تعقد هذه الأيام لجنة برلمانية في الكونجرس الأمريكي، جلسات استماع منقولة على الهواء للتحقيق فيما حدث في واشنطن يوم السادس من يناير/ كانون ثاني عام 2020 من قِبَل أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب باقتحام مبنى الكونجرس، لمنع التصديق على صحة نتائج انتخابات الرئاسة بفوز المرشح الديمقراطي آنذاك جو بايدن. وهي نتيجة لم يعترف بها ترامب حتى الآن، رغم تأكيد وزير عدله له بأنه خسر وأن القول بسرقة الانتخابات أو عدم صحة إجراءاتها في بعض الولايات محض هُراء!
يصف الديمقراطيون ما حدث في هذا اليوم بمحاولة انقلاب على النظام الدستوري الأمريكي. وكان هناك خوف يومها أن يصر ترامب على عدم الخروج من البيت الأبيض. لكنه أدرك أن القوات المسلحة لن تساعده للبقاء في السلطة وبعد أن خذله وزراؤه ومساعدوه حتى في وزارة العدل برفض طلبه منهم التحرك للطعن في النتائج التي خسر محاموه كل القضايا التي رفعوها بهذا الشأن أمام القضاء، وكان عليه أن يلتزم مرغمًا بالدستور.
ثلاثة تعديلات دستورية أمريكية تمنع أمثال ترامب من البقاء دقيقة واحدة في المنصب بعد نهاية مدته، سواء كانت فترة واحدة لأربع سنوات أو فترتين لثماني سنوات أو حتى لفترة ونصف أي لست سنوات فقط. ولا يملك رئيس تعديل الدستور ولو بموافقة الكونجرس والشعب بحيث لا يُطبق التعديل عليه، بل ينطبق فقط على من يأتي بعده.
التعديل رقم 20 في الدستور الأمريكي يحدد الساعة 12 من ظهر يوم 20 يناير/ كانون الثاني من نهاية فترة السنوات الأربع لكل رئيس، كموعد لنهاية ممارسة مهامه، ونفس الموعد يوم 3 من نفس الشهر لتولي برلمان جديد السلطة التشريعية. وبالتالي، يقرر البرلمان التصديق من عدمه على نتيجة انتخاب الرئيس الجديد أو الفترة الثانية للرئيس الحالي. وحتى لو كان هناك خلاف على الرئيس المنتخب أو تُوفي المنتخب قبل تنصيبه فلا يحق للرئيس الحالي الاستمرار ولو دقيقة واحدة في السلطة، إذ يتم اختيار نائب الرئيس المنتخب لتولي المنصب أو حتى مَن يحدده قائمًا بالأعمال رئيسا مجلسي النواب والشيوخ. بالتالي، اضطر ترامب لمغادرة البيت الأبيض قبل هذا الموعد بساعتين، احترامًا مرغمًا للدستور لكنه لم يحترم البروتوكول بعدم ذهابه إلى حفل تنصيب الرئيس المنتخب في مقر الكونجرس لتسليمه رمزيًا السلطة!
لكن الخوف من محاولة ترامب الانقلاب على الدستور مرة أخرى لو رشح نفسه بعد عامين لفترة ثانية للرئاسة وأُعيد انتخابه، ستكون أصعب لأن التعديل الدستوري رقم 22 ينص على أن "لا يجوز انتخاب شخص لمنصب رئيس الجمهورية أكثر من مرتين (تم تحديد كل فترة أربع سنوات).." كما تقضي هذه المادة بأنه لا يجوز لمن خدم في منصب الرئيس محل رئيس منتخب آخر، سواء مارس الشخص مهامه كرئيس محل غيره أو كقائم بأعمال الرئيس ولمدة تزيد عن عامين، فلا يجوز انتخابه لأكثر من مرة واحدة بعد هاتين السنتين، أي بحد اقصى ست سنوات أو فترة رئاسية ونصف فقط.
التعديل رقم 25 يحدد كيفية تولي نائب الرئيس مهام رئيس الجمهورية، في حالة عزل أو وفاة أو عجز الرئيس عن ممارسة مهام منصبه. وبالتالي، اضطر الرئيس ريجان مرتين في الثمانينيات إبلاغ الكونجرس بتولي نائبه جورج بوش (الأب) مهام الرئاسة لساعات في حالة تخديره لعملية جراحية أو للتعافي من جراح محاولة اغتياله. وهو ما فعله بالمثل بعد عقدين الرئيس بوش (الابن) بنقل السلطة لنائبه تشيني مرتين للتخدير ساعتين أو ثلاثًا لفحوص وإجراءات طبية بسيطة!
لم يقل أحد في الولايات المتحدة إن أربع سنوات غير كافية لضمان الاستقرار السياسي، أو لجذب الاستثمارات الخارجية!
أذكر مقولة المستشار علي عبد العال رئيس مجلس النواب المصري السابق، مبررًا عام 2019 تعديل الدستور المصري بجعل مدة الرئاسة ست سنوات لفترتين بدلًا من أربع سنوات، قائلًا "أي مستثمر يأتي إلى البلاد يسأل أولًا هل هناك استقرار سياسي من عدمه".
ورغم وجود المادة 226 التي تحظر تغيير المادة 140 بتحديد فترتي الرئاسة بأربع سنوات إلا لوضع مزيد من الضمانات، فلم يكتفِ المشرعون بتمديد كل فترة لتصبح ست سنوات بمجموع 12 سنة، لكنهم طبّقوا المدَّ على انتخابات رئاسية سابقة وهي الفترة الثانية للرئيس السيسي في انتخابات 2018، التي كان يُفترض أن تنتهي دستوريًا هذ الشهر، وكان انتخابه فيها لأربع سنوات فقط وبحد أقصى ثماني سنوات لأي رئيس، وفقًا لدستور 2014 الذي تم وضعه في عهد ولايته العسكرية للبلاد.
لقد أضافوا سنتين أخريين دون انتخاب للفترة الثانية. وبعد أن أكدوا في تعديلاتهم "الدستورية" عام 2019 على عدم انتخاب أحد للرئاسة لأكثر من مرتين ولكن لست سنوات في كل واحدة، قرروا وضعًا استثنائيًا لشخص الرئيس الحالي لن ينطبق على غيره، وهو ما سُميَّ بمادة "انتقالية" وهي بالأحرى انتقائية. وتنص على إعطائه حق الترشح وانتخابه لفترة ثالثة، أي بإجمالي 18 سنة. مما يُفترض، لو فاز بانتخابات عام 2024، أن تنتهي عام 2030 إلا إذا حدث تعديل آخر لتمديدها، خصوصًا وأن حاجة مصر لجذب الاستثمارات الخارجية في ازدياد، وبالتالي فإن زيادة فترات الرئاسة ضمانة للاستقرار السياسي وزيادة تدفق الأموال الخارجية على مصر، بمنطق الدكتور عبد العال!
للإنصاف، حين قرر مجلس السيد عبد العال زيادة مدة الرئاسة اختار الحل الوسط بست سنوات بدلًا من أربعة فقط كأمريكا ولم يشأ الذهاب إلى سبع سنوات، التي وجدها معمولًا بها ولو في اليمن فقط، والتي مكث رئيسها المخلوع علي عبد الله صالح أطول فترة لرئيس عربي في المنطقة: 32 سنة.
طبعًا، أي مادة دستورية أو قانون يُشترط فيه بالتعريف صفة العمومية وليس الشخصية، أي لا يمكنك صياغة قانون، ناهيك عن دستور، لينطبق على شخص واحد بالاسم دون سواه. فتلك فرمانات او إجراءات تنفيذية أو إدارية. والدليل على ذلك أن المحكمة الدستورية العليا في مصر أسقطت عام 2017 صحة قانون سنَّه مجلس الشعب عام 1981 بشأن ميراث الرئيس السادات، لأنه متعلق بشخص السادات وليس كل رئيس، أي انه فردي وشخصي يفتقد صفة العمومية!
وحتى لو وضعت مواد دستورية عامة، فقد تعود المصريون فيما يتعلق بتغيير الدستور منذ عرفوا النظام الجمهوري في عهد "الضباط الأحرار" أن تتغير بيد الشخص نفسه الذي وضعها في بداية حكمه. أبرز مثال على ذلك، الرئيس السادات الذي غيّر بعد عام من موت الرئيس عبد الناصر الميثاق والدستور، ووضع في دستور 1971 المادة رقم 76 التي تحدد لأول مرة فترة الرئاسة بمدتين فقط. لكنه بعد اقتراب نهاية فترته الأخيرة، ونزولًا على رغبة الشعب ومجلسه وسيداته عام 1980، عدُّلت هذه المادة في الدستور لتفتح المجال لإعادة انتخاب الرئيس لمدد غير محدودة.
للأسف، لم يسعف القدر الرئيس السادات للاستفادة من التعديل لاغتياله في العام التالي. وجاء بعده الرئيس مبارك ليهنأ بثلاثين سنة في الرئاسة احتراما لتعديل دستور السادات عام 1980.
ربما تكون مشكلة الدساتير المصرية خلافًا للدستور الأمريكي أن الدستور المصري يوُضع بـ "نوايا حسنة" أي بافتراض حسن نية الحاكم، وبتعديله أو تغييره تختفي المادة في الوثيقة السابقة، فتختفي معها آثار العبث. لكن الدستور الأمريكي موضوع بافتراض سوء نية الحاكم.. ويتم تعديله، أو بالأحرى إضافة 27 بندًا فقط حتى الآن للتعديل أو التفصيل دون حذف أي كلمة من الوثيقة التي صاغها مؤسسو الدولة عام 1787 وبقاء البنود التي تم تغييرها.. والأهم، مع ضمان أن أي تعديل لا يستفيد به ولا يُطبّق على الرئيس الذي أقِرَّ التعديل في عهده.
إنه الفارق بين من لا سيادة لديهم إلا لوثيقة الدستور وليس لحاكم، وبين من يقدمون لكل حاكم وثيقة تلو الوثيقة كقرابين، قائلين منحنين "دستور يا سيادنا".