بسبب الخلاف على تفسير أربع كلمات في التعديل الثاني للدستور الأمريكي عن حقوق المواطن، وهي "الحق في حمل السلاح" (the right to bear arms) فشلت محاولات عدة رؤساء وزعماء سياسيين أمريكيين في الحد من نوع السلاح الناري الذي يحق للمواطن أن يشتريه ويحمله! وبالتالي، وقفوا عاجزين أمام تكرار المذابح الجماعية بالأسلحة الرشاشة ضد مدنيين عزل، مثلما وقف الرئيس الحالي جو بايدن عاجزًا ومعزّيا أو مواسيًا فقط يوم الأحد الماضي، لعائلات تسعة عشر طفلًا وتلميذًا بمدرسة ابتدائية حصد أرواحهم مع اثنين من المدرسين وبنيران بندقيتين رشاشتين، شاب في التاسعة عشرة من عمره.
اشترى الشاب البندقيتين بشكل قانوني في ولاية تكساس بمجرد وصوله سن الثامنة عشرة؛ قدّم للمتجر فقط ما يثبت سنه، وكأنه يشتري علبتي بيرة، ودفع أقل من ألف دولار لكل بندقية من طراز AR-15 وهي الموازية كسلاح "مدني" للرشاش الآلي M-16. وتحمل البندقية خزينتين للأعيرة النارية، بكل خزينة ثلاثون طلقة يتم إفراغها تباعًا بضغطة أصبع واحدة لكل خزينة. تنطلق الرصاصة بسرعة تفوق ثلاث مرات سرعة الصوت، وهي مصممة بحيث تقتل، ولا تصيب فقط، لتقضي على أكبر عدد من الكائنات الحية بتمزيق أنسجة الجسم وتفتيت العظام وإحداث نزيف قاتل!
سبق بايدن إلى ولاية تكساس بيومين، سلفه الرئيس ترامب، ليس للعزاء في بلدة يوفالدي ولكن لحضور المؤتمر السنوي في مدينة هيوستن لأقوى جماعة مصالح وضغط (لوبي) في أمريكا، وهي جمعية السلاح الوطنية الأمريكية NRA التي تنفق ملايين الدولارات لمنع أي قيود على حيازة الأسلحة النارية والحد من فتكها، بحجة أنه سلاح للصيد البري، وبدعوى أنه لو منعنا المواطنين الصالحين من شراء السلاح بشكل قانوني لحماية أنفسهم ومنازلهم وممتلكاتهم فلن يحمل السلاح إلا المخالفون للقانون من المجرمين والأشرار!
دونالد ترامب، شأنه شأن أغلب الجمهوريين من حزبه، أبدى أسفه لقتل الأطفال، لكنه حذر من دعوات السياسيين (الديمقراطيين من أمثال بايدن وحزبه) لوضع قيود على الأسلحة النارية، مستغلين على حد وصفه "دموع الأمهات الثكالى"، مؤكدًا أن حمل السلاح حق دستوري لا مساس به!
المفارقة، أن أمن الرئيس السابق المدافع عن حرية السلاح اشترط على كل حاملي السلاح من الحاضرين في مؤتمرهم وحفلهم السنوي بولاية تكساس المكلومة، ألا يدخلوا القاعة أثناء خطاب ترامب، وهم المؤيدون له، بسلاحهم، الفخورين به، حفاظًا على سلامة الزعيم!
المفارقة الأكبر، أن الحكمة من وضع هذا الحق الدستوري (في حمل السلاح) للمواطن الأمريكي والذي كان مرتبطًا حتى في نص الدستور، المُصدّق عليه منذ عام 1791، أي من قرنين وثلث، بحق الانضمام لميليشيا مسلحة، وهو ضمان في الدستور لكي لا تتغول الدولة ويصبح لها جيش قوي يقمع الحرية في داخل البلاد لو كان المواطنون عُزّلًا. أي أن واضعي الدستور ومؤسسي الدولة الأمريكية كانوا يصرون على تسليح المواطنين لمواجهة حكومتهم إذا طغت أو حاول جنرالات الجيش أن يستأثروا بالسلطة والحكم أو يعصفوا بالدستور ومبادئ الفصل بين السلطات ورقابة كل منها على الأخرى وضمان تداول السلطة سلميا!
لكن الواقع أن الولايات المتحدة ليس لديها فقط جيش قوي، بل هو الأقوى عالميًا، ناهيك عن أنه لا قِبل للمواطنين بالوقوف أمامه بأسلحتهم الرشاشة، وشبه الآلية؛ ولو كانت بنادق فتاكة وليست مجرد مسدسات كما يود الديمقراطيون بتحديدها!
معضلة "الديمقراطية" الأمريكية التي كثيرًا ما جيّشت قواتها في حروب خارجية رافعة شعارات الحرية والديمقراطية لتغيير أنظمة معادية للمصلحة الأمريكية، أنها لم تواجه أو تضع ضمانات، إن وُجدت، لاحتمال استيقاظ المارد العسكري النائم في الداخل، لو حدث خلاف بين المدنيين على أحقية الحكم، واضطُر الجيش للتدخل.
إذ لا يكفي حسن النوايا السابقة بأن الجنرال جورج واشنطن، المُظفّر بحرب الاستقلال 1776، وافق بحسن نية، ودون رغبة، بعد أكثر من عقد على خلع زيه العسكري، وعلى قبول الترشح ليكون أول رئيس للجمهورية الجديدة عام 1790؛ ثم الإصرار منه طوعيًا على الاكتفاء بفترتين قبل نحو قرنين من وضع نص دستوري بألا تزيد مدة حكم أي رئيس عن ثماني سنوات.
كذلك الأمر، حين رشح الجنرال أيزنهاور نفسه للرئاسة بعد عقد من خلع زيه العسكري وانتهاء خدمته في الحرب العالمية الثانية. وفي عهده تم التصديق على هذا التعديل الدستوري بفترتين للرئاسة، حتى لايتكرر الاستثناء الوحيد للرئيس فرانكلين روزفلت، الذي انتُخب رئيسًا أربع مرات، علمًا بأنه كان مدنيًا ومُقعدًا.
ومن أجل ضمان سيطرة المدنيين على العسكريين، لتعويض حاجة الدولة لجيش نظامي أقوى سلاحًا من سلاح المواطنين، لا بد وأن يكون مدنيًا، حتى وزير الدفاع، شأنه شأن باقي الوزراء والمسؤولين في الدولة وكذلك رئيس الجمهورية. وينص القانون الأمريكي على ضرورة مرور ما لا يقل عن سبع سنوات من ترك الخدمة العسكرية حتى يتمكن العسكري السابق من تولي منصب عام أو يصبح قياديًا مدنيًا، شأن غيره من المدنيين.
وبالتالي، فإن أغلب وزراء الدفاع في التاريخ الأمريكي كانوا مدنيين كمحامين وغير ذلك، باستثناءات قليلة تطلبت موافقة من الكونجرس بتخفيض المدة التي قضت منذ التقاعد، قبل تولي أي عسكري سابق لوزارة الدفاع. فقد صوت الكونجرس بالاكتفاء بفترة حياة مدنية أقل من سبع إلى خمس سنوات، في حالتي كل من وزير الدفاع الحالي الجنرال أوستن، وكذلك الجنرال ماتيس وزير الدفاع السابق في أول عهد ترامب، علمًا بأن خدمتيهما العسكرية السابقة على التقاعد لم تصل لرتبة عالية كرئيس أركان أو هيئة أركان.
بيد أن جرس الإنذار لمستقبل الديمقراطية الأمريكية، دق يوم السادس من يناير 2020 قبل أسبوعين من تولي الرئيس المنتخب بايدن الرئاسة، ويوم خطاب الرئيس المنصرف ترامب في إنصاره المحتشدين بواشنطن غير المعترفين مثله بسلامة الانتخابات، بل مقتنعين بأنها "سُرقت منه ومنهم"!
يومها اقتحم أنصار ترامب مبنى الكونجرس أثناء انعقاده المشترك بمجلسيه للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، وفي محاولة من المتظاهرين وقف التصويت بعد أن خذلهم نائب الرئيس بنس من الحزب الجمهوري، ووافق على التصديق بصحة النتائج مع زعيمة الديمقراطيين نانسي بيلوسي (82 سنة) رئيسة مجلس النواب. خلال هذين الأسبوعين، كان من الممكن لأي جنرال متطلع للحكم أن يقفز على السلطة بحجة حماية أمن البلاد من هذا التصارع الحزبي بين عجوزين مدنيين تجاوزا سن السبعين!
وتبين لاحقًا أن رئيسة مجلس النواب السيدة بيلوسي اتصلت بالجنرال مارك ميللي الرئيس الحالي لهيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة، وهو في منصبه منذ عهد ترامب، للتأكد من أن ترمب سيخرج من البيت الأبيض بحلول العشرين من يناير، ليتم نقل السلطة لبايدن بشكل سلمي!
وخلال هذه الفترة الحرجة من وجود ترامب في الحكم وهو رافض للاعتراف بخسارة الانتخابات، ويخشى البعض من أن يفتعل حربًا أو يستخدم حقيبة الأزرار النووية، أقر الجنرال ميللي في أحاديث لاحقة بأنه اتصل بنظرائه في الصين و روسيا لطمأنتهم من عدم وجود أي تهديد لأحد، وإبقاء قنوات الاتصال العسكري مفتوحة لتجنب أي سوء للفهم لدى أي طرف!
مع استمرار الانقسام الحزبي الحاد والاستقطاب السياسي بل والمجتمعي في أمريكا، بين اليمين المحافظ الجمهوري المتمسك بأقصى حقوق المواطن في حمل السلاح، أي غالبًا جمهوره من المسيحيين البيض، خصوصا الأغنياء، من جهة، والليبراليين التقدميين الديمقراطيين الداعين لوضع قيود على حمل السلاح ونوعه، وجمهور هؤلاء يشمل أغلب المهاجرين والملونين وغير المتدينين، خصوصا الفقراء، من جهة أخرى، سوف يزداد في الكثير من الانتخابات القادمة حملات التشكيك في نتائجها وصحة إجراءاتها. مما قد يفتح الباب لمخاوف الحاجة إلى تدخل المؤسسة العسكرية لحسم الصراع أو ضمان انتقال السلطة.
وقتها، سيكون هَمَّ العسكريين فقط نزع سلاح المدنيين، غير عابئين بأي تعديل أو حق دستوري يحول دون ما يريدون، لحماية ما يسمونه "مصالح الدولة العليا" أو ما يسميها البعض "الدولة العميقة"!