انتقل سمير غانم بالمسرح الكوميدي المصري، مثلما فعل ممثل فرنسي خالف القواعد المسرحية، فقال له بطل مسرحية "سيرانو دي برجاك" للكاتب الفرنسي المتحذلق إدمون روستان ذو الشارب الذي يشبه شنب النجعاوي، بصوته الجهوري المجسم كصوت عباس فارس "لقد أحدثت ثقبًا في ثوب ثيسباس". وثيسباس هنا ليس تسيباس محل الحلويات الشهير بل أحد آلهة المسرح الأغريقي. لقد كان يلومه ويقرعه بعنف.
أما في القرن التاسع عشر وبينما كان المسرح الفرنسي غارقًا في القيود الكلاسيكية، ألف فيكتور هوجو مسرحية "هرناني" وفي العرض الأول خرق كل قواعد أرسطو الرزيلة التي كبلت المسرح آلاف السنين، ليتحول العرض إلى ساحة خناق كأنها عركة في خمارة بلدي في المكس بالإسكندرية، وتبادل النقاد والمؤلف والممثلون الشلاليت والبونيات بسبب خرق القواعد المسرحية.
كل مسرح القطاع الخاص يخرج عن النص، ولكن مذاق سمير في خرق القواعد كان مختلفًا، فمسرح الكوميدي الخاص لم يلتزم بقاعدة، والخروج عن النص الذي يظهر للجمهور ليس خروجًا حقيقيًا كما يظهر، وفي معظم المسرحيات المصرية كان معدًا سلفًا ومتفقًا عليه، ويتظاهر الممثل بأنه فوجئ بخروج زميله عن النص، مثل مشهد "ريا وسكينة" الشهير بين سهير البابلي وأحمد بدير... وكتاب الله ما هو تمثيل، ده بجد وبحق وحقيقي. أيضًا مشهد عادل إمام وهو يحدّث عمر الحريري عن مسلسلات رمضان في مسرحية "الواد سيد الشغال"، ومشهد محمد نجم في مسرحية "أولاد دراكولا" وهو يقول لمحمود القلعاوي "هخلي التعبان الأقرع يديك على قرعة أمك".
أحمد بدير وعمر الحريري ومحمود القلعاوي كانوا يمثلون في كل ليلة عرض أنهم متفاجئين بخروج سهير البابلي وعادل إمام ومحمد نجم عن النص وكأنه جاء عفويًا غير متفق عليه، والحيلة انطلت على كثير من الجمهور ففي النهاية الممثل هو محتال أو شارلتان، كما قال الجراند أورسون ويلز في مفتتح فيلمه F for Fake.
سمير غانم كان نادرًا ما يلجأ لذلك السلاح في درره المسرحية لأنه كان دائمًا يفاجيء الجمهور بكوميديا تأتي من حيث لا يدري داخل بنية النص. سمير غانم كوميديان قادر على تحويل التراب إلى ذهب، يمر مثل الملك ميداس بعصاه على المسرح فيتوهج من حوله.
في مسرحية "موسيقى في الحي الشرقي" المأخوذة عن قصة The sound of music وهي من أوائل المسرحيات التي غاب فيها الضيف أحمد عن الثنائي جورج سيدهم وسمير الذي بدأ يأخذ مساحته الخاصة مع تخليه عن صلعته وارتدائه الباروكة، هناك مشهد لا يظهر فيه سمير غانم على المسرح ولا يخرج فيه عن سياق النص ولا يخرق الثوب مستجلبًا الضحك بلوي عنق الموضوع، من خارج المسرح ينجح سمير غانم مستحضرًا روح مواويل محمد طه وهو يقوم بعلاج فادية عكاشة من الحروق بفقع موال يرتج له المسرح من الضحك وهو يغني أغنية السرير و البنزين.
أما أقوى ما قدم سمير غانم على خشبة المسرح، أي "أهلا يا دكتور"، نجده يحول فقرة الكشف على المريض الذي يقوم بدوره الفنان الذي ولد عجوزًا إبراهيم قدري، إلى وصلة غنائية ممتعة يغني فيها مقطع رأيت خياله ف المنام من أغنيته المفضلة لعبد الوهاب، ويتجاوب معه قدري وتجلب السينة Scena، بلغة أهل المسرح، صريخًا في الصالة، دون أن ننسى في المسرحية نفسها مونولوج باريس الذي يستمر لمدة تزيد عن عشر دقائق في الإضحاك دون أن يهرب منه الخيط لحظة واحدة.
حتى عندما خرق النص بالشكل التقليدي في "أخويا هايص وأنا لايص"، عندما قال "مين رشوان توفيق أنا بشوفك ف التيزيون"، كان من خلال دور السيدة صاحبة الصدر العارم الذي ينفجر، وذلك لتخفيف حدة الخطابة الزاعقة للفنان التعليمي رشوان توفيق مد الله في عمره.
لا تعلم من أين يغترف سمير غانم إفيهاته وجمله التي ظلت تتوهج على خشبات المسارح، ابن شيطان مريد يملي عليه إفيهًا مثل "فيه ريحة تمرجي بيتحرق" في "أهلا يا دكتور"، أو "أنا اشتريت بنطلون جينز ومستني السوستة توصل بعد أسبوع"، أو المشهد الذي يحكي فيه عن ركوبه الأوتوبيس في "أخويا هايص وأنا لايص".
انفجارات كوميدية تأتي من حيث لا يتوقعها المشاهد في أفلام مثل "البعض يذهب للمأذون مرتين"، عندما ارتدى "شراب حريمي" في دماغه واتصل بميرفت أمين مغيرًا صوته ليقول لها "خدي بالك لأن المؤتمر ضيق والوقت مهم"، أو حين نظر إلى مؤخرة الفنانة الشقراء في "تجيبها كده تجيلها كده هي كده"، و قال "بيقولوا فيه شقق فاضيه ف المقطم"، أو عندما رقص على أغنية My name is Anthony Gonzales لأميتاب باتشان احتفاءً باختطاف زوجته في فيلم "اقتل مراتي ولك تحياتي".
في أحد اللقاءات التلفزيونية تحدث الراحل علاء ولي الدين عن تجربة مع سمير غانم في أحد المسرحيات اسمها "محروس صائد الرؤوس"، يؤدي فيها سمير دور حلاق وعلاء صبيّه.
قال علاء إن المسرحية خرجت بدون بروفات كافية ولم يكونوا جاهزين بالشكل الكافي ولما أحس بالقلق ذهب لسمير وقال له "يا ريس إحنا هنعمل إيه إحنا مش حافظين كويس"، فرد سمير "شايف الشنطة دي يا علاء؟ دي فيها كور تنس وكور بنج وسوست ونضارات وأرنب وفرخة وكرافته. كل ما تتزنق خرّج حاجة من الشنطة وإحنا هنشتغل عليها.. دي كوميديا الإكسسوارات يا علاء".
عاب نقاد مسرحيين كثيرًا على سمير في فترة ما بعد انفصاله عن جورج سيدهم استخدام السخرية من الأقزام والعجائز، والإفراط في الإكسسورات، واتهمه نقاد مثل آمال بكير بتقديم مسرح يشبه سيرك المخلوقات الغريبة الذي كان يقيمه الغجر في أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
الفريق الذي كان يضم الفنان محمد السبع أفندي، صاحب جملة "اديني ف طيلماني"، وبقية العجائز وأحيانًا الأقزام مثل القزم الذي ظهر في مسرحية "أخويا هايص وأنا لايص"، أو القزمة التي لعبت دور مونيكا في "أنا ومراتي ومونيكا"، أو أصحاب الأجسام الضخمة في "بهلول في إسطنبول" عندما غنى لهم أغنية "رهيب والله رهيب".
كل هؤلاء الذين انضموا لفرقة سمير بدءًا من "فارس وبني خيبان" كانوا مؤشرًا عند البعض على إفلاس بضاعته الكوميدية، وعند الآخرين بالقدرة على التجديد.
في المقابل ناقد مسرحي حاد مثل محمد الرفاعي أعطى "كريديت عالي" لسمير في كتابه "عربة اسمها المسرح" قائلًا "سمير غانم فعلًا قادر على إضحاك طوب الأرض والإمساك بتلابيب الشخصيات و إشعال الخشبة".
سمير غانم فنان مزج ما بين الستاند أب كوميدي والفارس والفودفيل والغناء الهزلي والجاد أحيانًا فأوتي الكوميديا من أطرافها، ويكفي أن تشاهده وقدرته على العبث بالغناء بمحاكاة الأغاني اليوناني في أوخي، أو عندما يمزج بين ترافولتا في Grease والريس متقال.
مر سمير بمراحل هبوط كثيرة خاصة في التسعينات والألفينات عندما ترك نفسه لمرحلة القصور الذاتي. وبعد نجاحه في "ميزو وجودة" ثم "تزوج وابتسم للحياة"، ترك نفسه بتراخ وكسل واستسهال لأعمال تراكمت فيها الرداءة ولم تعد تناسب الإيقاع مثل "فرحات الوطواط" و"هايم عبد الدايم" في التلفزيون، وأفلام مثل "الأهطل" و"الغشيم" و"السلاحف" ومسرحيات مثل "أنا ومراتي ومونيكا" و"بهلول في إسطنبول".
رغم كاريزما سمير وثقته في مشيته وبذله أقل مجهود للإضحاك بدون قطرة عرق، فإن منسوب الضحك قلَّ قليلًا رغم أن كل عمل قد تخرج منه بإفيهٍ حارق خارق، لكنه يضيع وسط رتابة العمل وتكراره.
احتكاك سمير بالسياسة قليل جدًا في أعماله رغم أن "أخويا هايص وأنا لايص" كان عملًا ذا طبيعة سياسية، يحفل ببراكين الشعارات الجوفاء والنضال الورقي كما قال محمد الرفاعي، ولكنه لم يتعرض لمشاكل مثل "جحا يحكم المدينة" وهو العمل الذي أوقفته الرقابة بشكل واضح وصريح، للدرجة التي جعلت غانم يشير دومًا في لقاءاته إلى أنها "توبة من دي النوبة إني ألعب سياسة تاني".
والنص الذي كتبه وحيد حامد كان يتماس بشكل مباشر مع أداء رأس السلطة، أما الذي لا يذكره سمير و لا يذكره كثيرون معه هو مسلسل "مرفوع من الخدمة" وهو مسلسل كتبته هالة سرحان وقام ببطولته سمير مع جيهان نصر عندما كانا يشكلان ثنائيًا فنيًا. والمسلسل في سابقة لا تتكرر كثيرًا تم رفعه من شاشات العرض قبل أن ينتهي لأن الإسقاط كان واضحًا وصريحًا على مبارك في الشخصية التي أداها سمير. وذهب المسلسل إلى بالوعة النسيان.
عمومًا المثل الإنجليزي يقول "الزمان هو جنتلمان مهذب"، واليوم وبفضل القنوات العديدة أمكن للجميع استعادة أعمال سمير، وهذه الاستعادة Retro جعلته يستعيد كثيرًا من وهجه المنطفئ مع ظهوره المتكرر في البرامج، وقدرته على تفجير الضحك في اللقاءات الشخصية برغم أنه شخص جاد شديد الهدوء والوقار في تعاملاته العادية وقد يغرق في لحظات صمت وتفكير مطول.
اليوم سمير غانم الذي كان سيصبح لواءً متقاعدًا لو أكمل دراسته في كلية الشرطة وكان سيتزوج ابنة زعيم قبيلة أفريقية، ترك ذلك كله ودخل كلية الزراعة وكان للبطاطس دور محوري في تحوله للكوميديا، الكوميديا التي تحمل بصمته والتي تنشأ من فراغ، فهو كالحاوي الذي يضرب بعصاه Hocus pocus فيخرج الإفيه.
الرجل لم يتقاعد بعد فهو يستطيع أن يجذب الانتباه في ظهورات لطيفة ذات وقع خافت و لكن خفيفة الهضم مثل ظهوره في مسلسل يسرا "شربات لوز" أو في فيلم "تتح" مع محمد سعد أو في مسلسل "لهفة" مع ابنته دنيا.
سمير مازال الكوميديان الذي لا يقهر ولا يقارن، و"السميريزم غانميزم"، أو كيف تباغت الجمهور من حيث لا يدري، فن سيدرس في الجامعات في يوم قريب.