صباح الأربعاء 24 يونيو
اتصل بي زميلي من المكتب وأنا في طريقي إليه "هناك 4 رجال يسألون عنك". كان صوته متوترًا وكلامه مقتضبًا. أرسلت رسالة سريعة لمستشارنا القانوني ولم يفتني ملاحظة الميكروباص الأحمر الواقف بالقرب من المكتب وبالقرب منه أربعة رجال بحجم واحد تقريبًا في ملابس مدنية. اعتدنا من تغطية أخبار الاعتقالات أنها تحدث دائما في ميكروباص على يد رجال بملابس مدنية، لا في سيارات شرطة مع ضباط بزي رسمي كما هو مفترض. أرسلت رقم لوحة الميكروباص المعدنية للمحامي وصعدت بسرعة إلى المكتب وأنا أشعر أنني مميزة لأنهم أرسلوا لي ميكروباصًا أحمر على غير العادة.
لم أكن أعرف وقتها أنهم حرفيًا اقتحموا المكتب قبل ساعة إلا ربع. انتظر اثنان أمام مدخل العمارة بينما صعد ستة أشخاص وثبتوا زميلي في مكانه واطلعوا على بطاقته، منعوه من استخدام هاتفه، ثم فتشوا المكتب بحثًا عن أبواب خلفية قد يهرب منها أحد. بهتوا أنه صادق وأنّ لا أحد غيره هنا.
لم يجدوا سوى جهازي لابتوب يبدو أنهما لم يستخدما منذ فترة طويلة، وجهازي ديسكتوب لم يستخدما من قبل، أسلاكهما ما زالت بورقتها والكيبورد في علبته. شخطوا فيه عندما لم يجدوا أي موظفين، وهددوه ليعترف بعنوان "المقر التاني اللي أكيد الموظفين مستخبيين فيه"، عندما أكد أن المكتب أصلا مغلق "عشان كورونا، وإن مفيش حد بييجي غيره وغيري"، خرج كبيرهم إلى الشرفة وأجرى عدة مكالمات يطلع فيها شخصًا ما على شيء ما ويستشيره في الخطوة القادمة. ثم طلب من زميلي الاتصال بي وعدم اعطائي أية معلومات. أمر اثنين من رجاله الستة بالنزول من المكتب والاختفاء من الشارع مع الاثنين الآخرين حتى أصعد إلى المكتب.
يقع مكتبنا في شارع هادئ بالمعادي، تطل شرفاته على أشجار ليمون وكمثرى ومانجو وبرتقال. اخترنا الضاحية الجنوبية مقرا لهدوئها وقرب المكتب من المترو. ولكن السبب الحقيقي كان الابتعاد عن الأماكن الساخنة. السائد هو تمركز الصحف والمواقع في وسط البلد والدقي حتى يتحرك المراسلون بسرعة من المكتب إلى أماكن الاشتباكات ومراكز صنع القرار، ولكن ذلك ليس مجالنا. كان خيارنا من البداية ألا ننافس في التغطية الإخبارية فهذه عملية مكلفة وشديدة الخطورة. قررنا الاكتفاء بنشرتين إخباريتين يوميًا نطلع القارئ فيهما على أهم الأحداث مع توضيح سياقاتها، الساعة 10 صباحًا والساعة 5 مساءً. ولأن عددنا قليل جدا قررنا الاكتفاء بنشرة واحدة فقط يوم السبت، والجمعة إجازة.
دخلت المكتب لأجد ثلاثة أشخاص في ملابس مدنية ورابع أكبر سنًا. اثنان منهم يدخنان السجائر وقد بدآ بالفعل في فحص أجهزة الكومبيوتر قبل وصولي. عرفت بعدها أن أحدهم رائد مهندس، وهو من أعدّ التقرير الفني الذي سيصدر بعد عدة ساعات لتواجهني به النيابة في اليوم التالي. عرّفني الأكبر سنًا بنفسه: العميد مدير إدارة مباحث المصنفات الفنية، أطلعني على بطاقة هويته وطلب الدخول إلى مكتبي. ولأني لم أكن عرفت وقتها إساءتهم معاملة زميلي؛ طلبت لهم قهوة. سألني العميد عن تاريخ إنشاء الشركة والتراخيص. كلما سأل عن وثيقة سحبتها من ملف معد مسبق وأعطيتها له. كل الوثائق التي طلبها كانت موجودة بالكامل لدرجة أنه سألني إن كنت أنتظر حضوره.
الحقيقة التي لم أقلها له أنني في انتظاره منذ سنتين أو يزيد. عندما حجب موقعنا عام 2017 كنت في انتظاره. كلما اقتحمت قوات الأمن مقر مؤسسة صحفية كنت في انتظاره. كلما أوقف صحفي في المطار كنت في انتظاره. كلما اعتقل صحفي من بيته كنت في انتظاره. تنفست الصعداء حين فطمت ابنتي من الرضاعة لأن ذلك يحسّن موقفي في انتظاره، وكلما أنهى ابني امتحانات سنة دراسية أقول أنا الآن وضعي أفضل في انتظاره. ومن أجل هذا اليوم وأيام قادمة أعددت أوراقي جيدًا واستصدرت كل التراخيص اللازمة وحرصت وزملائي أن نقنن أوضاع الشركة وندقق المحتوى ونلتزم المهنية ثم القانون.
ولكن حضوره اقترب أكثر قبل أسابيع قليلة حين علمت أن باحثًا شابًا لامعًا اعتقل من منزله، وأثناء أيام اختفائه قبل ظهوره في النيابة خصصت إحدى جلسات استجوابه بالكامل لسؤاله عني شخصيًا وعن المنصة. عرفت الباحث الشاب قبل 4 سنوات. لفت نظري كتاباته على فيسبوك وحرصه الشديد على دعمها بالأرقام والمصادر السليمة. دعوته للكتابة في المنصة لأني رأيت فيه كاتبًا سيكون له شأن عظيم في المستقبل. هذا ما تفعله المنصة؛ تسعى لاكتشاف المواهب الشابة في عالم الصحافة وتدعمهم بالامكانيات التحريرية ومساحة النشر. ننشر قصصهم جنبًا إلى جنب مع الأسماء الكبيرة الراسخة. هذه هي أيضًا رسالتي الشخصية، فقد بدأت حياتي مدونة قبل أن التحق بالعمل في مؤسسات صحفية كبرى داخل وخارج مصر. ومن خلال عملي كمدير تحرير لموقع المصري اليوم أعطيت ذات المساحة لكتّاب شباب سرعان ما حصدت مقالاتهم قراءات وإعجاب الجمهور وحصدوا هم جوائز "أفضل مقال صحفي" عامًا تلو آخر.
لم أفهم أبدا سبب استجواب الباحث الشاب عنا. فآخر مقال نشرته له المنصة كان في أبريل 2019، ولم تكن أي من مقالاته عن مصر. ولكن من قال إن لكل الظواهر أسباب منطقية؟
بعد ظهر الأربعاء 22 يونيو
بعد ثلاث ساعات تحقيق متخفٍ في صورة دردشة.
- اللابتوب دا عليه برامج غير مرخصة. تحديدا Adobe illustrator وAfter effect.
= ولكن هذا الجهاز يعمل بنظام تشغيل Ubuntu وهو نظام تشغيل مفتوح المصدر ولا يقبل تقنيا تشغيل مجموعة Adobe وبالتالي مستحيل تواجدها عليه.
- ولكني وجدت عليه برامج Adobe.
= ممكن توريهالي؟
- أنا مش عارف ألاقيها. بس هي موجودة ومعمولها تعمية. اثبتيلي انها مش موجودة.
استدرت للعميد وقلت له "هذا كلام غير مهني. ليس دوري إثبات عدم وجود برامج على جهاز، دوركم أنتم إثبات وجودها. وعلى أية حال لدينا بالفعل رخصتين لاستخدام Adobe حتى مع عدم معقولية الادعاء". قال "عندك حق، سنحتاج أن نأخذ الجهاز وسنحتاج أن تأتي معنا حتى نقوم بفحص أدق".
انتابني خوف شديد وارتعشت يدي. تعمقنا في مناطق اللا معقولية. أصابني مغص شديد. دخلت إلى الحمام وأرسلت رسالة للمحامي الذي كان في طريقه إليَّ "أنا كدا بيتقبض عليا؟" رد "آه". تبخر الخوف فجأة وحلت محله السكينة. تنفست بهدوء وتذكرت كل ما أعرفه عن الاعتقال والتحقيقات والحبس وحقوقي كمتهمة. وقوع البلاء ولا انتظاره، أفضّل كثيرًا الاستجواب الرسمي عن الدردشة، يروقني وضوح الأدوار والخصوم حتى وإن كان الخطر أكبر. لا أجيد التعامل في المساحات الرمادية، حتى إن سعيت.
ركبت الميكروباص الأحمر مع العميد ورجاله السبعة وملابسهم المدنية. قال لي إننا ذاهبون إلى مقر مباحث المصنفات بشارع جامعة الدول العربية. حاول التحفظ على هاتفي ولكني أصريت على الاتصال بزوجي أولًا، أخبرته بما حدث بسرعة وبوجهتنا ثم سلمتهم الهاتف. بدلًا من الخروج إلي الكورنيش اتجه الميكروباص إلى قسم المعادي قاطعًا شوارع الضاحية الهادئة. أثناء مشاهدتي للأشجار تذكرت الراحل أحمد سيف الإسلام، وقررت أنه سيكون مصدر قوتي في الساعات والأيام القادمة، ليس كمحام فهو لم يترافع عني أبدًا لأنني لم أتعرض للتحقيق من قبل، بل كسجين. في يوم من أيام ربيع عام 2005 التقيته أول مرة كصحفية، حدثني في لقائنا الأول عن فترة سجنه التي درس فيها المحاماة فخرج من سنوات السجن محامٍ حقوقي، قال إنه لم ينزع أبدًا عن سجانه آدميته، وأنه كان يعرف جيدًا أن سجانه ومعذبه مجرد أداة أو موظف ليس مستعدََا بعد لإدراك أثر وظيفته عليه هو نفسه قبل ضحاياه.
مساء الأربعاء 22 يونيو
بعد ساعات انتظار طويلة قضيتها دون تململ في مكتب مع 22 درّاجة مسروقة تحت حراسة مخبرين اثنين، طلب مني العميد التوقيع على المحضر الذي كتبه، فرفضت التوقيع. في الدور الأرضي سألوني هل معي مبالغ مالية أو في حقيبتي أشياء ثمينة. لم يبلغوني شيئًا ولم أسألهم، أدركت إني "بأسلّم أمانات" وهو ما يعني دخولي الحجز. سلمت الأمانات بهدوء ودخلت.
أعرف أني إن سألت أو طلبت أي طلب سيتلذذون بعدم الإجابة أو بالصراخ في وجهي، أو بتضليلي. قررت نزع سلاحهم وامتنعت عن الأسئلة من وقتها وحتى خروجي. الوقت في صالحي، سيضطرون مهما طال الوقت لعرضي على النيابة. استعددت نفسيًا للأسوأ، وساعدني ذلك كثيرًا على التعامل مع كل ما تلاه.
زنزانة النساء غرفة مساحتها 3.5 متر في 4.5 متر، تشمل حمامًا عبارة عن تواليت فوقه دش تنقط منه المياه بلا توقف، وتعزله عن باقي الزنزانة ستارة بيضاء نصفها الأسفل مطبوعة عليه ناطحات سحاب مانهاتن الشاهقة باللونين الأسود والرمادي. أمام الحمام رخامة بها حنفية بلا حوض أو صرف مرصوصة عليها علب الأكل والزجاجات الفارغة والممتلئة. وتحتها صندوق للأحذية والشنط وكيس واحد كبير للقمامة. فوق الحوض حبل غسيل بطول الغرفة ممتلئ عن آخره دائمًا، لأن كل الزميلات يستحممن ويغسلن وينشرن ملابسهن يوميا. المساحة المتبقية تشغلها 10 نساء. في الحائط جهاز تكييف ضخم لا يعمل، تستخدم الفتحات بين ريشاته لحشر أطباق الفوم التي تحمل اللانشون والجبن. كنت أنا نمرة 11.
بادرتهم بابتسامة "أنا مش عاوزة أضايق حد، قولولي أقعد فين وإيه النظام وأنا هتعامل". ردت رئيسة الزنزانة، وهي امرأة ستينية معتدة جدًا بذاتها تطلق النكات دائمًا دون أن تضحك، وتقول عن نفسها بفخر "صاحبة أكبر دولاب في العاصمة في شق التعبان"، قالت لي "انتي فاكرانا إيه؟ تعالي يا حبيبتي مدّي إيدك وكُلي. اقعدي مطرح مانتي عاوزة".
شاركتهن أكلهن، وعرفنني بأنفسهن وتهمهن: سرقة، مخدرات، دعارة. قالت لي التي سأنام فيما بعد بجوارها "سرقت 120 ألف دولار و4 خواتم ألماظ من واحد مسيحي. كنت عارفة إن الخزنة فيها 4 آلاف دولار وخاتمين، يوم ما فتحتها اتفاجئت باللي فيها، لكن ملحقتش اتهنى بيهم. البوليس جابني من الكاميرات ورجعوا كل حاجة". جميعهن نساء قويات لا يدّعين البراءة، يتحدثن بتصالح عن جرائمهن ويذكرن بشكل عابر ومقتضب الفقر والعوز الذي أدى بهن لذلك. يحملن هَمَّ مصاريفهن في السجن والتي سيتحملها ذويهن. يرفضن تسميته "القناطر"، تقول إحداهن عن سجن النساء "القناطر دي نقولها ع المكان اللي كنا بنتفسح فيه ونركب مركب وناكل بيض وفطير. اسمه العمومي. محدش يقول عليه القناطر يا بنات". شعرت وسطهن بالراحة لأنهن، على الأقل في هذه الزنزانة، لا يحاولن ادعاء غير حقيقتهن. سألنني الأسئلة التي يستقبلن بها كل نزيلة جديدة: إنتي منين وتهمتك إيه؟ قلت لهن "مصنفات" فلم يفهمن شيئًا. "يعني بتشتغلي إيه؟" قلت صحفية. قُلنَ "كان لسة عندنا هنا من قيمة شهر واحدة صحفية بردو كانت بتصور الست اللي قاعدة قدام السجن عشان ابنها محبوس ومبيدوهاش جوابات".
في 17 مايو اعتقلت الزميلة لينا عطا الله، رئيسة تحرير مدى مصر، أثناء إجرائها مقابلة صحفية مع ليلى سويف والدة سجين الرأي علاء عبد الفتاح أمام سجن طرة. كيف يمكن للأقدار أن أدخل نفس الزنزانة التي سبقتني إليها لينا؟ كيف يمكن أن تكون هؤلاء النساء ما زلن هنا كل هذا الوقت؟ عرفت أن بعض زميلات الحبسة أمضين ما يزيد عن سبعة شهور في هذه الغرفة الصغيرة المكتظة، التي بعكس السجن، لا تمكنهن من "ساعة التريض" ولا الخروج للشمس ولا الحركة لضيق المساحة.
وقت النوم أعطينني المكان رقم 3 من جهة الباب. اخترن لي المكان بين اثنتين تجيدان النوم على جنبهما ولا تتقلبان كثيرًا. كان علينا جميعا النوم "على جنب" ليسعنا المكان. ولكني لم أنم سوى الرابعة فجرًا لأنهن بعد مسح وتنظيف الزنزانة يوميًا يسهرن ويضحكن ويغنين طول الوقت، ولم يكن ليفوتني ذلك.
صباح الخميس 25 يونيو
انحشر 30 رجلًا في عربة الترحيلات، كل اثنين مكلبشين في بعضهما، وأغلق عليهم الباب بالقفل. ثم في المساحة المتبقية لجلوس الحراس، وهي أقل من متر مربع، صعدنا نحن أربع نساء كل اثنتين مكلبشتين في بعضهما أيضًا. ثم صعد أمين شرطة، وبعده دراجتين "حرز" أحد المتهمين بسرقة الدراجات، ثم اثنين من أمناء الشرطة أحدهما يحمل اللابتوب الحرز الخاص بي. ثم أغلق الباب الأخير علينا نحن والأمناء والأحراز من الخارج بالقفل.
كدت أقع على الأمين الأول الذي أشعل سيجارة داخل علبة السردين فطلبت منه أن يحرك ساقه قليلا وسبقت طلبي بـ "من فضلك" ليصرخ في وجهي "إنتي متهمة". صرخته المدوية كان معناها "متنسيش نفسك، ملكيش هنا طلبات". شعرت بالغضب للحظات ثم تذكرت؛ يريدوننا غاضبين وخائفين. لم يزعجني الكلابش ولا إجباري على الوقوف ساعات طويلة ولا الصراخ في وجهي. إن أردنا الاستمرار يجب ألا ينالوا ذلك.
ساعات انتظار طويلة جدًا أعقبها تحقيق استمر لساعة ونصف. هونها كلها كلام محامي المنصة الأستاذ حسن الأزهري عن دعم الأصدقاء والزملاء المنتظرين أمام سراي النيابة والقسم، وحديثه عن استمرار المنصة في العمل والنشر دون تأثر، والمحامين المتطوعين الذين جاءوا لتقديم الدعم القانوني، والمنظمات التي أصدرت بيانات، والإعلام الذي قام بالتغطية.
وجه لي وكيل النيابة تهم "إنشاء حساب على شبكة معلوماتية يهدف إلى ارتكاب وتسهيل ارتكاب جريمة معاقب عليها قانونًا. وحيازة برامج مصممة ومطورة بدون تصريح من الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات. والاعتداء على حق أدبي ومالي لصاحب الحق من المصنف. والانتفاع دون وجه حق عن طريق شبكة النظام المعلوماتي أو إحدى وسائل تقنية المعلومات وخدمة الاتصالات وخدمة من الخدمات المسموعة والمرئية".
أجبت كل الأسئلة وقدمنا كل الوثائق المطلوبة. ولكن لم يسعني سياق التحقيق لأحكي له التفاصيل. في يناير 2016 أسست شركة المنصة كشركة ذات مسؤولية محدودة برأس مال ألفي جنيه. كنا متحمسين جدًا ولم يشغلنا حماسنا وعدم وضوح المستقبل عن اتخاذ كافة الاجراءات القانونية اللازمة كي "نمشي في السليم". عقد الشقة والتليفون إداري، الملف الضريبي، مجالات عمل الشركة مناسبة لطموحاتنا الحالية وربما المستقبلية، ذاكرنا قوانين النشر، ووضعنا قبل أن نبدأ العمل كتاب الأسلوب والقيم التحريرية كوثيقة نلزم بها أنفسنا أمام القارئ. وألحقناها بعد سنوات بسياسة وآليات لمناهضة التحرش والتمييز كي نضمن بيئة عمل آمنة للجميع.
تبرع الزملاء والأصدقاء بالبرينتر، ومكاتب وكراسٍ مستعملة، وصور للحائط. صديقة أهدتنا ثلاجة وتكييف، أخرى أهدتنا وايت بورد، وهكذا. بعد فترة أنشأنا "صندوق الخصومات" الذي يستمد موارده من خصومات تأخير الزملاء في الحضور واشترينا منه ماكينة القهوة وبلاي ستيشن لزوم الدلع، وحين انتفخ الصندوق اشترينا منه طقم كراسٍ جديد لكل العاملين.
بادرنا بتسجيل الموقع كموقع مملوك للشركة لدى هيئة صناعة تكنولوجيا المعلومات في 2017. وفي عام 2018 تم تأسيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام برئاسة الأستاذ مكرم محمد أحمد الذي أعلن في أكتوبر من العام نفسه عن ضرورة تسجيل المواقع الإلكترونية للحصول على ترخيص في مدة أقصاها 14 يوم من تاريخ الإعلان وبشروط تعجيزية.
سابقنا الزمن لاستكمال الأوراق وتدبير الـ 50 ألف جنيه رسوم التسجيل المقررة وقدمنا الطلب في الموعد وانتظرنا الترخيص. شهور مضت ولم يصلنا رد. أرسلنا خطابين مسجلين بعلم الوصول للمجلس للاستعلام عن وضع الترخيص ولم نحصل على رد. طرقنا باب مقر المجلس عدة مرات وقيل لنا كل مرة لم يصل قرار بشأنكم بعد. وبما أنه لا يوجد أي نص في قانون تنظيم الإعلام يوضح الإجراء اللازم في حالة عدم رد المجلس استمرينا في العمل.
خضنا نقاشات أكثر من مرة أننا خائفون، ولا نريد أبدًا أن يكون وضعنا خارج إطار القانون، ولكن المجلس يضعنا في مأزق بعدم الرد. فكرنا في رفع قضية على المجلس لإلزامه بالرد علينا، ولكن قررنا أن السلطات ربما تعتبر ذلك تصعيدًا. نحن لا نريد استثارة عداء أو غضب أي طرف. هدفنا الأوحد منذ ولدت المنصة، كان وما يزال، الاستمرار في الصدور.
كل أجهزة الكمبيوتر المملوكة للشركة والمستخدمة بها إما تعمل بنظم تشغيل مفتوحة المصدر (أي أصحابها تنازلوا عن كافة حقوقهم الأدبية والمالية) ubuntu، أو بنسخ ويندوز مرخصة. أجهزة الويندوز عليها مجموعة برامج adobe ورخصها موجودة وسارية. ولأن جهازي الشخصي آبل ماكنتوش حصلنا على رخصة من وزارة الثقافة للانتاج الفني كلفتنا ما يزيد عن خمسة آلاف جنيه لأننا نعرف أن مباحث المصنفات ستعتبره وحدة مونتاج غير مرخصة حتى لو لم توجد عليه أي برامج مونتاج.
مساء الخميس 25 يونيو
أعادني ميكروباص ترحيلات إلى القسم مع عدد أقل من المتهمين، والدراجتين. زميلتي في الكلابش لم تكف عن البكاء، أخذت تجديد حبس 15 يوم ولم يحضر محاميها. لم يخبرني أحد بقرار النيابة، قالوا لم يصدر بعد. عدت إلى الزنزانة وتطلعت إلى الحصول على قسط من النوم. لم يكن عندي أمل في الخروج، توقعت البقاء لعدة أيام قادمة. قررت أنه من الأفضل ضبط توقعاتي دائما للأسوأ. عندما بدأت النوم قرعت خبطات قوية على الباب، تهب النساء في فزع يغطين شعورهن ويقفن صفين مطأطآت رؤوسهن إلى أسفل. كيف حدث ذلك؟ كيف تم ترويض كل المحبوسات في قسم الشرطة، لا السجن، على الوقوف وطأطأة الرأس بمجرد سماع الطرق تمامًا كالارتباط الشرطي للكلب والجرس في نظرية بافلوف. هل هناك برنامج تدريبي ما يمر به النزلاء؟
نادى رجل بملابس مدنية اسمي، سألني عن اسم والدتي، عرفت أنهم سيكشفون في قاعدة البيانات عني كإجراء روتيني للتأكد من عدم وجود قضايا مطلوبة على ذمتها قبل إطلاق سراحي. هذا اجراء من ضمن ما يسمى "عرض المباحث". وبذلك عرفت أن قرار النيابة كان إخلاء سبيل. أعطاني ورقة وقال "إمسكي دي" وفجأة أخرج كاميرا وحاول تصويري. قلبت الورقة لأجد مكتوبًا عليها اسمي الثلاثي وتهمتي من وجهة نظر مباحث قسم المعادي: "إدارة موقع نت". رفضت التصوير، انتابني خوف أن أجد صورتي على الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية محاطة بأسلحة أو مخدرات أو مبالغ مالية كما يحدث أحيانا. ولكن الزميلات صِحْن في نفسٍ واحد "اتصوري عادي، كلنا اتصورنا".
بعد قليل أخذوني للدور الثاني. بجوار السلم المؤدي لأعلى غرفة زجاجية مغلقة ومظلمة عليها لافتة بحروف ذهبية كبيرة "مكتب حقوق الإنسان". بالأعلى أمسك رجل المباحث الجالس خلف مكتبه يدي وحاول أخذ بصمتي على ورقة مطبوع عليها كلمة "الاتهامات" ومخطوط بها كلام كثير بخط اليد. سحبت يدي وطلبت قراءة ما سأبصم عليه أولًا. صرخ في وجهي وقال "رجعوها". جاء أحدهم وأعادني إلى الزنزانة.
فجر الجمعة 26 يونيو
رحت أخيرا في نوم عميق أيقظتني منه خبطات على الباب، كان ملازم يبدو أنه جديد في القسم. سبّ السجينات وسألهن واحدة واحدة "اسمك ايه وتهمتك إيه يا بت؟"، عندما جاء دور رئيسة الزنزانة قالت له "أنا بنت القسم يا باشا. المأمور دا والمأمور اللي قبله اترقوا على إيدي يا باشا. عقبال ما أشوفك مأمور". صرخ في وجهي "لمي حاجتك وتعالي معايا". مشيت خلفه، لم يقل كلمة واحدة، سلمني متعلقاتي من الأمانات. ظللت واقفة في مكاني في صمت قطعه هو "مستنية إيه؟ رَوّحي".
في منزلي أدركت مدى حماقتي. لماذا عبس وجهي حين قاموا بتصويري، هذه ليست تهمة أصلا. الصحافة ليست جريمة. وما هي المشكلة في "إدارة موقع نت"؟ ربما لو كنت ابتسمت وقتها وأمسكت الورقة بفخر لأدركوا عبثية الاتهام.
عزيزي القارئ،
نعرف جيدًا أن البيئة العامة في مصر ليست داعمة لحرية الرأي والصحافة. منذ بدأنا وحتى اليوم عشنا لنشهد الكثير؛ إغلاق الجرائد والمواقع الصحفية أو بيعها وتغيير سياستها التحريرية واحدًا تلو الآخر؛ التحرير، الدستور، البداية، البديل، منشور، كاتب وأخيرًا زحمة ومنطقتي.
يومًا بعد يوم تنفضُّ الساحة من حولنا، ويخرج الزملاء من مصر واحدًا تلو الآخر إما هربًا من الملاحقة الأمنية أو بحثًا عن الرزق بعد أن ضاقت السبل. ندرك جيدًا أنه في مثل هذه الظروف سبيلنا الوحيد للبقاء هو التزام المهنية واحترام القانون. يدقق زملائي القصص قبل نشرها مرتين أو ثلاثة، ونرسل عشرات القصص لمستشارنا القانوني لمراجعتها قبل النشر.
ندرك جيدًا أن استمرار المنصة في الصدور من مصر هو مصدر أساسي لثقة المصادر والقراء والسلطات بنا، نعرف سهولة تخوين المواقع الصادرة من الخارج بغض النظر عن جودة المحتوى الذي تقدمه، كما نعرف الصعوبة التي يواجهها الزملاء الذين سافروا في تقديم تغطية طازجة ومهنية وغير منفصلة عن الواقع من الخارج.
لماذا نصدر؟ هل نهوى وجع القلب؟ أليس متاحًا لكل العاملين في هذا الموقع، وهم مِن خيرة الصحفيين، أن يجدوا أماكن أفضل خارج مصر؟ لا. لا نهوى وجع القلب. ونعم هذا الفريق المتميز بإمكانه الخروج إلى أماكن أفضل ببعض البحث والتليفونات. لكن الاستمرار هنا في هذا البلد يحمل رسالة أخرى.
أحد التعريفات الكلاسيكية للصحافة هو أنها مسودة أولى في كتاب التاريخ (أعرف أن الجملة تبدو تعريفًا مثاليًا للكيتش)، ولكننا نريد من استمرار صدورنا في العموم، وصدورنا من مكتب في قلب القاهرة تحت أعين الجميع، ألا يتساءل باحث أو مؤرخ بعد 20 سنة: هل ابتلع الصحافة المصرية ثقب أسود في الفترة ما بين 2013 وإلى أن يصبح طرح مثل هذا السؤال متاحًا؟
كموقع من قلة باقية تقدم صحافة من مصر؛ نتحمل مثل هذا النوع من السخافات والاتهامات المخيفة والمضحكة فقط لأننا لا زلنا نؤمن أن للصحافة دور، وأننا لا نقبل، وزملاءنا في مَن تبقى من مواقع مصرية، أن تكون الصحافة الوحيدة الممكنة عن مصر قادمة من خارج مصر.
ماذا سيحدث للمنصة في قادم الأيام؟
سنستمر في الصدور بنفس الطريقة، وإن كنا سنتشدد أكثر في معاييرنا حتى تكون التقارير والتحقيقات والمقالات التي تواجهنا بها الدولة في قادم "الكبسات" أكثر قوة وعددًا على حساب التغطيات الإخبارية التي سنظل نقدمها على فترات متباعدة، ليس عيبًا في التغطيات الإخبارية بالطبع، وإنما انتماءً للقالب الصحفي الأفضل والأقوى من وجهة نظرنا: التحقيقات والتقارير المعمقة.
عزيزي القارئ،
نحن نسعى للبقاء، هنا، في مصر، وفي هذه المهنة، وبهذه الجودة أو أفضل. نحن نسعى للبقاء معك، وفي سبيل ذلك نتخذ كافة السبل.