بينما أجلس في عيادة الجراحة في مستشفي حكومي كبير في وسط زحام المرضى وصراخ الممرضة "كل واحد في دوره يا جماعة كله هيدخل بالراحة بالدور"، وبينما أنا أقول لها "بالدور واقفلي الباب علشان اكشف على العيان، علشان العيان مش متغطي مينفعش كده"، يأتي ذلك الضيف الثقيل ذو الابتسامة المصطنعة غالبًا، مخبئًا وراء تحيته أمل تحقيق "التارجت" المطلوب منه شهريًا لبيع الأدوية التي يروج لها.
يدخل مندوب اﻷدوية العيادة في زيّه المهندم، ويبدأ حديثه بحماس شديد ليطرح الدواء الذي يرغب في ترويجه، بمحاولة إيضاح الأهمية والقوة المتفردة والقدرة الخرافية في علاج المرض، ويعرض التركيزات المختلفة والأسعار، وقد يتسع المقام لحوار ودي، طبقًا للأُلفة بين الطبيب والمندوب وعدد المرضى المنتظرين في العيادة، وفي حال تذمَّر الطبيب من الحوار، يبدأ المندوب بالبحث في حقيبته عن قلم أو "بلوك نوت" عليه اسم الدواء ليتذكره الطبيب.
يكتمل المشهد في العيادة بمزيج من الضجيج من المرضى وتذمُّر الممرضة، غالبًا إن لم تحصل على قلم أو مفكرة من المندوب وعينة مجانية.
في وسط زحام العيادة يسأل المندوب إذا كنت أمتلك عيادة أو أعمل بأحد المستشفيات الخاصة، لتبدأ سلسلة جديدة من المناقشات؛ يزور مندوبو الأدوية العيادات الخاصة لتقديم العروض المختلفة، التي يثير الكثير منها الغثيان، والمهين في الأمر أن يتحول العلاج إلى تجارة بين الطبيب وشركة الأدوية، على حساب المريض.
العروض متفاوتة بشكل كبير جدًا، وتبدأ من عرض لمأدبة طعام لعرض منتجات الشركة، مرورًا بتغيير أثاث العيادة أو تركيب شاشة عرض بها، إلى نسبة من مبيعات الأدوية.
علاقات تجارية
كلما زاد عدد المرضى وتعاون الطبيب مع الشركة، ارتفع العائد وارتفعت قيمة ما يحصل عليه الطبيب. يصل الأمر إلى رحلة إلى مدينة شرم الشيخ أو الغردقة، وبعضها تايلاند وغيرها من الرحلات، وأنا أعرف طبيبًا ذا صيت واسع في الإسكندرية لا يمر عليه شهران أو ثلاثة إلا وهو في إحدى الدول الأوربية لقضاء إجازة بتكلفة كاملة من شركات الأدوية والمستلزمات الطبية، ويتحول الأمر من مريض يزور الطبيب لطلب المساعدة الطبية بمقابل مادي، إلى علاقة تجارية بين المريض وشركة الأدوية، بالطبع هذا لا يحدث مع كل الأطباء ولا حتى مع الغالبية العظمى، ولكنه في حقيقة الأمر يحدث مع كثير منا.
أذكر النقاش الحاد الذي دار بيني وبين مندوب مضاد حيوي يسمى AZROLID وهو من خطوط الدفاع الأخيرة ضد البكتيريا، والذي يعمل على مقاومة بكتيريا شديدة الخطورة تدعى MRSA & VRSA حيث صنَّعت الشركة دواء شرب من هذا النوع، مع أنه في الغالبية العظمى من الحالات التي تستدعي أن تُعالَج بهذا المضاد الحيوي يتحتم وجودها في المستشفى لخطورة الحالة، إلا أن السعي للربح دفعهم لغض البصر عن ذلك.
خدمة طبية
الدكتور ع. ي. مندوب بإحدى شركات اﻷدوية قال للمنصَّة إنه لا يوجد أي خطأ في العلاقة بين الطبيب وشركات اﻷدوية، "كل القصة إنه على مستوى كل الشركات فى العالم كله مش في مصر بس، بيكون في خدمة طبية".
والمقصود بـ"الخدمة الطبية" هنا هي عرض المعلومات الطبية في بعض المقابلات العلمية للأطباء المتعاونين مع الشركة.
ومعامل التحاليل
لا يقتصر الأمر فحسب على شركات الأدوية، بل يمتد إلى معامل التحاليل الطبية، التي تخصِّص نسبة من تكلفة التحليل للطبيب التي قد يصل بعضها إلى 30% وغيرها من المكاسب.
يقول الدكتور: م. ع. مدير فرع كبير في أحد أشهر معامل التحاليل الطبية في مصر؛ "مع بداية عملي كنت في قمة حماسي، وتلقيت تدريبًا عن إمكانيات المعمل لعرضها على الأطباء، ولكن لما بدأت أنزل الشغل بشكل فعلي لقيت إن آخر حاجة ممكن أهتم بيها هي إمكانيات المعمل، وإن أول حاجة أركِّز فيها الدكتور هياخد كام.. أيوه والله هتبعتلي حالات هتاخد نسبة كذا عليهم".
ويواصل الدكتور م.ع. حديثه للمنصّة: "المفاجأة ليا إن سقف العمولة وصل لـ 50% يعني الدكتور بياخد 50% من الحالات اللي بيبعتها، والمعمل بيدي مرتبات ويجيب كيماويات وأدوات ويكسب كمان من الـ 50% اللي باقية، وهنا كان اندهاشي الأول، ومرت الأيام لدرجة إني فعلًا بقيت أنسى امكانيات المعمل، وكان المهم أعرض النسبة والإدارة بتحفزك لده".
لا يمكن للمريض أن يجزم إذا كان الطبيب يتكسَّب من خلال شركات اﻷدوية أم لا، فإصرار الطبيب على التوجه لصيدلية معينة قد يثير الشكوك لكنه لا يحتمها، لأن بعضًا من أنواع الأدوية لا تواجد فعلًا إلا في أماكن بعينها، وبعض التحاليل لا يتم تنفيذها بشكل مُتقن إلا في معامل تحاليل تنفذها بدقة، والمعاملات التي تتم بين الطبيب وشركات الأدوية تتم بشكل شفهي طوال الوقت.
ويقول استشاري الرمد وعضو هيئة نقابة الأطباء بالإسكندرية، الدكتور أحمد عبد الجواد، للمنصَّة إنه "للأسف صعب جدًا إثبات الكلام ده، بس لو تم إثباته يتم تحويل الطبيب للجنة آداب المهنة للتحقيق، لأن ده يتنافي مع آداب المهنة".
من المسؤول؟
الطرف اﻷول المسؤول هنا هو وزارة الصحة، بحكم مسؤوليتها السياسية الكاملة والمباشرة عن تنظيم العملية العلاجية، تتحمَّل وزارة الصحة المسؤولية عن كل ما يحدث، فهي معنية بمحاربة الفساد بكافة أشكاله وتنظيم العمل في ملف الصحة.
كما أن رواتب الأطباء التي تقررها الحكومة في مصر متدنية بشكل كبير جدًا، فمتوسط راتب الطبيب من المستشفى الحكومي حوالي 2200 جنيه مصري، أو ما يعادل حوالي 1700 دولار أمريكي سنويًا، في حين يتقاضي الممارس العام في إنجلترا حوالي 85 ألف دولار أمريكي، والمختص حوالي 174 ألف دولار سنويًا، وغيرها من دول العالم التي يكون دخل اﻷطباء فيها مناسبًا لعيش حياة كريمة، تجعل الطبيب في غنى عن أمور أخرى.
قد يلجأ الطبيب إلى الطرق على أبواب أخرى لتدعيم مصدر دخله، ولكن يتطور الأمر مع الوقت إلى نمط حياة، وهذا بالطبع ليس مبررًا لأي تصرفات خاطئة.
الطرف الثاني المسؤول هو نقابة الأطباء، وتنص المادة ج من القانون رقم 838 لسنة 2003 بتاريخ 5 سبتمبر/ أيلول 2003 على عدم جواز قبول مكافأة نتيجة وصف لعقار طبي أو غيره، لكن هل هذا الأمر حِبر على ورق؟ وما هي الإجراءات التي تتخذها النقابة سواء ضد شركات الأدوية أو الأطباء الذي يتورطون في تلك الأفعال غير الأخلاقية؟
المسؤول الثالث عن هذا البيزنس غير القانوني، هو شركات اﻷدوية التي تحقق مبيعات سنوية في مصر تُقدَّر بـ62 مليار جنيه، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة واﻹحصاء، وهو أمر لا شائبة عليه، ولكن يجب ألا تسعى للربح على حساب المرضى.
كرامة الطبيب
"أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي، وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلًا وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عورتهم، وأكتم سرهم، وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلًا رعايتي الطبية للقريب والبعيد، للصالح والخاطئ، والصديق والعدو، وأن أثابر على طلب العلم، أسخره لنفع الإنسان لا لأذاه، وأن أوقر من علمني، وأعلم من يصغرني، وأكون أخًا لكل زميل في المهنة الطبية متعاونين على البر والتقوى، وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقية مما يشينها تجاه الله ورسوله والمؤمنين، والله على ما أقول شهيد".
يبدأ الطبيب حياته بهذا القَسَم، الذي يتعهَّد فيه بحفظ الكرامة وصيانة النفس، ولكن ما يفعله بعض الأطباء من الإتجار بحياة الناس هو منافٍ للأخلاق والكرامة والإنسانية، ولا يبرره الحاجة مهما بلغت، فالمريض لا يأتيك إلا واثقًا، فلا تخذله وتخون ثقته.
لم تكن الأخلاق يومًا هي الحل الأمثل للمشاكل والأزمات بل القانون، فلابد من قطع أي صلة نفعية محتملة بين الطبيب والمريض، عن طريق التأمين الطبي مثلًا، الذي يطبق في الكثير من دول العالم، وحينها يكون الدافع الأول والأوحد للطبيب هو المريض وليس ماله، ويجب كذلك سن قوانين صارمة للرقابة على شركات الأدوية ومعاملاتها وتسعيرها للأدوية. ويبقى تحسين مستوى دخل الطبيب لقطع كل الأعذار والحجج.