يجلس على أريكته المفضلة في يوم الإجازة، يتناول كوبًا من الشاي أمام التلفاز، فيستقبل اتصالًا هاتفيًا من أحد الأصدقاء ليسأله "هشام إنت كويس حصلك حاجة في حريق المسرح؟"، يبدو له السؤال غريبًا عليه، يظنه في بداية الأمر دعابة.
استقبل هشام أصلان القاص والروائي نبأ حريق مسرح الجزويت من أحد الأصدقاء الذي اتصل للاطمئنان عليه، لكنه اعتقد أن ما يتحدث عنه صديقه يخص مسرحًا آخر "فيه كذا جزويت في إسكندرية وأسيوط وكده قلت أي مسرح تاني، مش معقول يعني"، فأغلق الخط ليستمع لصوت تنبيهات واتساب "جروب واتساب بتاعنا لقيت عليه زميلة لينا باعته صورة للحريق، وقالت إن المسرح بيتحرق".
نهض أصلان من على الأريكة بملابس المنزل، أخذ مفاتيح سيارته، وتحرك في تمام الثامنة وربع من منزله بالمقطم، ليصل في تمام التاسعة لمحيط المسرح بالفجالة "من عند المستشفى القبطي كان في أمن وإسعاف ومطافي، ومانعين حد يدخل، قلت لهم أنا بشتغل هنا، ركنت بره ودخلت، جريت على المسرح لقيت المطافي موقفة العربيات بره الشارع لأنه ضيق ومدخله الخراطيم، مش قادر أنسى اللحظة دي، المسرح بقى ركام، إزاي، إزاي ده ممكن يحصل".
تأسست مدرسة العائلة المقدسة "الجزويت" على يد ثلاثة آباء جاءوا من لبنان وبدأوا مدرستهم في حي الموسكي عام 1879 بستة طلاب حينها، وفِي عام 1889 افتتحت المدرسة بمقرها الحالي بحي الفجالة، ثم تأسست جمعية النهضة العلمية والثقافية في 1998 جمعية أهلية تبع وزارة التضامن الاجتماعي، وتضم الجمعية أربع مدارس، هي مدرسة السينما بالقاهرة والصعيد، مدرسة المسرح الاجتماعي "ناس"، مدرسة الرسوم المتحركة، ومدرسة العلوم الإنسانية، فضلًا عن أنشطة متعددة منها مجلة الفيلم، الصالون الثقافي، الورش الحرة، مسرح ستوديو ناصيبيان، نادي سينما الجزويت، ومساحات جمعية النهضة، ومكان الجمعية هو استوديو ناصيبيان، وهو ثاني أقدم ستوديو سينما في مصر، وهو الآن مسرح ناصيبيان الذي التهمه الحريق.
وسط صراخ العاملين في المسرح الذين أتوا بعد نبأ الحريق، وصراخ من أهالي المنطقة أيضًا الذين اتصلوا بالمطافي، أُخمد الحريق بعدما يقرب من ساعتين من الاندلاع، لكن الصراخ لم يهدأ من طلاب وعاملين وسكان المنطقة، وعلى الجانب الآخر كان الأب وليم سيدهم، وهو أحد مؤسسي المدرسة والمسرح، يحاول تهدئتهم، يتظاهر بالتماسك أمام ألسنة اللهب التي التهمت حلمًا استمر سنوات، جمع كل الطوائف بحسب قوله للمنصة "مكنش صراخ كانت مناحة، ولاد وبنات بيشوفوا حلم ومكان جمعهم بيولع، بس نحمد ربنا إن الحريق كان في يوم إجازة ومحدش كان موجود فمفيش ضحايا".
التحريات المبدئية لم تحدد حتى الآن سبب الحريق "قبل ما نمشي من المكان كل يوم بنقفل الكهربا كلها ونتأكد، لحد دلوقتي مش عارفين السبب، هنستنى نشوف النتيحة بعد شغل المعمل الجنائي ونعرف السبب كان إيه"، يقول أصلان، قبل أن يقترب منا واحد من رجال الأمن المكلفين بحراسة المبنى وطلب عدم الاقتراب من المسرح وآثار الحريق، حتى يتمكن فريق المعمل الجنائي من مواصلة عمله.
يتراجع أصلان خطوة للوراء استجابة لطلب رجل الأمن، ويتذكر الصالون الشهري الثقافي الذي كان يعقده في المسرح "أنا مش أقدم واحد في المكان، بقالي 4 سنين بس خلاص بقى حتة مني، من سنتين ونصف فكرنا نمل صالون ثقافي مختلف، يوصل لعدد كبير من الناس مش دوايرنا من المثقفين بس، وكان المسرح هو المكان اللي ضم الصالون الشهري، حضر فيه ناس كتير، واتكلمنا جواه في مواضيع كتيرة، المسرح والمكان محفور جوه كل واحد هنا".
الفن لا يحترق
بعد التهام النيران للمسرح وإخماد النيران، بدأ العاملون تنظيف تلك آثار الحريق حتى الساعات الأولى من الصباح، كما حكى أصلان للمنصة "من ستر ربنا وقدرة رجال المطافي إن النار ما دخلتش جوه الجمعية، أو ما طالتش بيت من البيوت المجاورة، ومنطقة الفجالة كلها محلات ورق فكان ممكن تحصل كارثة"، ولكن الكارثة الأكبر هي فقد المسرح الذي قدره الأب وليم خسائره بما يقرب من 4 مليون جنيه، ويحتاج لإعادة ترميمه من جديد ما يقرب من سبعة ملايين.
بعد إخماد الحريق، بدأ الجميع يفكر في "ماذا بعد"، حتى قرر مدير المسرح، محمد طلعت، الذي كان شاهدًا على بنائه الانتظار حتى انتهاء المعمل الجنائي من عمله، ثم رفع آثار الحريق، وبدء أولى الفاعليات على أرض المسرح، وهو عرض فني للحكي يجمع 40 مشاركًا، للتأكيد على أن "الفن لا يحترق"، كما قال.
يتذكر طلعت السنوات العشرين الماضية التي شهدت بناء المسرح وتطوره، وكان شاهدا هو عليه بصحبة الأب وليم "أبونا كان كل كام سنة يجيب شوية فلوس ونطور في المسرح، كنا بنكبر فيه بجهود ناس كتير، وكنا ناويين نطوره، لكن اللي حصل بقى إننا هنعيده من جديد".
ربما أتى الحريق، ليعيد أصلان إحياء المبادرة التي أطلقها قبل شهرين بعنوان "المشاركة المجتمعية لتنمية الثقافة المستقلة"، وهي مبادرة بدأ التفكير بها عقب أزمة كورونا، للبحث عن شركاء لدعم الأنشطة التي تقدم للطلاب بأسعار رمزية، ليصبح موضوعها حاليًا دعم المسرح "المبادرة فعلًا كان في ناس بدأت تسأل عنها، واحنا بنفكر في حلول لقينا إنه نعيد طرحها تاني وتبقى لدعم المسرح وإعادة بنائه".
مبادرات الدعم
ومع طلبات جديدة من رجال الأمن لمنع التجمع والوقوف بجوار بقايا المسرح، استقبل أصلان وفدًا من الفنانين والمثقفين، من بينهم المنتج محمد العدل، والمخرجة هالة خليل، للإعلان عن دعم المسرح، والبحث عن حلول لإحيائه مجددًا، كانوا يدخلون بعبارات مواساة لأصلان وطلعت والأب وليم، ونظرات حزينة اشترك معها أهل المنطقة "سكان الحتة مرتبطين بيها من وقت ما كانت استوديو سينما، ولما عملنا المدرسة والمسرح كانوا بيبصوا لنا على إننا شوية مختلفين عنهم بشعر طويل ولبس مختلف، بس عرفنا نقرب منهم، وأبونا كان بيقولهم ده مكان يستوعب طاقات الشباب بدل ميطلعوا إرهابيين، وكان بيعمل برامج للتعرف على أهل الحي لحد ما بقوا جزء مننا، وبيشاركونا حزننا"، هكذا قال أصلان.
نقيب المهن السينمائية ورئيس الاتحاد العام للفنانين العرب المخرج مسعد فودة، أرسل خطابًا للجزويت يفيد بتحويل المبلغ الذي تم تسديده من طلبة مدرسة سينما الجزويت بالقاهرة، قيمة القيد في عضوية النقابة، لحساب جمعية النهضة العلمية والثقافية، كمساهمة من النقابة في إعادة البناء، وهي الخطوة التي ثمنها جزويت القاهرة في بيان له.
ومن المبادرات التي أُعلن عنها، أيضًا، طرح الفنان الشاب ياسين محمد إحدى لوحاته للمزاد العلني، على أن يعود سعر بيعها لميزانية بناء المسرح، كما طرحت نشوى التلمساني إحدى لوحات عمها الفنان الكبير حسن التلمساني للبيع في المزاد العلني للغرض نفسه، فضلًا عن مساهمات مالية عديدة.
حلول أخرى تقدم بها كتاب ومثقفون ومخرجون، منها إقامة حفلات يخصَّص إيراد تذاكرها لترميم المسرح، مع فتح الباب لتلقي التبرعات، أو تخصيص جزء من مبيعات تذاكر السينمات للمسرح، أو إقامة عروض لعرض أفلام بالتعاون مع وزارة الثقافة بتذاكر مدفوعة الأجر، وجميعها حلول وأفكار يتلقاها هشام ورفاقه، حتى قرروا تشكيل لجنة لبحث تلك الأفكار، وسيكون مديرها الناقد الفني محمد الروبي.
وافق الروبي على إدارة اللجنة التي ستعمل بشكل يومي، وقال للمنصة "هنتكلم مع مثقفين وفنانين، ونشوف إيه ينفع وإيه مينفعش يعني هل ممكن نفنح باب الاكتتاب ده هنحتاج نسأل محامي فيه، وهل يمكن إقامة حفلات دون دفع ضرائب برضه لازم نرجع لوزارة التضامن التابعة ليها الجمعية، وبالفعل بدأت الحديث مع عدد مت الكتاب والمثقفين اللي وافقوا على الانضمام للجنة".
"لماذا لا تذهب وزيرة الثقافة إلى الجزويت؟"، سؤال توجه به الكاتب سيد محمود في مقاله بجريدة الشروق، لكن الروبي يرى أن الجمعية والمسرح مستقلان "طبعًا بنرحب بأي جهود لكن برضه واحنا محافظين على استقلالنا يعني مش هنطلب من وزارة الثقافة دعم، لو الوزارة بادرت بالدعم أهلًا وسهلًا، لكن مش هنطلبه".
أما موقف البرلمان فأخذ منحىً مختلفًا، كما أوضحت النائبة ضحى عامر، عضوة لجنة الثقافة والإعلام بمحلس النواب، أن اللجنة تقدمت بطلب للبرلمان لزيارة المسرح، والبحث عن إمكانية الدعم، ذلك الدعم الذي يتمنى هشام ألا يقف "نفسي حالة الحماس والاهتمام دي تفضل موجودة لحد ما المسرح يرجع".