمين الجديدة، بدأت فيه سعر التذكرة من 1500 ووصلت إلى 10 آلاف جنيه، كحال معظم حفلات تلك الأيام. بينما أصر منير أن تبدأ تذكرة حفله من 250 وتتوقف عند 450 جنيهًا، قائلًا لجماهيره "أنا تذكرتي رخيصة علشان جمهوري غالي".

بدا منير منسجمًا مع تلك الحالة الشعبية، وسط تنوع جماهيري أشعل حماسه، أخلعه ثوب العَجَز، وجدد شبابه، وتمرده. قالت شابة في منتصف الثلاثينيات، إن منير محا بحفله هذا، كل ما بداخلها من غضب تجاه مواقفه في السنوات الأخيرة. فيما أكسبه البكاء على صديقه الملحن الراحل رومان بونكا تعاطفها الشديد، عندما نعاه بـ"فيه ضحكت دموعنا وفيه بكيت شموعنا وضاع فيه الصديق.. أنا بعشق الطريق".

نادى الفنان بشوق "يا إسكندرية"، التي غاب عن "عجايب" بحرها طويلًا. فرفع شاب، في العشرينيات من عمره، جاء من القاهرة خصيصًا، أصابعه الثلاثة، وصرخ مع صرخته بنهاية الحفل "يا ناس يا ناس يا مكبوتة هي دي الحدوتة".