ما زلت أذكر تفاعل الجمهور وضحكه في قاعة سينما كايرو أثناء عرض أي أي، عام 1992، لمجرد ظهور أشرف عبد الباقي على الشاشة، حتى لو اقتصر المشهد على خروجه يمشي مسرعًا من المنزل.
ما نسميه الحضور أو القبول أو الكاريزما كان حاضرًا بشدة منذ بدايات أشرف الذي تخرج في كلية التجارة، وخطف عين المشاهد بمشهد واحد فقط منذ ظهوره السينمائي الأول في ليلة القبض على بكيزة وزغلول، من خلال شخصية العسكري الساذج، التي بدأ بها مشواره في مسرحية خشب الورد لمحمود عبد العزيز وإخراج هاني مطاوع، ثم لفت الأنظار بأداء عفوي لشخصية غير تقليدية في سيداتي آنساتي لرأفت الميهي، ليستمر صعوده تدريجيًا من أدوار صغيرة مساعدة إلى بطولات مشتركة، فيراهن عليه كثيرون كممثل يمتلك الملامح المصرية والحضور اللافت والقدرة على التنوع في الأداء التمثيلي بين التراجيدي والكوميدي، خاصة مع افتقاد التسعينيات لوجوه جديدة تحل محل نجوم كانت مستمرة في مواقعها منذ السبعينيات.
غير أن أشرف عبد الباقي، لم يتحل بالذكاء الفني اللازم لبلوغ ذلك الطموح، فرغم اقتناع مخرجين كبار بموهبته مثل صلاح أبو سيف في المواطن مصري، وسعيد مرزوق في آي آي، الذي حصل فيه على دور ذا مساحة كبيرة أمام ليلى علوي، لكنه لم يتقدم للأمام بشكل تدريجي، بل كان يتقدم خطوة بأفلام متميزة فنيًا مثل آيس كريم في جليم، و رومانتيكا وقليل من الحب كثير من العنف، ثم يتراجع خطوات بأفلام تجارية ساذجة، لا تقدم نجاحًا فنًيا أو جماهيريًا، ثم يعود بعد اقترابه من البطولة السينمائية، أو وصوله للبطولة في مسرحية الحادثة، ليقدم أدوارًا صغيرة في مساحتها وتأثيرها، فتغيب عنه إدارة الموهبة والقدرة على الاستفادة من تجارب السابقين في المجال، وهو ما كان يمكن أن يصل به لنجومية ثابتة في النصف الأول من التسعينيات، قبل مجيء طوفان الإيرادات الشبابي مع فيلم إسماعيلية رايح جاي.
لا أحد يراهن على جواد خسر سباقين
مع إسماعيلية رايح جاي وصعيدي في الجامعة الأمريكية، دخلت صناعة السينما المصرية مرحلة جديدة، أفلام تدر ملايين الإيرادات، وتوسع في إنشاء دور العرض وظهور كيانات إنتاجية جديدة، والأهم من ذلك كله، ظهور جيل جديد قادر على جذب جمهور شاب طازج يبحث عمّن يعبر عنه بدلًا من جيل الآباء الخمسيني الذي يؤدي أدوار الشباب، فانطلق هنيدي وتبعه علاء ولي الدين ومحمد سعد كنجوم شباك، وفي مرتبة تالية كان هاني رمزي وأحمد آدم الذي لم يصمد كثيرًا في السباق الجديد، وللمرة الثانية يخطأ أشرف في حساباته ويضيع الفرصة الكبيرة التي أتت مرتين في تلك المرحلة.
أشرف عبد الباقي يشاهد مشهدًا لنفسه ويسخر منه
قدم عبد الباقي بطولة مشتركة مع حسين الإمام في أشيك واد في روكسي؛ كان الأخير يراهن على استفادة فيلمه الجديد من نجاح كابوريا، لكن أشيك واد في روكسي بدا كتمصير لفيلم أجنبي بلا روح مصرية، ثم قدم أشرف حسن وعزيزة.. قضية أمن دولة، وهو فيلم جمع بين الجيل القديم المتمثل في كاتب السيناريو مصطفى محرم والممثلة يسرا، ومخرج شاب عاد لتوه من الخارج هو كريم جمال الدين، لكن حرص الفيلم على الجمع بين التشويق والكوميديا والسياسة، أربك مستواه الفني وشتت الجمهور، رغم ما احتوى عليه من بعض ملامح الجودة.
كذلك افتقد عبد الباقي مع بداية الموجة الجديدة مؤسسة إنتاجية ترعاه مبكرًا كالعدل جروب التي رعت هنيدي، أو مخرج موهوب يضعه على المسار الصحيح كما فعل شريف عرفة مع علاء ولي الدين، فكان انضمامه لكيان كبير هو الشركة العربية للإنتاج السينمائي بمثابة الفرصة للحصول على مركز في سباق النجومية، لكن فيلم رشة جريئة، الذي امتلك نظريًا عوامل النجاح من مخرج حقق النجاح مع محمد هنيدي هو سعيد حامد إلى كاتب موهوب صنع أفلامًا مميزة فنيًا هو ماهر عواد، لم يحقق الإيرادات المنتظرة، رغم أنه فنيًا يعتبر من أفضل ما قدم عبد الباقي في السينما، ربما لكونه يقدم كوميديا مختلفة عما تعود عليه الجمهور أو لتقديمه قصة الشاب الباحث عن فرصة في مجال الفن وما تحتويه على كواليس قد لا تتماس مع المتفرج بالشكل الذي يتفاعل به مع قصة صعود شاب يغسل الأطباق في هولندا في همام في أمستردام، أو للطبيعة الخاصة لأعمال ماهر عواد، التي لا تنجح جماهيريًا بشكل كبير ولكنها تصل للجمهور بمرور السنوات، كما حدث في أفلام الدرجة التالتة وسمع هس.
في سباق الإيرادات قد يسمح لك السوق بفرصة واحدة للفشل ولكن الفرصة التالية ستكون الأخيرة؛ منحت الشركة العربية في العام التالي فرصة أخرى لعبد الباقي في بطولة مشتركة مع محمد هنيدي في فيلم صاحب صاحبه، وكانت النتيجة كارثية للجميع، من الناحية الفنية فالفيلم هو الأسوأ في تاريخ ماهر عواد الذي لم يكتب بعدها للسينما؛ سيناريو مفكك يحاول الإضحاك عبر مواقف غير مترابطة، وإقحام الأغاني والأطفال وشخصية البلطجي لجذب الجمهور، ليفشل الفيلم تجاريًا وفنيًا ويخرج أشرف من السباق السينمائي حتى إشعار آخر.
مشروع مستقر ماديًا
لا يتوقف أشرف عبد الباقي عن العمل وعن التجربة، وهو ما يُحسب له، لكنه ربما يؤدي بشكل آخر لوقوعه في كثير من الاختيارات الخاطئة، فهو يترك تجاربه الفاشلة للبحث عن أخرى ناجحة، دون أن يدرس تجاربه السابقة أو يمتلك حدس النجاح، فيتجه للتليفزيون ويقدم واحدًا من ألطف أعماله فيه: مذكرات زوج معاصر، الذي اعتمد على تقديم المشكلات الاجتماعية بشكل كوميدي وبتفاصيل جديدة في حلقات منفصلة، ويضيف إليه بطولة مشتركة في فيلم سينمائي بنكهة تليفزيونية عائلية من إنتاج مدينة الإنتاج الإعلامي وهو حب البنات، الذي قدم فيه شخصية الطبيب النفسي بأداء بسيط يبتعد عن النمطية التي اعتاد الممثلون تقديمها عند التعامل مع المرض والطب النفسي.
في حواراته التليفزيونية يشجع عبد الباقي الشباب على المشروعات الصغيرة والعمل اليدوي، كما فعل في شبابه بتعلم وممارسة أعمال النجارة من أجل مشروعه في مجال الديكورات، والاستمرار مثله في بدء مشروعات خاصة، مثلما فعل في كثير من المشروعات "التي لم تنجح" حسب وصفه ساخرًا.
ولعل ذلك "القلق" من عائد السينما والبحث عن مصدر مادي آخر "يسند"، ربما يشرح أداء أشرف عبد الباقي، الذي حوله عدم التوفيق في أن يصبح "نجمً" شباك، إلى التعامل مع الفن كمشروع تجاري يهدف لتوفير إيراد مستقر، فيحاول ركوب موجة "أفلام السبكي/ سعد الصغير" في لخمة راس، وموجة السيت كوم، بأطول عدد مواسم لمسلسل أو سيت كوم مصري في راجل وست ستات، الذي استمر عرضه لمدة 10 مواسم، وهو شيء كفيل بحرق نجومية أي فنان واستهلاك وإفلاس أي فكرة فنية.
مسرح الضرورة الترفيهية
في أوقات الخوف والحروب والتقلبات السياسية يبحث الكثيرون عمّا يبعدهم عن التفكير والقلق، ويكون المطلوب هو محتوى بسيط لا يشتبك مع الواقع ومشكلاته، كما حدث بعد هزيمة يونيو 67 من ازدهار أفلام وأغاني العتبة جزاز والطشت قالي.
في ديسمبر/ كانون الأول 2013 كونت كل الظروف السياسية والاجتماعية والأمنية المناخ المثالي لاستقبال تياترو مصر، الذي تحول لاحقًا لـمسرح مصر؛ مشروع عبد الباقي التجاري لعمل مسرحيات تليفزيونية هي أقرب لمسرحيات المقاولات التي كانت تُصنع من أجل تحويلها لشرائط فيديو في الثمانينات والتسعينيات، التي تعتمد على الإضحاك المبني على ارتجالات الممثلين.
مشهد من مسرح مصر
حقق مسرح مصر نجاحًا جماهيريًا ولكن المفارقة أن من لفت الأنظار فيه، هم الممثلون الجدد بتباين قدراتهم الكوميدية بين الجيد والمقبول وبين الرديء والضعيف، بينما كان ظهور اشرف عبد الباقي كضيف شرف أو في أدوار صغيرة باهتًا وفاقدًا للحضور الذي "كان" يتميز به، ولكن مشروع مسرح مصر نجح من الناحية التجارية وهو ما أدى لاستمرار أشرف في التجربة بمواسم عديدة واعتصارها حتى آخر جنيه أو ريال، فصنع مسرح السعودية، واشترك في مواسم الرياض من أجل المزيد من الإيرادات لأعمال فنية مصنوعة بأقصى سرعة سيتم نسيانها بنفس السرعة، لنصل لمسرحية شمسية و 4 كراسي، التي عرضت في صيف 2021 لجمهور الساحل الشمالي، وظهر فيها مغني المهرجانات حمو بيكا، كضيف شرف "وهو بيتخانق في الساحل" في غياب للحد الأدنى من وجود نص أو إخراج مسرحي.
في الفن كما في الحياة يمكننا أن نختار طريقًا آخر، لا يزال ممكنا لأشرف عبد الباقي أن يعود للمشروع الفني الذي تعامل فيه سابقًا مع كتاب كبار مثل وحيد حامد ولينين الرملي وموهوبين مثل ماهر عواد وتامر حبيب، وأن يختار أدوارًا مهمة حتى لو كانت قليلة أو صغيرة أو غير كوميدية في أعمال جيدة وهامة، وقد يختار الاستمرار في تحوله لصاحب مشروع تجاري يدر الأرباح ويحقق التواجد الحالي ولكنه يخصم من رصيده الفني ومن أرشيفه مع كل عمل جديد يقدمه.