دلال عبد العزيز: الحياة بخفة ظل
في إحدى حلقات مسلسل حديث الصباح والمساء، جلست السيدة العجوز جليلة (عبلة كامل) بجوار جثمان صديقة عمرها نعمة، تبكي وتنعى مَن رحلت إلى العالم الآخر وتركتها بلا أنيس و لا جليس.
في هذا المشهد، بكت جليلة صديقتها "بنت الأصول الطيبة"، وتذكرت صفاتها الحسنة التي لم تختلف كثيرًا عما كان يقال باستحقاق وفي الواقع عن الفنانة دلال عبد العزيز التي أدت دور نعمة، طيلة حياتها بما كان لها من مواقف مشهودة تجاه زملاء وأصدقاء المهنة، ثم بعد رحيلها عن عالمنا.
رحلت دلال، والسبب كورونا، الجائحة التي اختطفت منها زوجها الفنان سمير غانم، قبل ثلاثة شهور، ألحقتها به الآن، بعد أن تشاركا الإصابة بالفيروس نفسه في أبريل/ نيسان الماضي، وكأنها كلمة النهاية لمشوار يناهز أربعة عقود، لم يكونا خلالها زوجان فحسب، بل شريكا نجاح مهني امتد إلى ابنتيهما دنيا وإيمي، إذ تشاركا الحياة بكامل تفاصيلها، وأبرزها الفنية التي ارتبط اسمهما فيها، لا سيما سينمائيًا، بعشرات الأعمال التي صنعت نجوميتهما.
حظ المبتدئين
في عام 1977، كانت بداية رحلة دلال عبد العزيز مع الفن، حين اكتشفها المخرج نور الدمرداش بين مَن اكتشف من مواهب، فقرر منحها الفرصة عبر مسلسل بنت الأيام، لتجد الشابة نفسها واحدة ضمن فريق عمل يضم أسماء كبيرة فنيًا، وأبرزها بجانب المخرج، المؤلفة نعيمة وصفي وبطل العمل محمود مرسي.
ربما في تلك البداية ومع هذه الأسماء مكافأة للشابة التي لم تتبع النهج المعتاد والمتوقع في ذلك الزمن لفتاة ريفية، من أن تنتهي رحلتها مع المجال العام بالزواج وتربية الأبناء، أو على أفضل تقدير أن تعمل في إحدى الهيئات الحكومية.
تمردت الشابة بهدوء على عادات وتقاليد أرياف السبعينيات حبًا في الفن؛ فكان الجزاء نجومية حصدتها على مدار أعوام بعشرات الأعمال السينمائية والدرامية، وكذلك المسرحية التي بدأتها مع مَن سيصبح رفيق عمرها، سمير غانم، الممثل الشاب الذي كان اشتهر آنذاك بفضل عمله ضمن الفرقة الناجحة ثلاثي أضواء المسرح.
في مطلع السبعينيات، وكانت الفرقة خسرت أحد أبطالها، وهو الضيف أحمد؛ تشارك العضوان الآخران، جورج سيدهم وسمير غانم في تقديم أعمال فنية كان منها مسرحية أهلًا يا دكتور، التي دخلت بها دلال عبد العزيز في مطلع الثمانينات بوابة المسرح؛ لتقدّم بعدها العديد من الأعمال بالتشارك مع سمير، حتى بعد انفصاله الفني عن جورج.
في المسرح، أظهرت دلال إمكانيات أكبر من المتعلقة بالأداء التمثيلي، إذ حققت نجاحًا استعراضيًا كما كان في مسرحيات مثل فارس وبني خيبان، وكذلك المسرحية الأشهر والأنجح أخويا هايص وأنا لايص.
هذه المسرحيات، كانت مع سمير غانم، الذي شاركته في عامي 1982 و1983 واحدة من أهم وأشهر الأعمال التي ارتبط اسمه بها، وهي فوازير رمضان، مع الشخصية التي كانت وما زالت محببة إلى نفوس من عاصروها، فطوطة.
لكن بعيدًا عن سمير، كان لدلال مشوارها الفني الخاص، الذي احتوى عشرات الأعمال، كان منها الناجح فنيًا وجماهيريًا، كالذي تناول أعمال أدبية وسير شعبية، مثل مسلسل السيرة الهلالية عام 1998، الذي يحكي حياة البطل الشعبي العربي أبو زيد الهلالي، وقبله بعام واحد مسلسل سعد اليتيم الذي حكى فيه المؤلف زكريا الحجاوي واحدة من أبرز القصص الشعبية انتشارًا بين المصريين.
صعود وهبوط
بجانب تلك الأعمال كان لدلال نصيب في أعمال فنية أخرى ارتبطت بأسماء كبيرة فنيًا، مثل مسلسل حديث الصباح والمساء، العمل ذو الأبعاد الوجودية والفلسفية، الذي ارتبط باسم مؤلف الرواية الأديب نجيب محفوظ والسيناريست محسن زايد، وكذلك مسلسل دموع صاحبة الجلالة، الذي يتناول الأوضاع في البلاد خلال مرحلتي ما قبل وما بعد يوليو 1952.
وتلك الأعمال التي ما تزال حتى اليوم تحظى بقبول وشعبية جماهيرية، ربما سببها الجودة والإتقان ليس فقط من دلال وفريق الممثلين، بل ومن كُتابها ومخرجيها المحترفين، والذين كان منهم الكاتب الصحفي مصطفى أمين، الذي منحها والمخرج يحيى العلمي عام 1994 دور بجانب الفنان يحيى الفخراني في المسلسل الشهير لا، لتقدم دراما إنسانية ناجحة ربما كانت ضمن ما كانت تمحو به ما قدمته في السبعينيات وبعض أعوام الثمانينيات من أفلام رخيصة التكلفة سريعة الإنتاج اصطلح على تسميتها "أفلام المقاولات".
شاركت دلال في عشرات أفلام المقاولات، التي غابت عنها القصة المحبوكة أو السيناريو الجيد أو حتى الحد الأدنى من الإنتاج، ولم تكن، أي هذه الأفلام، تهدف إلا إلى الربح المادي والانتشار الجماهيري، مع عصر الانفتاح ودخول رجال أعمال للمجال الفني، وهي التي انغمس فيها عدد من نجوم الصف الأول من فناني هذه المرحلة، خاصة نجوم الكوميديا، مثل يونس شلبي وسعيد صالح، والحبيب والزوج سمير غانم، بل ومخرجين كبار مثل هنري بركات، حين كان لاستوديوهات بيروت وأموال الخليج ورجال الأعمال المصريين نصيب في الساحة الفنية المصرية بعد إنجازات ونجاحات الأربعينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي.
ولكن بعيدًا عن هذه الأفلام، التي تعد استثناءً بالنظر لمسيرتها الفنية، حققت دلال نجاحًا يعود إلى العديد من العوامل التي لم تقتصر على ما تتميز به من جمال الملامح المصرية، التي لم يشعر الجمهور يومًا أنها أمر تعتمد عليه دلال في انتشارها ونجاحها، فهي وإن كانت زوجة طه السماحي، السيدة البريئة ذات الوجه الملائكي في مسلسل ليالي الحلمية، إلا أنها أيضًا كانت السيدة الشريرة في مسلسل آخر هو الناس في كفر عسكر.
أحد عوامل نجاح دلال عبد العزيز وما يميزها في رحلتها، أنها كانت متصالحة مع الزمن، فلم تكن ضمن من لجأوا لخيارات التجميل وجراحات السليكون، ففي الثمانينيات كانت الشابة الجميلة المرحة المنطلقة كما ظهرت في أعمال مثل فيلم طير في السما أو ما يُصنف تحت بند الإثارة مثل فيلم بئر الخيانة الذي ناقش الجاسوسية.
وفي أواخر الثمانينيات أيضًا ثم مع حلول التسعينيات، انتقلت دلال بأعمالها إلى ما يعالج قضايا مجتمعية تتعلق بالإرث أو الظلم الطبقي مثل فيلمي القانون لا يعرف الحب، وصراع الزوجات. وهنا كان لدلال ميزة أخرى، أنها قدّمت إنتاجًا غزيرًا ومتنوعًا، فبجانب الأعمال التي تناولت قضايا مجتمعية، قدّمت أعمال دينية مثل مسلسل عمرو بن العاص، وبالطبع أعمال كوميدية مثل فيلم لا تراجع ولا استسلام، حيث جسّدت دور الأم بصورة كوميدية، حد انتشارها في هيئة ميمز على السوشيال ميديا.
واستمرت دلال في تقديم الأعمال الفنية بنجاح وفي تجانس مع العديد من نجوم الجيل الجديد، لاسيما في الألفية الجديدة، حين صار دورها هو الأم، كما كان في أعمال منها التراجيدي مثل فيلم آسف على الإزعاج مع الفنان أحمد حلمي، أو الكوميدي حين كانت الحماة الشريرة سيئة الطباع مع زوج ابنتها محمد هنيدي في مسلسل أرض النفاق المأخوذ عن قصة الروائي يوسف السباعي، أو المجتمعي الذي يعالج قضايا الأسرة والأقارب والجيران، كما ظهرت في مسلسل سابع جار.
في كل هذه الأعمال على مدار هذه العقود، وبمقارنة ملامح وأداء دلال، سيجد الجمهور أنها تُشبه مَن يعرفهم ويقابلهم في حياته اليومية، سواء كشابة أو سيدة ناضجة أو أم عجوز، فالفنانة تعاملت ببساطة وحرفية، لم تجعلها تخجل من العمر أو من مساحات الأدوار البسيطة، في تصالح منها مع الزمن وأحكامه، فكان الجزاء هو صدق وقبول ومحبة في قلوب الجمهور حتى آخر أعمالها.
خطط القدر
على المستوى الإنساني وبدءًا من أوائل ثمانينيات القرن الماضي وحتى العام الحالي، تشارَك سمير غانم ودلال عبد العزيز العديد من الأمور، وذلك منذ ارتبطا بوثيقة كانت أكبر من أن تكون مجرد عقد زواج، وكأنها كانت ميثاق حياة، تعاهدا أن يكملاها سويًا حتى النفس الأخير، فلم يكن لدلال أن تواصل الحياة من دون شريكها، فتبعته بشهور قليلة.
لكن، قبل أن يلتقي الاثنان أظهر القدر إشارات بدت وكأنها ترتيبات منه لتأهيل الاثنين للارتباط وتشارك الحياة، وتأكيد أن كليهما لا يليق سوى بالآخر.
فرغم الفارق في السن الذي يقارب عقدين من الزمان، تشارك الاثنان شهر الميلاد نفسه، يناير/ كانون الثاني، وباختلاف 48 ساعة فقط، إذ ولدت دلال يوم 17 يناير بينما سمير في منتصف الشهر، يوم 15.
القدر، ومع اختلاف الجامعتين، كتب للاثنين أيضًا التشارك في أمر آخر هو الزراعة مجالًا للدراسة، حيث درسها سمير في جامعة الإسكندرية، ودلال في جامعة الزقازيق.
والشرقية، هي المحافظة التي ولدت دلال في إحدى مراكزها، ديرب نجم، عام 1961، وظلت هناك حتى أنهت دراستها واتجهت في النصف الثاني من السبعينيات إلى العاصمة القاهرة، بحثًا عن فرصة في مجال الفن.
والفن، ثالث ما تشاركته مع سمير، سواء في مسرحيات وأعمال شهيرة ناجحة فنيًا، أو أخرى تندرج تحت بند المقاولات، وظلت محل انتقادات وهجوم من النقاد. فالسيدة كانت اختارت وقررت أن تكون شريكة سمير، حتى في أسوأ الأمور.
زيجة مستحيلة
خلال تصوير مسرحية أهلًا يا دكتور، كانت بوادر التفاهم والحب بدأت في الظهور بين الثنائي، وذلك كما بدا في معطف هدية من سمير لزميلته الممثلة الشابة، ظلت تذكره وتتحدث عنه بحب في مختلف لقاءاتها الإعلامية، كرمز لشغف البدايات.
التقى الاثنان، سمير ودلال، في بداية الثمانينيات. في ذلك الوقت وحين جمعهما المسرح، لم يعد اسم أحدهما يتردد إلا متبوعًا باسم الآخر، في ارتباط منطقي يفسره على المستوى المهني تشاركهما في غالبية أعمالهما الفنية، باستنثاء القليل منها على مدار أربعة عقود.
أما تفسيره على المستوى الإنساني، فكان سببه ارتباط الاثنين بزيجة، لم يكن أحد ليتوقعها بالنسبة لسمير، الشاب المنطلق "اللي مالهوش في الجواز"، كما أكد عدد من زملائه وأصدقائه في الوسط لدلال، المعجبة به، والتي قررت مراهنتهم جميعًا أنها ستكون زوجته.
أربع سنوات من الحب لسمير والتعلق به، قبل أن تُكلل تلك القصة بالزواج، وهي التي لم تخل من الطابع الكوميدي طالما أن بطلها سمير غانم، الذي حكى كيف تمت الزيجة في لقاء إعلامي كانت دلال شريكته فيه.
بعد أربع سنوات من الحب، وأثناء تشارك الاثنين تصوير فيلمهما الناجح جماهيريًا يا رب ولد، وجد سمير نفسه محلّ لوم من بطل الفيلم فريد شوقي، وكان سبب اللوم هو عدم زواجه من هذه الفتاة الجميلة دلال، ليرد الكوميديان الشاب على "الملك" بأنه سيتزوجها فقط "لأجل خاطره".
كل من عرف سمير من زملاء وأصدقاء، من أجيال مختلفة مثل الفنانين محمود مرسي، ومحمود المليجي وعبد المنعم مدبولي، والمخرج يحيى العلمي، والأهم رفيق دربه جورج سيدهم، لم يكن ليتصور أن هذا الرجل سيتزوج. لكن مع دلال، أصبح سمير زوجًا وحبيبًا وأبًا منذ عام 1984 وحتى نهاية العمر.
ماما دلال
على مدار تلك السنوات وحتى اليوم، ارتبط اسم دلال وسمير، تمامًا باعتبارهما ثنائيًا فنيًا وأسريًا، كثنائيات أخرى جمعهما الفن والزواج مثل عمر الشريف وفاتن حمامة، أو شويكار وفؤاد المهندس. لكن مع اختلاف في حالة دلال وسمير هو ارتباط اسمهما بالمرح والعيش بخفّة، والذي لم يكن في أعمالهما فحسب، بل وفي حياتهما الخاصة، على الأقل مثلما كان يبدو في لقاءاتهما.
وطيلة سنوات الزواج، كانت دلال هي مَن تتحمل المسؤولية في المقام الأول، وأثمر تأثيرها أن قدمت للفن دنيا وإيمي، ابنتين تكملان المشوار بحرفية وخفة ظل ورثاها من الأب والأم، وذلك دون أن يكون لحياتها الزوجية تأثير سلبي على رحلتها الفنية التي أثمرت عن عشرات الأعمال.
المثير في رحلة حياة دلال، أن نجاحها لم يكن فنيًا أو أسريًا فحسب، بل كان ممتدًا لأمر ثالث هو الأكاديمي. فالفنانة والأم، هي من نجحت على مدار سنوات في الحصول على ثلاث شهادات جامعية من جامعة القاهرة في ثلاثة تخصصات درستها على التوالي وهي الإعلام، واللغة الإنجليزية، والعلوم السياسية.
ما تتسم به رحلة دلال من نجاح أكاديمي يعود لشغف وطموح وفضول طفولي، أما النجاح الفني فكان سرّه حسن تخطيط دلال عبد العزيز لأعمالها، فهي الفنانة التي لم تعاند الزمن، بل احترمته وقدمت في كل مرحلة عمرية ما يتناسب معها، وكان آخره دور الأم الذي أجادته في أعمال عديدة مثل مسلسلي حديث الصباح والمساء وكذلك سابع جار.
في كلا المسلسلين، جسدت دلال دور الأم و ربّة المنزل المصرية، بكل ما يتعلق بها من تفاصيل ظهرت للمشاهد صادقة، وذلك قد يكون لأنها تفاصيل لا تختلف عما كانت تلتزم به دلال في حياتها الشخصية من التزامات أسرية وإنسانية، بفضلها ظهر حب وتقدير المئات لها، سواء في حياتها أو بما قيل في حقها من نعي بعد الوفاة.
والسر في كل هذه المحبة كان ما ألزمت به دلال نفسها طيلة حياتها، سواء في ترضية بسطاء، أو بما اعتاده الوسط الفني منها بأنها لا تفوّت عزاءً فتحضره رفقة صديقتيها ميرفت آمين والراحلة رجاء الجداوي.
واهتمام دلال بهذا الأمر لم يأت مصادفة، فهي وكابنة للأرياف، نشأت على قيم ورثتها من والدها، التي لم يكن منها المواساة في حالات الوفاة فحسب، بل ومؤازرة كل مَن في مأزق، وكان في زياراتها للمنتج والمخرج المسرحي سمير خفاجي بعد اعتزاله العمل وطيلة فترة مرضه دليلًا على ذلك، رغم أنها لم تعمل معه أبدًا.
في كل تلك المواقف الكثيرة، لم تكن دلال تظهر كفنانة، بل كسيدة ريفية تلتقط الكاميرات صورًا لها وهي تؤدي "الواجب"، بمسبحة لا تفارق يدها منذ ربع قرن تقريبًا حين نالت بطولة مسلسل لا، وصارت بالنسبة لها مصدر أمان وتفاؤل؛ فأصبحت ملازمة لها في رحلة فنية وإنسانية، كانت هي فيها رفيقة درب لحبيب شاركته الفن والحياة، بل والمرض، وحين اختطفه الموت، لحقت به بعد شهور قليلة، فالحياة بالنسبة لدلال، كانت ستصبح سخيفة جدًا دون الحبيب.