
مبادرات مجتمعية للعلاج النفسي.. طوق نجاة في سوق مأزوم
نجت جميلة محمد، الطالبة في كلية الفنون الجميلة، من حادث سير تعرضت له عام 2019 لكنها سقطت في هوة اكتئاب وحزن شديدين، "الحياة بقت سودا في عينيا. في الظاهر شكلي طبيعي وبضحك، لكني من جوا منهارة"، تقول لـ المنصة.
بعد فترة من التردد، استجابت لاقتراح أختها وقررت الذهاب لطبيب نفسي، "رحت لأول دكتور، كان بيسمعني وقال إن اللي عندي اضطراب ما بعد الصدمة، وشرح لي إنه طبيعي بعد أي حادثة".
بدا توصيف الطبيب حينها منطقيًا إلا أنه لم يساعد جميلة في الخروج من حالتها، فقررت الذهاب لطبيبٍ آخرَ لكن "التجربة كانت محبطة أكتر، ما سمعنيش كتير، واكتفى بكتابة روشتة مليانة أدوية غالية جدًا، غير إن كشفه أصلًا كان غالي"؛ هنا وجدت جميلة نفسها في مأزق.
خاضت مريم عبد السلام، 22 عامًا، تجربةً مختلفةً عن جميلة، فهي قررت من البداية اللجوء للمستشفيات الحكومية، لا العيادات الخاصة، وكانت واحدةً من بين آلاف يتوافدون على مستشفى الدمرداش طلبًا للعلاج النفسي، لكنها توقفت عن الذهاب إليه لطول ساعات الانتظار.
لا تنكر مريم، التي تعمل منظمة رحلات في شركة سياحة كورية، وجود لحظات من الاهتمام تركت أثرًا إيجابيًا في نفسها، مثلما حدث مع أول طبيبة قابلتها واستمعت إليها باهتمام شديد، لكن هذا لم يتكرر مع الطبيبة الثانية التي لم تستمع بما يكفي، واكتفت بكتابة دواء مهدئ.
"لم أحب فكرة الانتظار الطويل والزحام الشديد، كنت أضطر للجلوس ساعات حتى أدخل، وأحيانًا لا تستغرق الجلسة إلا دقائق قليلة، فشعرت أن التجربة لا تناسبني"، تقول لـ المنصة.
نحو ربع المصريين يعانون أعراضًا نفسية وأكثر من 7% مصابون باضطرابات
تجربتا جميلة ومريم تعكسان مأزقًا يواجهه آلاف المرضى الذين يعانون بين التكلفة المرتفعة للأطباء النفسيين، وزحام واكتظاظ المستشفيات الحكومية التي رفعت أسعارها هي الأخرى لتزيد مأساة من يلجؤون إليها.
وأصدرت وزارة الصحة مطلع 2025 القرار رقم 220، برفع أسعار العلاج في مستشفيات الصحة النفسية ومراكز علاج الإدمان، ليصل الكشف الطبي في بعض الحالات إلى 200 جنيه، بينما تراوحت تكلفة الإقامة اليومية بين 150 و550 جنيهًا.
تعكس الأرقام الرسمية أيضًا حجم الفجوة؛ فحسب المسح القومي للصحة النفسية عام 2017، يعاني نحو ربع المصريين أعراضًا نفسية، وأكثر من 7% مصابون باضطرابات واضحة، وفي ظل الضغط الكبير المستشفيات الحكومية والتكلفة المرتفعة للجوء للأطباء، فإن الكثيرين تحفزوا لبدائل؛ من هنا، ظهرت مبادرات بعضها مجتمعية، والأخرى حكومية.
الحاجة أمُّ المبادرة
قبل أن تفقد جميلة الأمل بخطوة، ترجّتها أختها أن تخوض محاولة أخيرة للعلاج، باللجوء لمبادرة سمعت عنها مؤخرًا، وهي مؤسسة تداوي التي تقدم خدمات دعم نفسي بالمجان. "لقيت فيها مساحة أوسع من مجرد روشتة دواء. والعلاج مش مجرد جلسة، ده بيئة وبيت بيستقبلك ويحتويك من أول جلسة اتكلمت كتير وعبرت عن نفسي وحسيت براحة"، تتذكر الطالبة تجربتها في أول مرة لجأت فيها لإحدى المبادرات المجتمعية.
التحدي الأكبر أمام المبادرات يبقى في محدودية التمويل وضعف الموارد البشرية
نشأت "تداوي" نفسها من رحم المأساة، فمؤسستها داليا سلّام، وجدت نفسها أمام معركة مزدوجة؛ فابنتاها تعانيان من اضطراب فرط الحركة، وتكاليف العلاج باهظة، "كنت أشعر أنني وحدي، لا أملك ثمن العلاج ولا أستطيع حرمان ابنتيّ منه، لكني فكرت.. ماذا عن آلاف الأسر التي لا تملك حتى الحد الأدنى؟"، تقول لـ المنصة.
هكذا وُلدت فكرة تداوي كأول مؤسسة خيرية تقدم دعمًا نفسيًا مجانيًا، أُشهرت عام 2021 برقم 7122 وفقًا لقانون العمل الأهلي. اتخذت مقرًا بسيطًا في منطقة الدقي لا يشبه عيادة طبية بقدر ما يشبه بيتًا عائليًا؛ ابتسامة عند الباب، مطبخ صغير يشترك فيه الجميع، وأريكة يتبادل فوقها القادمون قصصهم الثقيلة.
حسب أحدث البيانات الخاصة بالمؤسسة فإنها استقبلت 2500 حالة، بينها 1800 مجانية، فيما بلغ إجمالي الجلسات العلاجية المقدمة نحو 7800 جلسة بمعدل 182 جلسة شهريًا.
ورغم أن أنشطة المؤسسة تتركز في القاهرة الكبرى، فإن نطاق عملها امتد أيضًا إلى محافظة البحر الأحمر من خلال فعاليات توعوية ومجتمعية مثل ماراثون الدراجات للأطفال من ذوي فرط الحركة وتشتت الانتباه في الغردقة.
في المساحة نفسها، تتحرك مبادرة مؤنث سالم، التي انطلقت لخدمة الصحفيات والنساء العاملات؛ "المبادرة تقدم جلسات فردية وجماعية، وتعتمد على شبكة من أطباء متعاونين تتحمل تكلفتهم بدلًا عن المستفيدين"، تقول مؤسستها أسماء فتحي لـ المنصة.
وتلفت إلى أن مثل هذه المبادرات تواجه تحديات، ويبقى التحدي الأكبر محدودية التمويل وضعف الموارد البشرية، وهو ما يجعلهم يركزون على الفئات الأكثر عرضة للخطر.
مبادرات حكومية عن بعد
في ظل الضغط على المستشفيات والمؤسسات العلاجية، أطلقت الحكومة مبادرات وحلولًا لمواكبة الطلب المتزايد على العلاج النفسي، وتعاونت وزارتا التضامن والصحة في مبادرة بعنوان صحتك سعادة، أُطلقت أواخر 2024، لتقديم دعم شامل للصحة النفسية عبر مراكز الرعاية الأولية، بالإضافة إلى تقديم خدمات عن بُعد عبر المنصة الإلكترونية والخط الساخن 16328.
قدمت المنصة الإلكترونية أكثر من 12 ألف جلسة علاجية افتراضية خلال أقل من عام
وحسب بيان لوزارة التضامن، فإن إجمالي الحالات التي استفادت من المبادرة منذ انطلاقها في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بلغ 5 آلاف و223 حالة تلقت العلاج في وحدات خفض الضرر، كما بلغ عدد حالات التحسن ممن أتموا برنامجهم العلاجي ضمن المبادرة 2401 حالة.
وكما تؤكد الدكتورة منى خليفة، مديرة وحدة المبادرات الرئاسية بوزارة الصحة والسكان لـ المنصة فإن المبادرة لا تقتصر على العيادات والمستشفيات، بل تمتد إلى خدمات علاجية واستشارية عن بُعد.
وحسب آخر إحصاءات المنصة الإلكترونية للصحة النفسية وعلاج الإدمان فإنها استقبلت أكثر من 110 آلاف زيارة، وقدمت أكثر من 12846 جلسة علاجية افتراضية، أغلبها للإناث والشباب.
وتتعاون مؤسسات أهلية مع جهات حكومية ضمن مبادرات أخرى، من بينها مبادرة فاهم التي تعمل مع وزارة التضامن لتقديم جلسات دعم نفسي وأنشطة توعية لأسر دور الرعاية، فضلًا عن بروتوكولات تعاون مع مؤسسات طبية مثل مؤسسة بدران، وتمول هذه الجهود جزئيًا من ميزانية وزارة التضامن التي تجاوزت 53 مليار جنيه في 2025/2026.
ورغم ما تقدمه هذه المباردات فإنها تظل غير كافية لتغطية الفجوة بين الباحثين عن العلاج النفسي والمؤسسات العلاجية، ولا يرى الدكتور إبراهيم مجدي حسين، استشاري الطب النفسي بمستشفى الدمرداش، أن المشكلة الأساسية في غياب الخدمة بقدر ما هي في ضعف الوعي المجتمعي.
"لدينا 26 مستشفى تابعة للأمانة العامة للصحة النفسية، تقدم خدمات بأسعار رمزية. الجامعات أيضًا لديها عيادات تبدأ من 30 أو 40 جنيهًا فقط، وحتى الأدوية باهظة الثمن مثل بخاخات علاج الاكتئاب أو الحقن الممتدة تُصرف أحيانًا مجانًا"، يقول لـ المنصة، مضيفًا "الناس محتاجة تعرف عن الخدمات، وتتجاوز خوفها من زيارة الطبيب النفسي".
لكن مشكلة مريم لم تكن في وعيها بوجود خدمات مدعومة من الدولة بقدر استيائها من انخفاض جودتها، وهو ما اضطرها للتردد على عيادة نفسية خاصة، وإن تحملت في سبيل ذلك تكلفة مرتفعة تصل إلى 400 أو 500 جنيه للجلسة الواحدة، لكنها تناسب أوقات عملها، ولا تضطر للانتظار طويلًا حتى تقابل طبيبها.
وفي حين وجدت جميلة ضالتها في المبادرات المجتمعية التي وفرت لها "العلاج الإنساني، بصوا لي كإنسانة مش مجرد حالة عايزين يخلصوا منها"، فإن آلاف المرضى المحتاجين للعلاج النفسي ينتظرون من يمد لهم يد العون.