حقق فيلم الجوكر الذي انتظر معجبوه بلا أمل تقريبًا، الفوز بجائزة الأوسكار لأحسن فيلم، رواجًا واسعًا حول العالم ولا سيما في البلدان العربية. وتعرض في المقابل لانتقادات دوائر الصوابية السياسية Political Correctness متهمًا بالترويج للعنف، رغم كونها شخصية خيالية تليدة في شرها منذ ظهورها لأول مرة في سلسلة باتمان المصورة في أربعينيات القرن الماضي.
في مقابلة صحفية، علّق مخرج الفيلم، تود فيليبس، على منتقدي الفيلم قائلًا "لقد أصبح لافتًا للنظر كيف يتبنى اليسار المتطرف تدمير الثقافة (...) أنا مندهش، أليس مرغوبًا الخوض في النقاشات حول هذه النوعية من الأفلام عن العنف؟ لماذا هذا غير مرغوب ما دام سيؤدي إلى حوارٍ بشأنه".
لا تتبنى دوائر الصوابية السياسية تدمير الثقافة، ولكنها لا تدّخر جهدًا لتحويل الصوابية السياسية إلى أداة لفرض لغة ومعايير بعينها على المجتمع. ومع ذلك أصاب فيليبس الهدف مباشرة عندما سأل عما إذا كانت النقاشات التي تثيرها هذه النوعية من الأعمال الفنية مرغوبة من عدمه.
إذا كنا جادين إزاء مناهضة العنف، فلا يمكن فهم موجة العنف الناتجة عن تضامن الجماهير مع الجوكر إلا بالارتباط مع حالة اغتراب الأغلبية الغاضبة وثورتها. وبطبيعة الحال، فإن النقاشات التي قد تثيرها مثل هذه الدراما ذات الأبعاد الطبقية، ستؤدي إلى نقاشات حول الصلاحية الاجتماعية Social Validity لشروط الحياة المادية والعلاقات الاجتماعية التي تشكل المجتمع المدني بشكله الحديث.
ولهذا فإن الإجابة على سؤال فيليبس حول انعدام الرغبة في تناول تلك القضية ستكون نفيًا من جانب دوائر الصوابية السياسية، حيث لن تسمح باستخدام ورقة الجوكر لفتح حوار حول الصلاحية الاجتماعية لأن نزعتها الاخلاقية تتعارض جوهريًا مع مثل هذا الحوار، وتنبذه لصالح فرض استخدام لغتها الاستراتيجية، التي تعتقد أنها ستؤدي لتغير الواقع، وتعرقل مساهمة الأغلبية في المناقشات حول الصلاحية الاجتماعية للسياسات والقوانين.
بديل الصلاحية الاجتماعية
هناك طبعات مختلفة من الصوابية السياسية بعدد الأيديولوجيات الممكن تصوّر وجودها، فبينما ترجع جذور المصطلح إلى الحقبة السوفيتية، استخدمه المحافظون الجدد في الولايات المتحدة منذ أواخر السبعينات من القرن العشرين لمعارضة المحتوى التحرري للمناهج الجامعية، باعتباره تهديد لقيم المجتمع المسيحي السائدة.
أما اليوم انقلبت الآية، أصبحت الصوابية السياسية في الغرب مرادفة لسياسات الهوية النسوية، الجنسوية، الأقلوية.. إلخ، لكن معاناة شخصية الجوكر المغتربة مثل"الإنسان المعاصر"، صار اغترابها غير مرتبط بسياسات الهوية، هو مغترب فحسب بسبب شروط الحياة المادية في مجتمع طبقي.
من وجهة نظر الكاتب الموهوب شادي لويس، الذي لا ينكر ما قد تتضمنه الصوابية من إمكانية "قمعية"، فإن التهديد الكاسح الذي يتصوره البعض في الصوابية السياسية، وخصوصًا في البلدان العربية، "لا يتعدى كونه ضرباً من الهوس، أو مجرد رياضة عقلية ينخرط فيها أصحابها، أو بغية الاشتراك في جدل يجري في مكان آخر وسياقات أخرى مختلفة تماماً... فكما يُلام بعض مروجي قوالب الصوابية السياسية على انفصالهم عن الواقع، فإن الخائفين من قمعية خطابها يبدون في حالة مضاعفة من الانفصال (...) عما يحدث في الغرب".
والحقيقة، أن البلدان العربية ولا سيما مصر يتحدث الفرقاء فيها بخطابات تمثل نسخ مختلفة من الصوابية السياسية تجعل الحوار حول القضايا الاجتماعية أو شروط الحياة المادية حوار طرشان ومحاولات مستميته لإخضاع الآخر المختلف عنهم، وهو ما أدى لأن تصبح سياسات الهوية بديلًا للصلاحية الاجتماعية، أي تهميش سائر القضايا الاجتماعية الملحة وتجاهل مناقشة صلاحية السياسات والقوانين المرتبطة بها مثل السياسات الضريبة والتوزيعية وقوانين التعليم والصحة..الخ.
وهذا ليس افتراض نظري بل هو ما تمخضت عنه تجارب الانتفاضة العربية المستمرة خلال عقد من الزمن، فمثلًا النخب الوطنية أو الطائفية الحاكمة، حسب الأحوال، وفي المقابل الجماعات الإسلامية يتبنوا لغتين استراتيجيتين مختلفتين، إلا أن كلًا منهما يتخذان قالب من قوالب الصواب السياسي المتمحور حول سياسات الهوية الشرق أوسطية لو جاز التعبير.
وبينما نرى الجماعات القومية واليسار التقليدي مترددة بين التماهي مع خطاب الشعبوية الوطنية أو الإسلام السياسي، فإن البعض الآخر، يحاول استيراد صوابية اليسار الليبرالي الغربي ولغته الاستراتيجية لفرضها بالتحديد على دوائر اليسار العربي الجديد، الذي يتشبث بورقة الجوكر ويرفض بوضوح التماهي مع الخطابات السائدة ويحاول طرح مسألة توزيع السلطة والثروة، ليتمحور بدوره حول نوع آخر من سياسات الهوية على الطريقة الأمريكية.
أصل الصوابية السياسية
لنأخذ مثالًا على عالم تسيطر عليه الصوابية السياسية بالكامل، من فيلم "موت ستالين" الذي يقدم في قالب من الكوميديا السوداء تهافت النخب السوفيتية بعد وفاة جوزيف ستالين المفاجأة، تظهر هذه النخب عاجزة عن التوافق حول أي شيء. فليس المهم ما يدور بشأنه الحوار، ليست مهمة حقيقة الأمور والأشياء، المهم هو تصويب الخطاب والتأكيد على عصمة القيادة، واستخدام المفردات الملائمة من قاموس لغة الحزب الشيوعي السوفيتي والتمييز الدقيق ما بين دلالة كلمات هذا القاموس مثل "ليبرالي" و"راديكالي".. إلخ، وهو ما ينتهي إلى حلقة مفرغة من العنف.
والحقيقة كلما قرأت أو سمعت خطاب الصوابية السياسية بطريقة قل ولا تقل ثقيلة الظل، ينقبض قلبي للحظة وتذكرت هذا العالم المشبع بالكوميديا السوداء، وأشعر وكان شبح ستالين يجول بكل الأركان والثنايا التي يتغلغل بها هذا الخطاب، قبل أن أعود وأبتسم بارتياح ما أن أتذكر كم هي بائسة الأشباح وقليلة الحيلة في التحليل الأخير.
فالصوابية السياسية التي وظفها ستالين لتصفية وإسكات خصومة السياسيين من قادة الحزب الشيوعي السوفيتي على مراحل مختلفة باعتبارهم مرتدين من أعداء الشعب، ترجع لما هو متقدم عن حقبته حيث طرحها فلاديمير لينين كمفهوم، قبل أن تتحول لممارسة وحشية وقاتلة، في مؤلفه اضطراب الطفولية اليسارية في الشيوعية بمعرض إجابته على سؤال كان ملحًا في زمن الثورة، "كيف يتحقق انضباط حزب البروليتاريا الثوري؟ وبما يجري اختباره؟ وبما يعزز؟".
الإجابة كانت عند لينين "أولاً، بوعي الطليعة البروليتارية ووفائها للثورة وبثباتها وشجاعتها وبطولتها وروح التضحية بالذات عندها. وثانيا، باستطاعتها الترابط، وإذا شئتم الاندماج بقدر ما، مع أوسع جماهير الكادحين، وفي المقام الأول مع جماهير البروليتاريا، وكذلك مع الجماهير الكادحة غير البروليتارية. وثالثاً، بصواب القيادة السياسية التي تقوم بها هذه الطليعة، وبصحة استراتيجيتها وتكتيكها السياسيين، شرط أن تقتنع أوسع الجماهير الكادحة بهذه الصحة بتجربتها الخاصة".
"وبدون هذه الشروط لا يمكن تحقيق الانضباط في حزب ثوري كفء حقًا، ليكون حزب الطبقة المتقدمة الذي يعمل على إسقاط البرجوازية، وتحويل المجتمع كله، وبدون هذه الشروط تتحول محاولات توفير الانضباط وبلا شك إلى هراء".
يمكننا استخلاص كل ما نحتاج أن نعرفه تقريبًا عن الصوابية السياسية من هذا الاقتباس الأخير؛ فما يستهدفه لينين من الانضباط الحزبي هو تحويل المجتمع كله من خلال اقتناع الجماهير الكادحة بصواب القيادة السياسية وصحة استراتيجيتها وتكتيكها، إذًا كل ما يتعلق بالصوابية السياسية يتعلق بالقيادة أو "النخبة" كفاعل واحد ووحيد يعمل على تحويل المجتمع.
في المقابل، كل شرط أخر مثل الوعي الطبقي والاندماج مع الطبقة أو كل ما تثيره ورقة الجوكر من أسئلة وتطرح من موضوعات على الرأي العام، تبدو من وجهة نظر الصوابية السياسية حتى بطبعتها السوفيتية، أمور ثانوية لا تنتج ثمة معنى بذاتها، إلا إذا كانت القيادة على صواب ومن هذا الافتراض تكتسب القيادة قوتها وتحقق انضباط تنظيمها الطليعي.
ولكن كيف تؤدي الصوابية السياسية إلى الانضباط الحزبي أو تحويل المجتمع؛ يحدث هذا من خلال محاولة التطبيع أو جعل أوضاع بعينها، أوضاع عادية أو طبيعية من خلال تحويلها لمعايير تحدد السلوك الإنساني بصوره المختلفة.
والتطبيع بهذا الشكل يفترض مسبقًا وجود فاعل سواء شعبوي أو إسلامي، يميني أو يساري، غربي أو عربي.. إلخ، يستطيع أن يفرض محتوى معياري معين على الآخرين بشكل يمكن معه تحويل المجتمع؛ هذا المحتوى المعياري "هو الصواب الأخلاقوي من وجهة نظر ما" هو بالتحديد ما اصطلحنا على تسميته "بالصوابية السياسية".
وهذا الفاعل هو النخبة التي تسعى لخلق مجتمع على صورتها بتعبير كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي. وتنشأ عن هذه الحالة علاقة قوة ما بين القيادة أو الطليعة وبين الجماهير أو الأغلبية من الناس، علاقة تؤدي لإقناع الأغلبية بصواب الطليعة من خلال اللغة الاستراتيجية وأدوات الزجر التي توفرها القوة ومن ثم يصبح تحويل المجتمع ممكن ولو جزئيًا على الأقل.
شرطة الصوابية السياسية
بطبيعة الحال هذا ما كان له أن يحدث، لأن تحويل المجتمع لوجهة بعينها من خلال الصوابية السياسية يسلب هذه الأغلبية استقلالها الذاتي وقدرتها على تكوين الشخصية.
وتعتبر مثل هذه المحاولة وغيرها درب من دروب النزعة الأداتية؛ وهي بالأساس آفة منهجية في التفكير، وهكذا هي الصوابية السياسية، تؤدي لتجاهل التفاعلات الاجتماعية وطبيعتها التواصلية لصالح التركيز على نتائج الفعل أو غايته.
فمثلًا، ليس مهمًا فهم التفاعلات التي تجري داخل مؤسسات مثل الأسرة، المجتمع المدني، الطبقة، والدولة، بينما يجري التركيز على وظيفتها باعتبارها أدوات لتحقق غاية ما، ولقد وقع في فخ الأداتية طيف واسع من الفلاسفة الغربيين مختلفي التوجهات الأيدولوجية اليسارية واليمينية على السواء.
وفي عالمنا اليوم النزعة اليسارية الليبرالية في الغرب، وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية، هي نزعة يسارية طفولية بتعبير لينين، تستبدل الطبقي بالهوياتي وكأنها شرطة أو بوليس يلاحق مخالفين الصواب السياسي، ومن حين لآخر يتردد صدى هذه النزعة في البلدان العربية ولا سيما مصر حيث يميل خطاب نخبة اليسار الليبرالي العربي، أكثر فأكثر لأن يتحول لخطاب زجري، تعنيفي، ووصمي، بما يسبب نفور الجمهور الأوسع الذي يستقبل خطابها.
ويظهر تأثير هذه النخبة ومشروعها المتمثل في إعادة تطبيع المجتمعات بالتركيز على سياسات الهوية على حساب السياسات التوزيعية، وتتجلي في تطبيقات مثل تطبيق سالمونيلا عندما شنت نخبة أو قل شرطة الصوابية السياسية حملة وصمية واسعة، على مجرد أغنية مرحة وخفيفة الظل بل وتتضمن من وجهة نظر نقدًا ساخرًا للمفهوم الذكوري عن العلاقة العاطفية، أدت لأن تعتبر إدارة موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك الأغنية ذات محتوي مؤذي وقاسي.
ورغم أن استراتيجية الصوابية السياسية تؤدي لتعميق عزلة دوائرها ذات الخلفية اليسارية الليبرالية عن محيطها الاجتماعي، إلا أنها تظل محاولة بائسة لإثبات تفوقها الأخلاقي وإلحاق اليسار الجديد بها، وهو تيار لايزال في طور التكوين على الأقل في البلدان العربية وإما وصمه وإدانته.
ويهمنا هنا التمييز ما بين الزجر والنقد؛ فبينما يفترض الزجر وجود سلطة أو قيادة تستمد شرعيتها من احتكار الصواب السياسي وتتمثل وظيفتها في تأديب المجتمع وضبطه من خلال استراتيجية محددة سلفًا، تعمل آليات النقد بما فيها التأويل على الكشف عن كل إمكانية عقلانية في العلاقات الاجتماعية التي تشكل المجتمع المدني وهو ما يفتح أفق التوافق على الصلاحية الاجتماعية للسياسات والقوانين.
ولا شك أن شبح ستالين، ليس مخيفًا بقدر ما هو مضحك إذا تمكنت من ملاحظة طيفه من موقعك الذي تتواصل من خلاله مع الآخرين، ومع ذلك يظل تهديدًا محتملًا للديمقراطية الجذرية القائمة على التواصل المتكافئ ما بين الذوات "الأفراد"، أو حالة الحوار المثالية، وليس هوسًا التحذير من هذا الخطر كما يرى لويس، مع وجود تطبيقات له حققت بعض النتائج الغثة كما أشرنا فيما سبق. خاصة وأن حدة التنافس ما بين لغة ومعايير الصوابية السياسية، وأولية الحوار حول الصلاحية الاجتماعية مرشحة لأن تتصاعد بعد تجاوز مرحلة الجزر الراهنة مع أقرب انفتاح في المجال العام السياسي.
ولإزالة اللبس ما بين استراتيجية الصوابية السياسية، والصلاحية الاجتماعية لشروط الحياة المادية التي تمثل مهمة طرحها أولوية اليسار الجديد حول العالم؛ علينا أن نتصور المجتمع المدني كشبكة من العلاقات التي يتواصل الناس من خلالها، حيث يمكن بواسطة القدرة البشرية الحصرية على الحوار عبر المجال العام السياسي ، التحرر من الإكراهات، والترجيح ما بين الأفضليات المختلفة، وهو ما نعتبره المحتوي الراديكالي للديمقراطية.
وبطبيعة الحال، هناك عوائق في الصوابية السياسية بطبعاتها المختلفة تعرقل إجراء مثل هذا الحوار بشكل متكافئ، بما يسمح بالتشكيك في إمكانية تحقق حالة الحوار المثالية في السياقات الاجتماعية، إلا أن حالة الحوار المثالية كما يري الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، ليست سوى افتراض مسبق ضروري، إذا سلمنا بإمكانية إجراء حوار من الأساس.
ولهذا تظل إمكانية التوافق حول ما هو صالح من الناحية الاجتماعية سواء السياسات أو القوانين قائمة، بل أن هناك عدد لا حصر له من الأدلة التجريبية التاريخية على التوافق وإعادة النظر في التوافقات من خلال آليات النقد الجدلية، وبما يؤدي لإعادة صياغة علاقات القوة في المجتمعات، وبشكل يؤكد على إمكانية تحقق حالة الحوار المثالية.
وعادة ما تطرح الصوابية السياسية باعتبارها أداة لإعادة صياغة علاقات القوة لصالح الفئات المهمشة مثل النساء والأقليات وأصحاب الميول الجنسية المختلفة، مجتمع الميم، من خلال ما تتبناه من خطاب استراتيجي، إلا أن الصوابية السياسية، كما أشرنا فيما سبق، بذاتها تمثل علاقة قوة مختلة لصالح ما يمكن تسميته بدوائر الصوابية السياسية النخبوية بما انتزعت لنفسها من سلطة احتكار الصواب وما تفرض على المجتمع من معايير السلوك.
والحقيقة أن الفئات المهمشة ومطالبها المشروعة ليست في حاجة لأن تسطوا هذه النخب على نضالاتها، بل في حاجة ماسة للاعتراف بها كشريك أو طرف متكافئ في الحوار والمداولة الديمقراطية حول الصلاحية الاجتماعية لما يمسها من شروط الحياة المادية.
وفي طريق نضالاتها المتقاطعة بالارتباط، مع مشروع اليسار الجديد من أجل تغيير الشروط المادية لإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية، ستطرد الحركات الاجتماعية شبح ستالين باستخدام ورقة الجوكر ولن تقبل بأي معايير تستعمر العالم، سوى تلك الضرورية لمأسسة المجال العام السياسي من أجل ضمان الحوار والمداولة الديمقراطية.