فتح الإعلان عن عرض مسلسل ممالك النار الذي كتبه السيناريست المصري محمد سليمان عبد الملك وبثته شبكة قنوات MBC مؤخرًا خارج موسم الدراما الرمضاني المعهود في مفاجأة غير متوقعة للمشاهدين المصريين والعرب، بابًا للكثير من الجدل والشجار على مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، ولم تنته هذه الجدالات حتى الآن بعد انتهاء عرض المسلسل المكون من 14 حلقة.
تكلف المسلسل 40 مليون دولار حسبما ذكر تقرير مصور للإذاعة البريطانية BBC، وأنتجته الإمارات، وبثته قناة سعودية، وكتبه دراماتيست مصري، فبدا الأمر أشبه بتحالف خليجي سعودي مصري للكيد في تركيا، يطعن في تاريخ الخلافة العثمانية، والرد على المسلسل التركي أرطغرل الذي دعمته الحكومة التركية وعلى رأسها رجب طيب أردوغان.
ولكن بعد قليل من إثارة هذا الجدل حول أسباب إنتاج الإمارات مسلسلًا عن الاحتلال العثماني للشام ومصر، ما لبث أن تفجر جدل جديد مع إذاعة الحلقات الأولى من المسلسل، ألا وهو؛ أين الحقيقة وأين التاريخ فيما نرى؟
كان غريبًا للغاية أن بعض المعلقين على مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا استرعى انتباهم أن السيناريست محمد سليمان عبد الملك قد كتب شخصية سليم الأول السلطان العثماني الغازي على أنه شخص همجي عنيف، شعره أشعث، كث الشارب والذقن، وسريع الغضب، همجيا على الدوام، هذا بجانب كونه سفاحا كلما رغب سفك دم أحدهم.
وتحولت السوشيال ميديا إلى ساحات مبارزة بين الرافضين لهذا الإمعان في تشويه الشخصيات التاريخية، وتصويرها على أنها شخصيات همجية عنيفة "قتالة قتلى"، وبين الداعين إلى توخي الدقة التاريخية فيما تتناوله الدراما التليفزيونية.
في تعليق للدكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ سابقا بكلية الآداب، والأستاذ المنتدب حاليا، على كتب على حسابه في فيسبوك كتب "في وصف الشخصية العنيفة لسليم الأول: وُلد سليم الأول سنة 1470 م في أماسيا، عندما كان أبوه واليا عليها. أُطلق عليه ياوز أي الصارم وهو لا يزال صغير، لأنه كان عنيفا في تصرفاته، ودائم الحركة متهورا غصوبا مقداما شجاعا، ولما كبر صار اللقب ملازما له".
هذا التعليق الذي وضعه الدكتور عفيفي يوضح ببساطة طريقة عمل "السيناريست" و"المؤرخ" والفارق بينهما.
أمام السيناريست صفحة مقسمة إلى خانتين، الأولى وصف المشهد، والثانية يكتب فيها وقته (نهار/ ليل) ومكانه (خارجي/ داخلي)، ويبدأ في وصف ما سيراه المشاهد أمامه على الشاشة، مرقمًا المشاهد، فإذا كان المشهد الذي يراه المشاهد على الشاشة يدور في شارع، وهذا الشارع مليء بالناس، فسيتعين على السيناريست أن يصف بدقة كل شيء ستنقله الكاميرا إلى المتفرج، مثل " شارع مزدحم، ضجيج سيارات، مشترون وباعة متجولون يملؤون الشارع، ثم تظهر فتاة جميلة جذابة تجري بسرعة مبالغ فيها ليس من الصعب على المتفرج أن يخمن أنها تعدو في شأن يمثل لها حياة أو موت".
الكاتب الروائي والسيناريست يعملان بطريقة مختلفة عن تلك التي يعمل بها المؤرخ الذي يقضي ساعات طويلة منقبًا في الوثائق والمخطوطات، متأملًا في مراسيم القصور، ومقارنًا مخاطبات الولاة بظروف العصر، أو منقبًا في سجلات المحاكم الشرعية، على غرار ما فعلت المؤرخة الكبيرة نللي حنا عندما تتبعت سيرة شخص ما هاجر إلى مصر وعاش فيها وترقى في المناصب حتى تولى منصب "شاهبندر التجار" في كتابها المهم عن تجار القاهرة في العصر العثماني "سيرة أبي طاقية شاهبندر التجار".
هذا المؤرخ ليس بحاجة بينما يعمل على مادته، أن يصور بطل قصته التاريخية بينما يغضب أو يحب أو يعاشر زوجاته، وليس بحاجة إلى أن يرسم لقارئه مشاهد عن انفعاله، وعنفه، أو فقرات تصويرية مثلا عن كيفية قتله لأعدائه أو التمثيل بجثثهم، أو كيف كان شعوره بينما يصعد إلى المشنقة، هكذا يمضي المؤرخ بلغة حيادية، وجمل عادية جافة إلى مهمته، غير راغب في نقل انفعالات إلى قارئه، بقدر ما يرغب في مقارنة عمله بالمصادر الأخرى التي ينقل عنها، ويبين مواضع الاتفاق والاختلاف بينهما.
أما كاتب الدراما التليفزيونية، فهو أمام واقع آخر يفرض عليه طريقة عمله، فهذا السيناريست يجب أن يستهل عمله بطريقة محددة، مشهد أخاذ جاذب في بداية الحلقة، يبرز الصراع ويشد المشاهد، يجعله ينفض كل ما في يده ليتابع أحداث المسلسل، ويتبعه ذلك باستعراض سريع لأبطال العمل، يدلي كل منهم بدلوه.
ولكن لماذا يلجأ السيناريست إلى المؤرخ لتدقيق عمله..؟
في حواره عن المسلسل، الذي أخرجه مخرج بريطاني يدعى بيتر ويبر وتم تصوير مشاهده في تونس، يقول محمد سليمان عبد الملك لرويترز "تحرينا الدقة التامة فيما يتعلق بسرد الأحداث وكانت جميع الحلقات تعرض على مراجع تاريخي متخصص هو الدكتور محمد صبري الدالي لذلك أزعم أن الدقة التاريخية في ممالك النار تتجاوز 100 في المائة".
هذا التصريح على غرابته، لكنه ربما يعكس رغبة صناع العمل في تلافي أي انتقادات متوقعة ينالوها – ونالوها بالفعل من محسوبين على جماعات الإخوان المسلمين مقيمين في تركيا- وربما يبحث صناع المسلسل على مصداقية عند جماهير عربية عريضة شاهدت المسلسل، وهرعت لتقارن بين ما تشاهده، وبين المكتوب في الكتب التاريخية.
ولكنه يعكس أيضا أن محمد سليمان عبد الملك تخلى طواعية عن حريته في اللعب الذي يحق له تمامًا ككاتب محترف للدراما، ووضع نفسه تحت ثقل التقييم التاريخي وسلطة المؤرخين في محاسبته عن المواضع التي تجاوز فيها التاريخ، وهو ما سيفتح المجال على مصراعيه أمام "الفذلكة" على صفحات السوشيال ميديا ومطاردته بأنه المارق الذي أخطأ في التاريخ.
قد يفسر لماذا لجأ صناع العمل لمؤرخ منحوه سلطة محاسبة السيناريست على أي تخيل أو مغامرة فنية في صميم العمل الدرامي ومتطلباته، إذ يقف وراء هذه الخطوة من جانبهم حقيقة أن كتابة الدراما التاريخية في الشرق الأوسط لم تخض بعد مغامرة الخروج عن النص التاريخي، باستثناء ربما المحاولة اليتيمة التي فعلها يوسف شاهين في فيلمه الناصر صلاح الدين.
صنع شاهين في هذا الفيلم تاريخًا على قياس عبد الناصر، مغامرًا بكل القواعد التي قيد كُتاب الدراما التاريخية أنفسهم بها عبر عقود من التأليف وتقديم الأعمال، إذ أبرز صلاح الدين قائدًا عربيًا بينما الحقيقة أنه كان كرديًا، ولسنوات ظللنا نهاجم شاهين وننتقده على تشويهه للتاريخ، واختراعه شخصية "عيسى العوام" البطل المسيحي الذي كان في حقيقة الأمر مسلمًا.
ولكن ما فعله شاهين في حقيقة الأمر هو أساس الفن، اللعب في مضمار آخر بعيدًا عن التاريخ، مضمار الدراما السينمائية والتلفزيونية. فالمشاهد في السينما، والمتفرج على التليفزيون، لا يتأهبان لعمل مدرسي سيؤديان فيه الامتحان بعد نزول كلمة النهاية، أو مشاهدة الحلقة الأخيرة، بل هذا المشاهد وذاك المتفرج يجلسان لمشاهدة عمل فني ممتع، أخاذ، مهمته الوحيدة هي الإمتاع وزيادة الأدرينالين في عروقه، ومن ثم يندمج المشاهدون والمتفرجون ويتورطون في الحكاية.
وإذا زاد هذا التورط، فذهب أحدهم إلى كتاب أو مرجع، أو بحث عن الانترنت عن الوقائع الحقيقية، ووجد أشياء تخالف ما رآه على الشاشة، فهذا لا يعني أن السيناريست شوه التاريخ، بالعكس، السيناريست أدى واجبه ودوره المطلوب منه، وهو تقديم عمل فني، ممتع، له رسالته الخفية في عقل الكاتب/ السيناريست/ المخرج/ المنتج، كما كانت الرسالة التي يقدمها شاهين هي القومية العربية، والحُلم الناصري.
ولم ينج يوسف شاهين من الانتقادات فيما فعل بالتاريخ، ولم تتقبل النخبة التلاعب بالتاريخ لصاح مشروع فني أيدولوجي، ولكنه في النهاية يبقى مشروعا فنيا كان من الواجب محاكمته في قالبه الفني، وليس رميه باتهامات العبث بالتاريخ وتغييره.
والحقيقة إنني متفق للغاية مع ما فعله شاهين في فيلم الناصر، إذ أن للفنان عامة والسيناريست خاصة مطلق الحرية في تغيير الوقائع التاريخية طالما أنه يقدم فيلمًا وليس عملًا وثائقيًا أو تمثيلية ستلقن لطلاب الصف الأول الجامعي قسم التاريخ، فالروائي/القاص/ السيناريست لا يكتب أعمالًا روائية أو مسلسلات درامية أو أفلامًا سينمائية لطلبة التاريخ، إنما يكتب ما يكتبه لجمهور يرغب في تذوق عمل أدبي وفني وسينمائي، يفصلهم عن اللحظة الحاضرة، وينقلهم إلى زمن آخر، أو إلى قصة تماثل قصتهم، أو إلى حكاية تأسر ألبابهم.
لنا هنا فيما فعله الروائي الأمريكي فيليب ك ديكس في روايته الرجل في القلعة العالية مثال حي على اللعب والمغامرة، إذ ابتكر الرجل تاريخًا مغايرًا للحرب العالمية الثانية غير ذاك الذي نعرفه، تاريخ تنتصر فيه ألمانيا واليابان على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الحرب العالمية الثانية، وتقتسم الدولتان قارة أمريكا الشمالية، وهكذا تبدأ الرواية (ثم المسلسل المأخوذ عنها)، بالعلم النازي وهو معلق على ناطحات سحاب نيويورك وفي أكبر ميادينها، بينما تكافح المقاومة الأمريكية السرية ضد محتلين اثنين، الألماني النازي والياباني في الجنوب.
نفس اللعبة التي لعبها فيليب ك ديكس بالتاريخ، لعبها الروائي الأمريكي الكبير الراحل فيليب روث، في روايته المؤامرة ضد أمريكا، وهي الرواية التي تخيل فيها تاريخًا لم يحدث أصلا حيث يخفق الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1940 أمام مرشح يسمى ليندبيرج، يميل إلى هتلر ويمتدح النازية. ستشهد أمريكا في عهده معاداة اليهود على غرار ما حدث في ألمانيا النازية، بل والأفدح من ذلك، أنه سيوقع معاهدة سلام ووئام مع هتلر، تمتنع بموجبها عن الدخول في الحرب العالمية الثانية وترفع قبضتها إزاء توسع هتلر في احتلال أوروبا، كما يوقع ليندبيرج معاهدة مماثلة مع اليابان، يمتنع فيها عن معاداة توسعها في آسيا.
كتب فيليب روث روايته تلك مدفوعا بخشيته من التحولات التي طرأت على الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، أبان الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين، شرقي شيوعي، وغربي رأسمالي، ومطاردة فريق المكارثية للفنانين والكتاب والسينمائيين الشيوعيين الأمريكيين، ومنهم دالتون ترامبو الذي وٌضع على قوائم سوداء وسُجن لتوجهاته السياسية وتشجيعه الإضراب في استوديوهات هوليوود.
هذه التحولات التي شهدتها أمريكا دفعت روث للخشية من عودة معاداة السامية على غرار ما حدث في ألمانيا النازية في الثلاثينيات قبل اندلاع الحرب، فصنع تاريخًا متخيلًا يصفه النقاد بالتاريخ البديل، أو "الديستوبيا" فيما صمت المؤرخون تماما عن وصم الرواية بأنها شوهت التاريخ، ولو أن هذا العمل في مصر، ما تركه نقاد السوشيال ميديا يمر.
هذه الألعاب الروائية بالتاريخ، التي قُدمت في هيئة "التاريخ البديل" أو في هيئة "الديستوبيا" هي أشكال أخرى لما يمكن أن يفعله السيناريست بالتاريخ، دون أن يعترض عليه أحدهم بالقول لماذا أبرزت سلطان العثمانيين "سليم الأول" همجيا؟