في إحدى حفلات محمد منير الكثيرة التي بدأت ألاحقها في دار الأوبرا وأماكن أخرى منذ 2004، وبعد أن دخل علينا بأغنية هيلا هيلا التي تقول إحدى جملها "جوة ديوان المظالم بيحكي محكوم لحاكم عن الليالي الكحيلة"، وقف وحيّا جمهوره ورحب بنا ثم قال "وأنا عايز أقول يعني إن مصر عمر ما كان فيها مشكلة بين محكوم وحاكم".
جاءت الملاحظة في حينها دخيلة على السياق كله؛ الفنان المتمرّد الذي يشبهنا بملابسه البسيطة الملونة وشعره المفلفل كيفما اتفق يتقافز بخفة على المسرح، وهو يغني كلامًا تحريضيًا كتبه شعراء قضوا أعمارًا في السجون، إلى درجة أن الرقيب تدخل في أغانيه مرتين بمقصّه الخشن، وهذه بالذات جعلت منه أيقونة، وأصبحت حكايةً يتناقلها محبوه في منتديات الإنترنت بالكثير من الفخر وهم يتحدثون عمّن يغنّي لهم بصدق ولا يأبه إذا أزعجت أغنياته الرقيب.
في تلك الأيام كان منير حريصًا على إقامة حفلين سنويًا في دار الأوبرا، واحد في رأس السنة وآخر في الصيف. لا يكتفي الفنان بتحدي الرقيب، ولكنه أيضًا الوحيد من بين مطربي الصف الأول من يقيم حفلًا ثمن تذكرته 35 جنيهًا. هكذا كنا نفكر في ذلك الوقت، وهكذا كنا نقرأ على المنتديات، ولهذا أيضًا، بدت الملاحظة دخيلةً على السياق، قبل أن يحذف الفنان هذه الجملة المثيرة للجدل في المرات التالية التي صعد مرددًا هيلا هيلا على المسرح.
كان معروفًا بين رواد الحفلات في هذه الفترة أن منير إذا بدأ الحفل بأغنية هيلا هيلا فإن هذا يعني أننا سنسمع أغانٍ قديمة أكثر وموسيقى أكثر جموحًا، وهو ما أفسدته الملاحظة الدخيلة على السياق في تلك المرة، فمن موقعي بين الجمهور، سمعت لفظًا نابيًا من شاب متحمس أغضبه أن يتنكر الفنان لتاريخه، أما أنا ففكرت في تساؤل بدا لي بديهيًا وقتها؛ لماذا لم يخبر منير عبد الرحيم منصور عندما قرر غناء القصيدة، أن مصر "عمر ما كان فيها مشكلة بين محكوم وحاكم"؟ كنت أكثر اندفاعًا وغضبًا في ذلك الوقت، شاب جامعي يواظب على شراء العربي صباح كل اثنين ليستمتع بالفرجة على عبد الحليم قنديل وهو ينزع هالة القداسة عن مبارك في مقالاته أسبوعًا تلو آخر، ويشارك بين حين وآخر في مظاهرات حركة كفاية، ويضع صورة لزياد رحباني وخلفه جيفارا على desktop الكمبيوتر الجديد.
كان كل شيء من حولنا في مطلع الألفية يتغير بسرعة، لا يتعلق الأمر فقط بهيبة مبارك التي بدأت تتهاوى دون أن يدرك الفنان ذلك وهو يهذب أغانيه وينظفها مما فيها من تمرد، بل أيضًا بهذا الجهاز الذي أصبح فجأة قطعة أثاث رئيسية في بيوت أبناء الطبقة الوسطى، بقدرته العجيبة على عرض الأفلام وتشغيل الأغاني وإنهاء الأعمال والاتصال بالإنترنت. شاهدنا الأغاني والأفلام وهي تتحول إلى ملفات افتراضية لا نستطيع لمسها كشرائط الكاسيت والفيديو، ولكننا قادرون على نسخها إلى ما لا نهاية، ليصبح تبادل الهاردات ونقل محتواها طقسًا ثابتًا بين الأصدقاء.
اشترى أبي هذا الكمبيوتر عام 2003 من شخص يعمل في تجميع الأجهزة وبيعها اسمه شفيع، استغرق تجميع الجهاز بضعة أيام قبل أن يعود به أبي إلى البيت مع هارد ديسك سعته 40 جيجابايت، افترضت أنه فارغ تمامًا، فأخبرت الأصدقاء أن يتأهبوا. ولكن افتراضي لم يكن في محله، فعندما فتحت الكمبيوتر للمرة الأولى كان هناك فولدر واحد اسمه "محمد منير"، بداخله جميع الألبومات التي أطلقها مرتبة بتواريخها من علموني عنيكي وحتى قلبي مساكن شعبية، والأغاني التي قدمها في الأفلام والمسلسلات التي شارك بها، مع ملفات أخرى لجلسات نادرة مع أحمد منيب وأغانٍ نوبية غير معروفة.
قضيت شهورًا أتجول في هذا "الفولدر" وأكتشف ذلك المغني الأسمر الذي تجاهلته سنين طويلة. تحوّلت أغانيه شيئًا فشيئًا إلى الخلفية التي تصاحب كل الأشياء؛ في ساعات الدراسة وتصفح الإنترنت وأوقات اللعب أيضًا، إلى الآن ما زالت جملة "يفرض الإنسان شروطه" تذكرني بالحوادث الدامية على industrial road في لعبة Need for Speed Porsche.
في البداية كنت أسمع الأغاني كلها دون تمييز؛ عشرات الأغاني أضعها جميعًا في playlist وأتركها لعشوائيتها. شيئًا فشيئًا بدأت أنتبه إلى أن هناك أغنيات أفضل من غيرها، وهناك أغنيات تتشابه مع بعضها وتتمايز عن أغنيات أخرى. بدأت هنا أدرك أن الرجل مرَّ في مسيرته بمراحل مختلفة وضعت يدي عليها وسمعتها شريطًا تلو الآخر. أمتن لشفيع مرتين؛ مرة لأنه ترك هذا الأثر الذي سيغير كل شيء، ومرة ثانية لأنه تركه مرتبًا.
كلمات الأغاني جيدة، أصلية لا تشبه الاكليشيهات المكررة في بقية الأغاني، الموسيقى أكثر من جيدة، ما هذا الحس المغامر في علموني عينيكي؟ ولماذا تفقدني كل أغاني بنتولد الإحساس بالجاذبية؟ وكيف مرَّ اتكلمي من تحت مقصلة الرقيب؟ وما هذا التنوع الموسيقي في وسط الدايرة؟ ولماذا قل بعده ومنذ مطلع التسعينيات لحساب مشاريع موسيقية دخيلة تشبه ما حولها في السوق ولكن بجودة أفضل؟
أصبحت أجمع ألبومات القديمة منير واحدًا تلو الآخر، فما زال الكاسيت هو الأصل لسماع الموسيقى. من الألبومات تعرفت على أسماء الشعراء والملحنين، وجدت أسماء أعرفها؛ فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحيم منصور والأبنودي وبليغ حمدي وكمال الطويل وهاني شنودة وأحمد منيب، وآخرين لم أكن أعرفهم من قبل. ثم؛ من بحق الجحيم هذا اليحيى خليل الذي صنع معجزة شبابيك؟
على الإنترنت وجدت الإجابات، قرأت عن ذلك الشاب النوبي الموهوب الذي اكتشفه زكي مراد في نهاية السبعينيات وقدمه إلى عبد الرحيم منصور وأحمد منيب وهاني شنودة، ليبدأ الرباعي مشروعًا سيغير شكل الموسيقى جذريًا في مصر بعد فترة الفراغ القصير التي خلفها رحيل أم كلثوم (1975) ثم عبد الحليم حافظ (1977) وتراجع شعبية هذا النمط من الغناء. اعتمد مشروع منير على دمج الموسيقى النوبية بسلمها الخماسي مع الجاز، وأشعار تتجاوز الأغاني الرومانتيكية التي سادت طوال عقود لتقدم منظورًا آخر لأغاني الحب وتتناول مواضيع أخرى مثل الاغتراب في المدينة، مع مظهر متمرد على الصورة النمطية للفنان بحلته الأنيقة وشعره المصفف بعناية.
لاحقت منير كثيرًا؛ تجربته الغنائية المؤسِّسة الممتعة المتنوعة المليئة بالتجريب وبلحظات تحدي السلطة ومناوشتها، وحفلاته في الأوبرا، في قلعة قايتباي، في الصالة المغطاة لاستاد القاهرة مع فريق ألماني اسمه شالسيك براس باند علقت صورة أعضائه مع منير سنين طويلة في غرفتي، أكاديمية أخبار اليوم مع الشاب خالد، تناولت وجبات موسيقية دسمة وكانت توزيعات شريف نور وأعاجيب عبد الله حلمي في حينها شديدة الحيوية لا تفتقد جرأة التجريب، وفي أحيانٍ كثيرة كانت تتفوق على النسخ الأصلية من الأغاني.
بحثت عن أسماء الشعراء والملحنين في الألبومات القديمة التي كنت أجمعها، قرأت قصائد لم أكن أعرفها وطبعت بعضها، سمعت ألحانًا أخرى لهاني شنودة وأحمد منيب وعرفت من هو يحيى خليل، بحثت عن النسخة الأصلية من حكمت الأقدار وعرفت من هو محمد وردي وسمعت أكثر لرومان بونكا، التقيت بأصدقاء حضرنا الكثير من حفلاته معًا وتعرفت منهم أيضًا على فرقٍ موسيقية جديدة، حدثنا أحدهم عن فريق واعد اسمه وسط البلد بينما زرت مع آخر الملحن وجيه عزيز في منزله. وفي ذلك أنسب الفضل كله لمنير، الجسر الذي مررت عبره لأكتشف موسيقى أكثر تنوعًا وعالمًا أكثر رحابة.
كنت، في تلك اللحظات التي أتعرف فيها على محمد منير وأستكشف العالم الذي يختبئ خلفه، كلما نظرت إلى الوراء في سيرة الفنان أجد مشروعًا فنيًا متجانسًا في أدواته وأفكاره وشخوص صانعيه، ينتج أغنياتٍ تعكس انحيازاتٍ اجتماعيةً وسياسيةً واضحةً دون فجاجة أو صياح، ولكن المستقبل لم يكن مشرقًا بالقدر نفسه، مع الإصرار على إنتاج الفن الرديء من أحمر شفايف إلى أهل العرب والطرب، والإمعان في تأكيد أن دفة الانحيازات تحولت، مع تبدّل صورة الفنان المتمرد بآخر يمكن استئناسه وتدجينه.
لم يكن تنصّل منير من كلمات هيلا هيلا بنفيها أولًا ثم تهذيبها لتتناسب مع رغبات الرقيب في لحظته متجانسًا مع مشروع الفنان واستقبال جمهوره له، ولكن الآن وبعد نحو 15 سنة من إلقاء هذه الملاحظة العابرة، أصبح واضحًا أنها لم تكن دخيلة على السياق بقدر ما كانت لحظة تأسيس سياق مغاير، تندثر فيه الملامح التي ميزت تجربته في الثمانينيات شيئًا فشيئًا حتى انتهى بنا الحال إلى "بنت اللذينا قدرت علينا"، وتحل أغنيات جيل المستقبل وعيد الشرطة محل تلك التي تضايق الرقيب، وتستبدل فيه "صداقة العمر" مع مرتضى منصور برفقاء البدايات، وقد ينتهي بصاحبه في النهاية إلى الغناء في إسرائيل.