اتفقنا على موعد صباحي للقاء، اختارت هي مكتبة الكتب خان بالمعادي، واخترت أنا شرفة المكتبة المطلة على أشجار الحي الغارقة في سكونه. وصلتُ مبكرًا عن الموعد وصعدت إلى الشرفة، كانت فارغة إلا من مقاعد وطاولات تستقبلنا. أخرجت دفتر ملاحظاتي وروايتها قلب مالح، سرحتُ في الغلاف الذي يفضح شخصيات الرواية كما يتلصَّص أحد على جيرانه من خلف النافذة، ولوهلة شعرت أنني، وأبطالها، نجلس في الشرفة، ونحتل فراغها في انتظار قدوم رشا، فربما يحملون لها أسئلة أكثر مني عن مصائرهم، أما أنا فقررت أن أنتحل من روايتها شخصية ولاء الخواجة التي تنبأت عام 2008 بثورة يناير قبل إندلاعها، لأسألها: كيف تحولت انتصاراتنا إلى هزيمة يا رشا؟
بعد دقائق، فُتح باب الشرفة بهدوء، كانت رشا عزب كما تخيَّلها عقلي ورأيت صورها في الواقع الافتراضي. تصافَحنا بحرارة كصديقتين منذ زمن بعيد؛ أو هكذا حدثني قلبي. قلت لها إن المعادي تذكرني بالمشهد الأول في الرواية عندما التقى أمجد يمامة بسلمى في أحد بارات المعادي ليودعها قبل هجرته. قالت رشا بنبرة لا تخلو من الحنين "أنا بنت المدينة، وبنت المعادي، والمشهد ده من الرواية حصلي بالفعل" كان تخميني صائبًا إذن، وهذه المرأة التي تجلس أمامي كتبت روايتها من جعبة ذكرياتها التي تسير بها في شوارع القاهرة، لكنها تحكيها على مهلٍ. لكن متى قررتْ أن تلجأ للحكي بالكتابة؟
استفاضت وهي تبحث داخلها عن لحظة الميلاد؛ قضت رشا أعوامًا متنقلة بين دفاتر الصحافة بقوالبها المختلفة، وخاضت تجربة أخرى مختلفة في الكتابة السينمائية وصناعة الأفلام، الكتابة بكل أشكالها ظلت تطاردها لسنوات، لكن لحظة الكتابة الحقيقية لم تأتِ إلا بعد تجربة شعورية خاصة تبحث فيها عن ذاتها في مساحات جديدة لم تختبرها من قبل. يقول بول أوستر إن رجلًا لا يحتمل إلا البقاء على سطح نفسه لن يقدم للآخرين سوى هذا السطح، أتذكر مقولته وأتأملها أمامي، هي لا تعترف بقشور الحكايات بل تقبع في جذورها.
في يوم بعيد دعاها أحد أصدقائها إلى اللقاء، خفقَ قلبها ولم تعرف ما الذي يخبئه لها، سيخبرها بميعاد هجرته؟ لم تخطئ التخمين، أمضيا السهرة في سلام وطوت حزنها في قلبها طيلة الليل، وفي الصباح وجدت نفسها تكتب بلا توقف "أنا دُفعت للكتابة؛ كتبت نصوصًا شخصية بلا خطة، وأنا معنديش فكرة أو قرار بشكل الكتابة هيكون إيه، ومكنتش عارفة إن كل الكتابة دي كانت therapy ليا" وكانت نتيجة النصوص روايتها قلب مالح.
التطبيع مع الهزيمة
يعيش أبطال الرواية حالة اغتراب؛ هجرة مكانية وشعورية. تصف رشا عام 2014 بسَنة العبور الكبرى، قد تكون أكبر موجة هجرة شهدها المصريون منذ أيام السادات، تغيرات كبيرة طرأت على المشهد، دوائر الأصدقاء المقربين تضيق، تختفي، والقرارات المصيرية أصبحت تؤخذ في طرفة عين؛ "مفيش هجرة بالاختيار، أي هجرة حصلت علشان إنت مدفوع تعملها".
عندما أُغلق باب الخروج وقفت أمامه لتفهم ما الذي يعنيه غياب الأصدقاء الذي يبدو أبديًا "كنت مدفوعة عاطفيًا بسبب صحابي اللي بيمشوا ويسيبوا البلد ودي أكتر حاجة مُرة بيعاني منها جيلنا لحد دلوقتي". من هنا تسربت لها الرغبة في الكتابة التي كانت بشكل لا واعٍ محاولة مستميتة لفهم مشاعرها. سرحت رشا وهي تتذكر مقولة الكاتب علاء الديب "الإنسان بيكتب نفسه وإذا معرفش يكتب نفسه مش هيعرف يكتب حد تاني". أحيانًا، يحتاج المرء أن يحدق في ألمه الشخصي ليسكن أنين جسده.
بَنَت رشا عزب فصول روايتها الأولى قلب مالح على أكتاف شخصياتها، بروفايلات أدبية تعرفنا على شبكة الصداقات والروابط بينهم وترصدهم لا في السياق اليومي بل تقتحمهم في أشد اللحظات خصوصية وحسمًا، لحظة الهجرة، الفقد، انتهاء علاقتهم بالوطن أو الشريك أو حتى أنفسهم؛ إنها رواية بوليفونية تتعد فيها أصوات الشخصيات والرواة ولكل صوت موقعه الواضح من المشهد الاجتماعي والإنساني في مصر بعد ثورة 25 يناير. ثمة روابط خفية تجمع بين الشخصيات ولا تعلن بصراحة بين السطور. "سألت نفسي إيه اللي بيجمع الشخصيات دي كلها؟ كلهم اتعرضوا لهزة في حياتهم أسفرت عن كل اللي جرى" ومع انتهاء الهزة بدأت الكتابة.
في قلب مالح لا وجود للثورة بل رصد لتبعاتها، تمامًا كهزة أرضية أصابت سكان المدينة ونحن في مرحلة حصاد الخسائر. بعض الشخصيات كانت على الحافة أو الشاطئ فلم تطلها أضرار كبرى، والبعض كان في القلب تمامًا فتناثرت حياته في الشتات، والبعض الآخر لا يزال قابعًا في الجذور حيث نُسفت حيواتهم تمامًا ولم يستطيعوا الهروب أو حتى عيش حياة أفضل، ولا يزالون حتى الآن يزيحون آثار الهزة. "كل الشخصيات كانت على تماس مع الهزة بس بدرجات مختلفة".
سكتت قليلًا وقالت بنبرة حاسمة تنفلت من الانكسار"الهزة هي الثورة".
لا تواجه رشا مفردة "الهجرة" تبدو قاسية عليها، بالأحرى تحاول تفكيكها وفهمها والالتفاف حولها. في الرواية تصفها بـ"المسافة"، "العبور" ومرة بـ"خروج من الحاضر المؤقت للذكرى الدائمة" وتصف العودة بـ"الطرد المفخخ" وكأن كل حديث عن القرب والبعد سينتهي بانفجار مدوٍ، ربما لأنها لا تزال متمسّكة بموقعها الحالي على الخريطة "أنا مش حاسة إني محتاجة أمشي، أنا بحب هنا، ومش عايزة حد يصيغلي علاقتي بهنا غيري".
قلت لها "حدثيني عن المسافات". لا تستغرق رشا الكثير من الوقت لترد على أسئلتي وتقول الكلمات المناسبة تمامًا، لكنها هزت رأسها وصمتت لثوانٍ وهي تتأمل الكلمة، يبدو أني لمست جرحًا نزف مجددًا على الطاولة التي تفصل بيننا. أخَذت نفسًا من سيجارتها وهي تقول "المسافة بتحدد كل حاجة وبتصيغ مشاعرك من أول وجديد. عظيم إن الواحد يعرف يخرَّج من معاناته شيء".
في موضع لاحق من حديثنا عرفت أنها كانت ستختار "حدثني عن المسافة" عنوانًا للرواية قبل أن توافق على اقتراح الناشرة كرم يوسف باختيار قلب مالح.
ينتمي أبطال رواية قلب مالح إلى جيل ثورة 25 يناير، بين العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم، ربما لهذا السبب وصفهم الكاتب عادل عصمت، في ندوة مناقشة الرواية، بأنهم شخصيات غير أدبية "بمعنى أنهم غير موجودين في تراثنا الأدبي، شخصيات قُطعت من الواقع وزُرعت في الرواية". هذا هو الجيل الذي تنتمي له الكاتبة والذي اختارت أن تكتب عنه وله في محاولة لتخليد اللحظة وتجميد الزمن كما تقول ماري بشارة إحدى بطلات الرواية.
كل الشخصيات، وعلى طريقتهم الخاصة، يتصارعون مع سيولة الحياة، يحاولون فهم المشهد الاجتماعي المصري الحالي وإعادة رسم مواقعهم فيه، ربما لم يجنوا سوى الأمل ومحاولات خجولة لامتلاك أي شيء حتى لو كان الحبيب أو الزوج أو ذكرى مع الصديق. يتكرر في الرواية الحديث عن العلاقات العاطفية التي لم تنجُ من الهزة، ويفتح بابًا للحديث عن العلاقات المفتوحة باعتبارها النجاة الأخيرة من ارتباك الحياة "قليل من المحبة العابرة في ليالٍ جارحة لا يضر".
ولأن العلاقات المفتوحة تتماس مع فكرة المسافات سألتها عن موقفها منها، بدا لي أن لها موقفًا مؤيدًا يعلن عن نفسه بوضوح في الرواية، وهو أمر نادرًا ما يطرح نفسه في الأدب المعاصر، وعلى طاولات مجتمع محافظ بطبعه؛ "أنا عايزة أبقى حرة، ليه أبقى محبوسة مخصوص لجسم حد ونبقى حِكر على بعض؟ دي فكرة غريبة جدًا. المعايير الأخلاقية بتتغير كل شوية؛ زمان أوهمونا إن الغريزة الإنسانية تحتاج الامتلاك والحيازة، الواحد اكتشفت إنه ممكن يعيش بدون حيازة، بدون ما يملك حاجة، وعلشان كده الناس بتحب تملك بعضها. والحقيقة هي مصطلحات جاية من تراث برجوازي. فيه مثل مصري جميل بيقول ليه تشتري القطر لما ممكن تقطع تذكرة".
هززت رأسي وأنا أفكر معها بصوت مرتفع أننا بالفعل لا نملك أشياءً لنقبض عليها، إنه وهم التملك الذي يطاردنا، وهو نفس حال أبطال الرواية الذين يتوهمون امتلاك الزمن، المكان، الشريك، المدينة، واللحظة الحالية. أفكر الآن في شخصية وصال معتوق التي قررت مع زوجها أن تصبح علاقتهما الزوجية مفتوحة، بإمكانهم الدخول في علاقات عاطفية لكنهما معًا، لا يريدون وضع نهاية لزيجتهم التي أنقذها البعاد والسفر. انتهى الفصل الخاص بوصال دون أن تحسم شعورها الحقيقي بشأن العلاقة المفتوحة، ما من خيانة زوجية هنا، بل هذا ما اتفقا عليه في محاولة لجعل حياتهما أفضل، "زي ما قالت دكتور أهداف سويف شخصيات الرواية طول الوقت بتحاول".
الكتابة ابنة الوحدة
إذا كان الآخرون أخذوا مسافة للبعد عنا فإننا نحتاج إلى مسافة مماثلة ننفصل فيها عن ذواتنا قليلًا لنفهم أين نحن؟ وماذا نفعل بالتحديد في حياتنا؟ لم يكن قرار رشا عزب بالتفرغ لكتابة الرواية في زخم الحياة منطقيًا، كانت بحاجة إلى عزلة إجبارية لتنفرد بنصوصها المبعثرة، لكن العزلة أيضًا لها ثمنها "زي ما انتِ عارفة الكتابة مبتأكلش عيش" لم تكن تعرف أن القدر أيضًا يدفعها لإكمال نصوصها التي بدأت شخصية وانفلتت لتشكل نصًا أدبيًا.
حصلت رشا على منحة آفاق لإنجاز مشروعها عام 2019، وفي نفس العام قدمت في منحة للإقامة الفنية في بوركينا فاسو تابعة لمعهد جوتة وتم قبولها "سافرت إلى بوركينا بنصوص وقصاصات وأقلام. هناك فردت كل الشخبطة. معضلة الكتاب الأول إن الكاتب عايز يقول كل حاجة" مع الوقت وبمساعدة الكاتبات الإفريقيات المشاركات في المنحة عثرت على طريقة لرسم العلاقات بين شخصياتها الكثيرة، ومن هنا ظهر هيكل الرواية، وصاغت بشكل مرتب شبكة العلاقات بين شخصياتها.
يتكرر مشهد العزلة عام 2020 عندما قررت رشا الذهاب إلى الفيوم لتكتب لمدة شهر بمعزل عن العالم المذعور من انتشار فيروس كورونا، كانت بحاجة ملحة إلى أخذ مسافة كبيرة تفصلها عن حياتها، إنها الحيلة المجدية التي تمكنها من فهم ما يحدث حولها وما الذي يريده هذا النص منها. تتماس رغبتها الملحة في العزلة مع ما كتبته مارجريت دوراس، الكاتبة الفرنسية التي تأثرت بها رشا قديمًا، تقول دوراس "نحن لا نجد الوحدة وإنما نصنعها، وأنا صنعتها لأنني قررت أن هذا المكان يليق بي لأكون وحيدة، من أجل كتابة كتبي".
شيء من الرقة والعذوبة يتجول إلى جوار القسوة بين فصول الرواية، لكن لا أحد يصرخ هنا، لا هتافات ولا أصوات عالية، قلت لها إن هذا أمر لم أتوقعه من رواية لرشا عزب، ابتسمتْ وبادرتْ قبل أن أكمل الجملة "وده على عكس عادتي".
تعيدني جملتها الأخيرة لسؤال الكتابة، ما الذي يريده الكاتب حقًا؟ وما الصوت الذي يفتش عنه بين نصوصه؟ إذا كانت الكتابة هي لحظة انفراد الكاتب بأصواته فما النتيجة هنا؟ "خروج كتابة منِك يعني خروج حياة موازية ليكِ لأنكِ بتتطهري علشان تتخلصي من الصدمات. أنا كنت ببحث عن ملجأ ومخرج، والكتاب ساعدني جدًا إني أشوف اللي حصل، أخرجه، فأحس إني أخف. الكتابة بالنسبة لي كانت علاج نفسي، اللي بيعرف يكتب بيعرف يتكلم مع نفسه وعلشان كده الكاتب لازم يبقى أناني، ماسك في مشروعه وعارف إنه خلاصه الوحيد، مصيره الذي لا مفر منه".
يتكرَّر في حديثها الكلام عن الرؤية "أشوف اللي حصل" يمكنني وصف رشا عزب بأنها الكاتبة التي تصاحبها العيون، عيون تراقب بها العالم، وعيون تقيّم ما راقبته هي.
وحدها عصمت قنديل التي سمحت لها رشا أن تراقب الكاتبة التي تحبو بداخلها. يحتاج الكاتب لعين تبصر معه الطريق، تخبره إن كان يقطع الطريق حقًا أم يتعثر في كلماته، كانت عصمت، أرملة الكاتب علاء الديب، أول من اطلع على نصوصها الأولى، أنصتت لنصائحها خاصة أن لعصمت تاريخ طويل في العمل الصحافي والثقافي في هيئة قصور الثقافة ورئاسة تحرير سلسلة آفاق الترجمة "قالتلي يجي منك يا بنتي". من هنا بدأت علاقة جديدة بين الصديقتان اللاتي تحولتا إلى كاتبة ومحرِّرتها الأدبية.
أخلصت رشا لنصائح عصمت، استجابت لها في الحذف والتعديل، بل واقتنعت بادخار بعض النصوص لعمل روائي آخر. رغم اختلاف الأجيال بينهما غير أن ثمة شيء في كتابة رشا لمسها بقوة. تقول عصمت "قلب مالح هي تجربة جيل الثورة دون ذِكر للثورة، شخصيات الرواية معرفهومش في الحقيقة لكني أعرفهم، الشباب والبنات اللي اتكووا بالنار، كلهم عندهم حلم بس متحققش، وده اتسببلهم في جرح كبير، كلهم عندهم جرح بس برضو عندهم إصرار إنهم يعيشوا، سواء بره أو جوه. كلهم بيدوروا على الحلم اللي طار". في عام 2020 منحها الكاتب عادل عصمت عينًا جديدة عندما قرأ مسودة الرواية ولمس طزاجة أفكارها ودفعها لاستكمال بعض الفصول والإسراع في نشر الرواية.
قد يثير القارئ فضوله ليسأل متى ينتهي الواقع ويبدأ الخيال في رواية كـ قلب مالح؟ ومتى يخفت صوت الكاتبة ليعلو صوت شخصياتها؟ اختارت رشا طريقة ذكية في رسم شخصياتها، والكتابة عنهم في أكثر المواقف الحاسمة في حياتهم وهم على المحك، على مشارف السفر، الانفصال، العبور من جسد لأخر، ولأنها تراقبهم كان قرار السرد بأصوات متعددة هو الأنسب لها، وهو ما جعلنا أمام شخصيات تحكي عن بعضها البعض، قلة فقط يسرد حكاياتهم الراوي العليم. "أنا مكنتش قادرة أحط نفسي مكان الراوي العليم علشان أحكي بصوته، وجود صوت واحد يملك الحقيقة كلها كان مربكًا وهيفقدني كل الأصوات".
سألتها هل كنتِ تحكمين على شخصياتك أثناء الكتابة؟ يقول إرنست همنجواي "باعتبارك كاتبًا، لا ينبغي لك إطلاق الأحكام، بل الفهم". أخذَت نفسًا أخيرًا من سيجارتها وقالت "أنا سألت نفسي السؤال ده بعد الكتابة هل أنا بدين الشخصيات علشان مشيوا وسابونا؟ بالتأكيد لا قرار الهجرة كان الأنسب ليهم. أنا بدين اللحظة مش الشخصيات، لكني بيني وبين نفسي أنا مش بدينهم لأنها هتبقى لحظة قاسية" هذه المسافة التي تفصل بها الكاتبة صوتها عن شخصياتها تكشف قراءتها العميقة لهم، وأنها ليست محض اقتباس لشخصيات في الواقع؛ في مرحلة التعديل حذفت رشا الكثير من المشاهد والنبرات الغاضبة خوفًا من الحكم على شخصياتها أو إكسابهم صوتًا لا يخصهم بل يخصها هي.
لا أذكر تحديدًا متى خلعَت نظارتها الشمسية، في منتصف حديثنا أم في نهايته، لكني أذكر عينيها وهي تخبرني أن الكتابة منحتها شيئًا سحريًا، وربما بصيرة ما لترى بها ما لم يحدث "أنا قعدت أراقب أبطالي لسنين؛ بعضهم كان عارف إني براقبه، وبعضهم هيتفاجئ لما يقرا. الشخصيات بتسافر، بتروح وبتيجي، في شخصيات أنا كتبت مصيرها قبل المصير، قبل ما يحصلهم في الحقيقة. أقولك، أنا تنبأت بموت صاحب البنسيون، بالأحرى قررته له المصير ده على الورق، هو مات وأنا كنت قلقانه على البنسيون".
يدفعني البنسيون إلى الحديث عن الأماكن في الرواية، هي جزء من حياة الأبطال بل طرف ثانِ لا تكتمل بدونه حكاياتهم. تملك الأماكن ذاكرة خاصة وتتغير كما تتغير المدن بعد الثورات وكما يتغير القلب بعد انكساره، تتجول الشخصيات بين شوارع القاهرة والإسكندرية والغابات الأوروبية والبارات المجهولة وعلى الحدود، وأمام النيل القاسي والبحر اللا نهائي. لا تبحث شخصياتها عن أوطان بل أماكن تنتمي لها، لذلك يصفهم عادل عصمت "صعاليك عايشين في الشوارع"، هذه الصعلكة جزء من هذا الجيل الذي ينتمي له أبطال الرواية، وجزء من عدم امتلاكهم شيئًا، فكل لحظاتهم مهدد بالإزالة دائمًا. "الشارع امتداد للحانة، للفصل المدرسي، للسرير، والأهم امتداد للأمل".
في نهاية رحلة الكتابة يصطدم الكاتب بحقيقة ما قاله وما لم يقله بعد، إنها لعنة الحكي. وجدت رشا عزب متعة في أن يخرج عملها الروائي الأول شبيهًا لها "كنت محتاجة أحافظ على التدفق، الكتاب، يكون wild، برّي، أنا بعرَّف نفسي بإني شخص عشوائي وغير منمق ويمكن علشان كده الكتاب طلع شبهي، مش رصين خالص، وعايزاه منعكش زي ما أنا منعكشة". في النهاية يبقى من تجربة الكتابة متعة بحث الكاتب عن صوته في لحظة فارقة في حياته كلحن هارب يكسر صمت الليل الطويل.
في آخر فصول الرواية "نساء المطر" تتجمع نساء قرية بالفيوم لنزح سيول المطر غير المتوقعة في غياب واضح لرجالهن، وتنتهي الرواية مع هؤلاء النسوة الجميلات في لحظة شعورية خاصة وحميمية تنتصر لهن، لصوتهن النسائي الصارخ، كصوت رشا وصوت كل النساء اللاتي يطرد حضورهن الخوف، في ختام رواية يبحث أبطالها عن الأمان. تقول رشا بنبرة تنتصر لشيء ما "الرواية بالنسبة لي مش كتاب وخلاص، أنا كنت عايزه كتاب يشتبك مع الواقع واللحظة دي في مصر، وبيوثق بشكل ما حياتي وحياة جيلي. الكتابة لعبة، لعبة مسلية، ولو مكانتش مسلية مكانش هيبقى ليها معنى".