قبل يومين من عرض أصحاب ولا أعز، شاهدت بالصدفة الفيلم المصري أنا وبناتي (إنتاج 1961)، وهو واحد من نوعية الأفلام التي ظهرت مع نهاية الخمسينيات وطوال الستينيات، في محاولة لفرض رؤية ثورة 23 يوليو "التقدمية" بأن المرأة ليس مكانها البيت وإنما من حقها النزول إلى الشارع والعمل ومعاملة الناس بشكل طبيعي.
علاقة الأب محمود عبد الفتاح (زكي رستم) ببناته الأربعة ميساء (ناهد شريف) وميرفت (زهرة العلا) ومنى (آمال فريد) ومحاسن (فايزة أحمد) علاقة سعيدة وهادئة تغني فيها فايزة أغنيتها الشهيرة بيت العز يا بيتنا، ولكن السعادة والهدوء مشروطان بالالتزام بالقواعد؛ لا تعليم وبالتالي لا عمل ولا علاقات مع أحد، "أنا ربيتكم عشان تكونوا ستات بيوت"، يقول الأب وتوافقه البنات.
تأتي نقطة التحول سريعًا؛ يفصل الأب من وظيفته، ويخسر مكافأة نهاية الخدمة، ويتعرض لأزمة صحية تلزمه المستشفى. يكتشف الجميع بما فيهم الأب أن هذا كان "هدوءًا كاذبًا"، وتلك "سعادة مزيفة".
يرفض الأب طلب بناته النزول إلى العمل لمساعدته، ويطالبهم ببيع "عفش" البيت حتى تعود إليه صحته، وينزل هو للعمل. تستغل الفتيات الأربع فرصة وجود الأب في المستشفى ويقررن المغامرة بالنزول إلى العمل. لا يجدن عملًا لأنهن لم يحصلن على التعليم الذي يؤهلهن لذلك. تبحث كل واحدة على ما يميزها فلا تجد ميساء سوى جمالها فتقرر العمل عارضة أزياء، وتلتقي بالشاب الغني سمير (صلاح ذو الفقار) الذي يخدعها ويدخلها إلى فراشه ثم يتهرب منها. تكتشف أنها كانت ضحية شاب "مخادع"، وتبدأ "إذلال" نفسها بالأعمال المنزلية كطريقة لعقاب النفس.
أغنية بيت العز يا بيتنا
ينهار الأب بعد معرفته ما حدث، فيحاول قتلها، وتدافع شقيقاتها عنها، وعندما يفشل يعلن أن بناته الأربعة توفين ويترك البيت ويصبح مشردًا. تدور الأحداث وتٌقتل ناهد شريف في حادث سيارة (وكأنه عقاب إلهي للفتاة الخاطية)، ويعود الأب لبيته ويسمح لمحاسن (فايزة أحمد) بالعمل كمغنية، ويندم الشاب "الفالت" على فعلته، وينزل تتر النهاية ليعلن نجاة الجميع إلا "الضحية"، التي كانت حياتها ثمنًا لأن يفهم الجميع أن الغلق لا يحمي الفتاة، والتربية المحافظة لا تفيد.
رغمًا عني وجدتني أسترجع شخصية الأب في أنا وبناتي بينما أشاهد شخصية وليد (جورج خباز) في أصحاب ولا أعز، وأسأل نفسي: أي أب سأكون؟ هذا المحافظ أم ذاك المنفتح؟ فأنا أب لفتاة بدأت أولى خطواتها نحو المراهقة، هل أتقبل أن تأخذ رأيي في أنها ستقيم علاقة جنسية مع صديقها؟ وهل لدي أي قدرة على منعها؟ وهل يمكنني السيطرة عليها طول الوقت؟ أليس بمقدورها أن تفعل ذلك دون علمي؟ ألا تفعل كثير من الفتيات ذلك الآن دون علم أهلهن؟ لا توجد إجابات مكتملة لكل هذه الأسئلة، لكن الحقيقة الثابتة أنه لا يمكن لشخص أن يمنع آخر من فعل ما يريد.
هنا أحاول العودة خطوة إلى الوراء، عن علاقة الأب بابنته، لاحظ أن الأبوين في المثالين السابقين لديهم تقريبًا نفس العاطفة تجاه البنات، فلا هذا يكره بناته ولا ذاك يهمل لابنته، وإنما الاختلاف في الطريقة التي ينظر فيها كل منهما لابنته.
النقطة التي أريد التوقف عندها؛ هو كيف خلق الأب وليد حالة الثقة بينه وبين ابنته، لدرجة تجعلها تستشيره في إقامة علاقة جنسية مع صديقها، دون أن نهمل سياق إنتاج الفيلم المأخوذ بالنص من النسخة الإيطالية، وأن المجتمع الإيطالي لن ينظر إلى الجنس كما تنظر له المجتمعات العربية على أنه "شرف العائلة"، وأن هذه المسألة ليس بذات الحساسية في المجتمعين (الغربي والعربي).
ليسوا ملكًا لنا
قبل هذه الاستشارة كان وليد يؤكد على نقطة غاية في الأهمية، حتى دون أن ينطقها بشكل مباشر، أن "أبناءنا ليسوا ملكًا لنا"، وبالتالي لهم حقوق أي شخص حر؛ الخصوصية، فلا يجوز لنا بدعوى الخوف عليهم أن نقتحم هذه الخصوصية ونفتش في أغراضهم، ونتجسس عليهم. من حقهم الاختلاف معنا، وأن سردية أننا نعرف أكثر منهم وأفضل منهم يجب أن تنتهي. من حقهم التفكير والمناقشة واتخاذ ما يرونه صالحا، ومن حقهم علينا أن نبقى داعمين لهم حتى لو اتخذوا خطوات مخالفة لما نعتقده صحيحا، ببساطة من حقهم أن يعيشوا أحرارا لأنهم بالفعل أحرار.
https://w.soundcloud.com/player/?url=https%3A//api.soundcloud.com/tracks/888552196&color=%23ff5500&auto_play=false&hide_related=false&show_comments=true&show_user=true&show_reposts=false&show_teaser=true
لكن كيف يكون هناك وليد في كل بيت، حتى لو لم يصل إلى درجة استشارته في ممارسة الجنس مع صديق. لا تطال الأفكار الذكورية النساء وحدهن في المجتمع. صحيح أنها تستهدفهن بالأساس، ولكنها تأخذ في طريقها بعض الرجال أيضًا وإن بدرجة أقل. فمثلًا، ترى الطبقة الوسطى أن دليل تميزها عن الطبقات الدنيا، هو أخلاقها وقيمها، وضعت سياجًا عاليًا حارسه هو الأب، لذلك فإن ذلك الأب الذي يعطي لابنته حريتها كاملة في ارتداء أو عدم ارتداء الحجاب ينعت بـ"الديوث" إذا كان المتحدث مؤدبًا، وغيرها الكثير من المرادفات التي تعبر عن نفس المعنى لكن بألفاظ أكثر حدة.
يفقد الرجل احترامه لو ضُبطت ابنته تتحدث مع شاب "غريب"، ويعايَر بها في المنطقة التي يقيم بها، ويوصف بـ"عدم الرجولة" إذا عادت فتاته من العمل في وقت متأخر. لا يسمع الأب هذا الحديث من الجيران في الشارع فحسب، وإنما يحاصره في كل مكان يذهب إليه؛ على المقهى ينظر الناس إليه بخبث بعيون تقول هذا "أبو فلانة اللي ماشية على حل شعرها"، وفي العمل ينصحه زملاؤه تلميحًا أو تصريحًا، ومن أسرته وأصدقائه مرة بدعوى الحفاظ على البنت من العالم المتوحش، ومرة بتذكيره أن "البنت لو اتكسرلها ضلع يطلع لها 24"، ومرات عديدة بنفخ روح الذكورة داخله، "مش مرجلة نسب بناتنا كده".
يعرف الأب ما سيحدث له فيكون أمامه إما أن يضع القيود بنفسه، ويُخرس ألسنة الناس قبل أن يتكلموا، فيغلق الباب على ابنته مستخدمًا كل ما يمتلك من سلطات مادية أو نفسية، تصل للعنف الجسدي، معتقدًا أنه بذلك يحمي ابنته بينما هو في الحقيقة يحمي صورته في مجتمعه. أما القرار الثاني فهو مواجهة الجميع بكل تبعات هذا القرار.
المؤكد أنه لا يوجد أب جيد بالمطلق أو سيئ بالمطلق، إلا أن وليد يبدو مثاليًا جدًا، لكنها المثالية التي يجب أن تسود، المثالية التي تخلق فتاة حرة، تستطيع أن تفكر وتناقش وبالتالي تمتلك قدرة على اتخاذ القرار ومسؤولية تحمل تبعاتها، ولا يعني هذا التخلي عنها، ففي المشهد السابق لنزول صوفي من البيت طلبت من وليد "مصاري"، ولم يتردد، رغم أن هذا واحد من الأسلحة الفتاكة التي تستخدمها السلطة الأبوية في تدجين الأولاد والفتيات خصوصًا، تحت اللافتة التي تقول "لما تكبر وتشتغل أبقى أعمل اللي نفسك فيه".
والأزمة أنه حتى عندما تكبر الفتاة تجد نفسها، في الغالب، مجبرة على الأسرة، كونها الملاذ الآمن الوحيد في ظل مجتمع يفرض شروطه، فيمنع النساء من بعض الوظائف، ويحرمهم من حقوق كثيرة، وحتى قرارات الاستقلال عن الأسرة تكون باهظة الثمن، في ظل سوق عمل غير مستقر يضحي بالنساء أولًا.
لا أعرف في الحقيقة رد فعلي لو استشارتني فتاتي كما استشارت ابنة وليد أبيها، لكن الذي أعرفه حقًا هو أنني سأسعى لخلق مساحة من الثقة بيننا تجعلها لا تتردد أبدًا في أن أكون مستشارها في أي مسألة أي كانت.