بدأت كتابة هذا النص في ربيع 2017. حدث الكثير منذ ذلك الوقت، كنت حينها عاطلًا عن العمل، مطرودًا من الشركة التي أسستها، أبحث عن معنى لحياتي. انتقلت للتو إلى منزل سيزيفي الطابع. كلما حاولت تنظيفه يغطيه التراب تمامًا بعد يوم واحد، كنت أستمتع بممارسة التنظيف العبثية تلك. رأيت سيزيف سعيدًا.
توقف الفن عن إعطاء إجابات. حضرت العشرات من المناقشات والندوات الفنية والأدبية، ودائمًا ما كان هناك سؤال من أحد الحاضرين عما يراه الفنان كإجابة أو حل للمشكلة التي يطرحها في عمله، والرد على ذلك جاهز فورًا من صاحب العمل.. "أنا لا أقدم إجابات، بل أطرح المزيد من الأسئلة". أصبحت تلك الإجابة من ركائز أي نقاش فني أو ثقافي في القاهرة بصفتها علامة للذكاء والتجديد والحداثة.
أعجبتني تلك الإجابة وقررت أن استخدمها في انتخابات جمعية أهلية كنت أرغب في رئاستها، فبدلاً من تقديم عرضًا عن خططي كمدير، ارتديت قناع أرنب وقدمت خطبة عاطفية يصحبها صورًا تُعرَض خلفي. لم يفهم أحد شيئًا وعندما سألوني عما قدمته أجبت: "الفنان لا يشرح أعماله، يمكن أن أعيد العرض عليكم مرة أخرى، لكن لن أشرحه".
"قبل ما تخترعوا الذرّة" هو اسم الأغنية المعروفة ب"موال الذرّة"، ظهرت الأغنية لأول مرة عام 1982 في الوجه الثاني لألبوم "يالا بينا يالا" [1]للمطرب مُسعد رضوان.
قدم حكيم موال الذرة عام 2013 في حفل ريد بُل ساوند كلاش عند استضافة فرقة كايروكي له. أظن أن حكيم فعل ذلك ليقدم نفسه بشكل مناسب لجمهور كايروكي الثائر حينذاك. لم يشر حكيم بأي شكل إلى مُسعد، وظهرت الأغنية على يوتيوب بعد ذلك بصفتها أغنية حكيم، رسالة.
يبدأ موال الذرّة بإيقاع موسيقي متوتر يقطعه مُسعد بنداء قوي يطلب فيه أن نعيد ترتيب أولويات الحضارة الإنسانية "قبل ما تخترعوا الذرة، اسعدوا كل البشر"، وهو نداء افتتاحي لفت نظري إلى محدودية طريقة وصف الأفعال العلمية. فتنحصر المسائل العلمية في العالم العربي بين "اكتشاف" و"اختراع"، باختراع الذرة كان يقصد مُسعد الأبحاث النووية. لكن بغض النظر عن سوء التعبير العلمي، فالفكرة التي يطرحها مُسعد لها جمهورها الغفير: إعادة ترتيب أولويات الحضارة. فعلى العلم أن يساعد البشر وعلى الفن أن يصل للناس، وعلى الأغنياء أن يفكروا في الفقراء وإلخ…
"عيّشوا الناس في أمان، بعدين واطلعوا للقمر"، فانظر ماذا أنت فاعل يا إيلون يا ماسك، بعضنا اليوم يخطط للسفر للمريخ أو التقاط سيلفي مع الثقب الأسود بينما يواجه الكثيرين آلام الفقر والمرض والحرب.
أعمل حاليًا في جمعية أهلية تعمل على حماية الطيور المهاجرة العابرة على مصر من خطر الصيد الجائر. نحاول أن نفهم لماذا يصطاد أهالي الدلتا طيور لا تحمل أكثر من عشر جرامات من اللحم، وكيف يشترك الأطفال في تلك المجزرة فرحين بتواصلهم مع الطبيعة، حتى إن كان من خلال قتلها.
أجد نفسي في اليوم التالي مخرجًا لفيلم عن محمية طبيعية، أتحدث عن ذوقي الفني بخجل، ابتعد كثيراً عن ربيع 2017، أتساءل إن كنت مازلت أريد أن أكتب عن موال الذرة؟ هل مازلت مهتمًا بالحديث عن الأسئلة مقابل الأجوبة؟ أم كان الهدف من كتابة هذا المقال هو أن يكون اسمي على عنوان جميل لنص ما، أيًا كان مستواه؟
الليلة أغيّر العالم، أسهر مع شخص يدير مشروعًا بعدة ملايين الدولارات لإنقاذ طائر مهدد بالإنقراض، نتحدث عن أمور معقدة بحق. أرسل وأستقبل عشرات الإيميلات يوميًا، لا وقت للكتابة، لا وقت للتفكير، وصلت للثلاثينات بنجاح ولا داعي للنظر إلى الوراء كثيرًا، هناك عالم كبير واسع ينتظرني، لا أفكار فنية ولا نقدية هنا، فقط صراعات مادية، تنوع بيولوجي، تغير مناخي، أفلام تعليمية. أشياء لا يعرفها الفنانين تدور في عقلي، تجاورها أشياء لا يعرفها العلماء.
كنا نسبح في البحر الأحمر بينما كان عليَّ تزويد السيارة بالوقود. خرجنا من الماء بعد سباحة طويلة في أحد الشواطئ المخصصة لرياضة التزلج بالطائرة الهوائية، كانت المياه ضحلة وكنا نسير فيها أكثر مما نسبح، حتى أسميتها "رحلة السباحة في المياه الضحلة".
أحب أن أخرج من الماء متأخرًا عنها لأشاهد ساقيها الطويلتين ومؤخرتها المبتلة، يساعدني ذلك على تذكّر معنى وسبب الحب. تزودنا بالبيرة وذهبنا للبحث عن الوقود، أخبرنا أحدهم أن أقرب محطة بنزين تبعد عنا أربعين كيلومترًا في اتجاه الجنوب، بعد عشرين كيلومترًا قابلتنا نقطة حرس حدود. سألونا عن مقصدنا، خبأت بيرتها بهدوء وأجابت برقة معتادة "بس عايزين نحط بنزين"، ابتسم لها جندي الحدود وتركنا نمر رغم أنه كان يريد أن يرى بطاقة هويتها، لكن لا جيوب في البيكيني. كسرت السيارة سكون الطريق، الجبال والصخور وذرات الرمال، النباتات التي تكسر اصفرار الصحراء، كنا كتائهين في خيال رسام لا يعرف ماذا سيرسم بالألوان التي خلطها.
لم أصل لمحطة البنزين، وأشار العداد لما هو مساوي لعدد الكيلوات للمحطة التي أعرفها في الشمال، فلو استمريت في القيادة واستمرت البنزينة في الابتعاد أو لم تكن تعمل، فربما ينتهي بنا الأمر عالقين بين محطات البنزين. انتصرت الأسئلة وقررت العودة، كأنى أعيد تحديد الخط الذي رسمته في تلك الصحراء.
يقدم مسعد إجابة واضحة هذه المرة، علينا أن نتفرغ لإسعاد كل البشر قبل أن نفكّر في أي شىء تافه آخر مثل السفر إلى القمر.
السؤال في وجه المقدسات أو الثوابت المجتمعية له دائمًا صفة الشجاعة، لكن مع انتشار الأسئلة، ربما باتت الشجاعة في تقديم الإجابات. فعلى عكس الإجابات لا التزام ينشأ بينك وبين سؤالك، كل سؤال هو طريق إلى سؤال جديد يتبعه، لكن الإجابة ستتبعك أنت، الإجابة تخصك، وإن لم تكن صحيحة فستوصمك. ليس الأمر كذلك مع الأسئلة التي يفخر الجميع بطرحها.
لا أفهم لماذا يمكننى خلق معنى من أي شىء إلا الكتابة؟
وظيفتي اليومية هى بث الحماس في عدد من شركاء العمل من مختلف الأعمار و مختلف درجات الاكتئاب. أستمتع باللعبة كثيرًا لكن لا أستطيع الكتابة عنها. خسرت الكثير من الأصدقاء وانتهت قصة حب طويلة، وأصبحت أكثر دماثة وقوة ودبلوماسية، أفعل أشياء مهمة وأستمر في الهروب للأمام.
لسبب ما لا أستطيع الكذب في هذا الهامش، لا يمكننى مراوغة اللا معنى هنا. كل الكلام لا يفيد، وعلى أن أعود لاستهلاك الحياة. استهلاك الحياة يعني قصصًا جديدة، مشاعر ولقطات ولحظات يتم تسجيلها وكتابتها لتقول شيئًا. كنت أبكي أحيانًا لعدم قدرتي على إتمام هذا النص لكن لا أجد مشكلة في ذلك، فقط لست جاهزًا لتقديم نفسي في ملعب الفن، أخشى أن يتهمنى أحدهم بالضحالة أو أن يخشى وجودي كمنافس محتمل على المغامرات الجنسية والعاطفية في هذه الدائرة، كنت دائماً ما أُخفي هويتي هنا، أنا فقط محب للفن والنقد والحديث الضحل، لا أنتج شيئًا ولا أنافسك على شيء يا مان. لا أدرى حقًا من أين يتدفق الخوف.
يستمر مسعد في تعداد الكوارث، الأمهات الثكلى والفتيات الباكيات يوم فرحهن، الجولان، دول لم يعد يصح أن نتعاطف معها، وينتهي هذا التعداد الممل بذروة لها بنيان منطقي لكن تخلو من أي منطق "الأمان هو الحياة، والحياة هي المعادلة الصعبة لوجودك يا دنيا[2]، اصحى يا دنيا، عليكي الأمان". ثلاث لفظات يتم معادلتهم فالأمان هو الحياة والحياة هي معادلة لوجود الدنيا.
يغني مسعد "موال الذرة" حتى الآن في أفراح في الدلتا، وينادي عليه النبطشي "محدش يعرف يقول الكلام ده دلوقتى".
مرت أكثر من سنة على كتابة كل ما سبق، لم يعد هناك وقت للكتابة أو التفكير بالأساس. أكتب الفقرات الأخيرة في المطارات، أوقات الانتظار التي أجد فيها طاولة مناسبة وتمدني بطارية اللاب توب ببعض الطاقة. مطار القاهرة مثل القاهرة، ليس به مصدر للطاقة، فوضى لا نهائية، ضجيج. أحاول أن أغتنم لحظات من الصمت النسبي. أشتاق إلى أيام البطالة، لا شىء أجمل من الحرية ونسيان المسؤولية. ربما الأسئلة أفضل من الإجابات، فالأسئلة تَجمع الناس، لكن دائماً ما كانت تفرقهم الإجابات. [3]
1 أعاد محمد فؤاد توزيع أغنية "يالا بينا يالا" عام 1985 وكانت أولى خطواته تجاه شهرة واسعة فيما بعد.
2 ماذا لو قال: الدنيا هي المعادلة الصعبة لوجودك يا حياة؟
3 إيلي واسل، وحدة المسيح، 1998