"كله رايح".. "الموت بيدخل من غير استئذان".. هذه بعض عبارات عم ضياء التي يرددها في مسلسل "الوصية" الرمضاني، وقد لاقت شخصيته صدًا واسعًا بين المتفاعلين على وسائل التواصل الاجتماعي، وحملت تعليقاتهم اقتباسات من أقواله إعجابًا بفلسفته في الحياة.
لم تكن شخصيته مجرد دورًا كوميديًا في مسلسل، أو تجسيدًا لشخصية عابرة قد تمر علينا في الحياة، الأمر في الحقيقة أكبر من ذلك، ضارب بجذوره في أصل العالم وقوانينه البدائية التي نشأ عليها.
إن أكثر ما ميز شخصية عم ضياء الأداء السوداوي في مسلسل كوميدي لا يحاول السخرية من السوداويين بل يحبهم ويتعاطف معهم ويتهكم على العالم ذو المستقبل المظلم، لا على فلسفة المتشائمين ولا على شخصياتهم السوداوية.
هل تخيلت يومًا أن عم ضياء عالم فيزياء أفنى حياته في دراسة قوانين الطبيعة ثم خرج علينا وقد شاب شعره وسقطت أسنانه ليهتف بصوت واهن: "كله رايح"؟
"الآلات دائمة الحركة".. اذهبوا فخذوا مكانكم
هل حلمت يومًا بتصنيع آلة لا تتوقف أبدًا عن الحركة؟ بمعنى أنها تستمر في العمل إلى الأبد بمجرد منحها الدَفعة الأولى، ويمكنها أن تولد طاقة (شغلًا) تكافئ طاقة (الشغل) المبذول لجعلها تعمل في البداية، وبالتالي لو أعدنا تغذيتها بتلك الطاقة التي تولدها فإنها ستواصل العمل للأبد وبلا توقف.
لقد ظل ذلك حلمًا يراود البشر لما يقرب من ألف عام، بدأ منذ أدركوا أن في مقدورهم صناعة الآلات وتحريك الجماد واستمر حتى اكتشفوا قوانين الديناميكا الحرارية. حتى أن مخترعًا وفنانا فذًا مثل دافينشي حاول تصميم وصناعة مثل هذه الآلة. وعندما طارده الفشل مرة بعد أخرى قال في يأس: "يا من تسعون وراء الحركة الأبدية، كم من الأوهام الباطلة تضمنها مسعاكم؟ اذهبوا فخذوا مكانكم بين أولئك الذين يحلمون بتحويل الرصاص إلى ذهب".
هذه الصورة هي واحدة من محاولات صناعة تلك الآلة؛ حيث تقوم فكرتها على أن تلك الكرات الثقيلة تجري على الأعمدة الخشبية وكلما دارت العجلة تدافعت تلك الكرات وتدافعها ذلك هو ما يكفل للعجلة الدوارة استمرار الدوران، لكننا لو نفذنا هذا التصميم وأدرناه فسرعان ما ستقف العجلة وتفشل التجربة.
لقد صمم الكثير من هذه النماذج، بعضها جاء ضخمًا وفي غاية التعقيد، لكن جميعها اشترك في فشل الاستمرار في الحركة الدائمة، فقط، تبدأ في الحركة ثم لا تلبث أن تتوقف.
أُنفق الكثير من الوقت والمال بلا جدوى. بل هناك من استخدم الخداع والحيلة من أجل إيهام الآخرين أنه قد نجح في مسعاه. هناك من جمع أموالًا طائلة بالغش في سبيل صناعة تلك الآلة الأسطورة وهناك من تحصل على براءة اختراع بالغش كذلك. كانوا يديرون آلاتهم تلك بمعونة من آلة أخرى يخفونها ويخفون اتصالها بآلاتهم الدائبة تلك في براعة.
أشهر الأمثلة على تلك الآلات المخادعة، الآلة التي قام الألماني أوفيريوس بتصنيعها في القرن السادس عشر وجذبت انتباه قيصر روسيا وحاكم بولونيا وأرادوا شرائها بل كتب الشعراء والعلماء في حق أورفيريوس الكثير من عبارات التبجيل والإطراء. تلك الآلة التي شهد نبيل ألماني بأنها حقيقية بعد أن فحصها مرارًا ثم أمر بوضعها في غرفة مغلقة وأمر الرجال بحراسة بابها لأيام طويلة ورغم ذلك فكلما فتحوا الباب وجدوها تعمل. ربما كانت هذه الآلة لتبقى سرًا غريبًا لولا أن تشاجر أورفيريوس مع زوجته وكانت قد اطلعت على سره ففضحته. ببساطة كان هناك رجل مختفي داخل الآلة في غرفة سرية بها وكان يقوم بشد حبل متصل بتروسها لتواصل الدوران.
اقرأ أيضًا: أهلًا شهر الخير: لماذا انخفضت تبرعات "شنط رمضان" 2018؟
لقد تبين استحالة هذه الآلات وذلك ببساطة لأنها تخرق قانونين من أهم قوانين الكون. فهذه الآلة لو استمرت في الدوران وفي نفس الوقت تقوم بعمل ما مفيد فساعتها ستكون الطاقة الناتجة عنها أكبر من الطاقة التي دفعتها للدوران، لأن الطاقة الناتجة عنها ستساوي الطاقة التي دفعتها للدوران (لأنها تستمر في الحركة) مضافًا لها طاقة العمل المفيد الذي تفعله وهي بذلك تخرق القانون الأول للديناميكا الحرارية (قانون حفظ الطاقة) أي أنه بأي حال لا يجوز أن تأتي طاقة من العدم.
أما لو أن الآلة استمرت فقط في الدوران بعد أن أخذت الدفعة الأولى فهي تخرق القانون الثاني للديناميكا الحرارية والذي يشير إلى أن كفاءة استخدام الطاقة يستحيل أن تكون كاملة. أي أن القوى الحرارية التي تخرج من أي آلة يستحيل أن تساوي القوى الحرارية الداخلة للآلة، هناك دائما طاقة مفقودة بين الداخل والخارج، هذه الطاقة تتسرب إلى المحيط في صورة حرارة احتكاك أو في أي صورة أخرى لكنه يستحيل أبدا استرجاع هذه الطاقة المتسربة بشكل تلقائي وبذلك مع تسرب هذه الطاقة إلى المحيط فتلك الآلة لابد أن تصل في النهاية إلى أن تتوقف تمامًا.
القانون الثاني للديناميكا الحرارية.. نص الكوباية مليان غم ونكد
تطبيقات القانون الثاني للديناميكا الحرارية والمعروف باسم "الانتروبيا" entropy لا تقف فقط عند ذلك الحد، فلذلك القانون صيغ كثيرة وتطبيقات تكاد تكون بلا حصر بل تزداد كل يوم في كافة مجالات الحياة والكون، أحد أشهر صيغ القانون تنص على أن: أي عملية كي تحدث بشكل تلقائي في الكون يجب أن يصاحبها زيادة في الانتروبيا (الفوضى) لكن أي محاولة لفرض نظام فيجب لإجرائها بذل شغل.
ببساطة شديدة لقد بدأ الكون منظمًا تمامًا، هناك ساخن وبارد وهناك عناصر كيميائة وأشياء أخرى كثيرة. بدأت الحرارة في الانتقال من الساخن إلى البارد وكذلك بدأت تلك العناصر في التفاعل وكونت مركبات، ذلك حدث بتلقائية دون بذل شغل، ولكننا كي نعكسه وكي نعيد تبريد ما سخن أو العودة بالمركّب إلى عناصره الأولى فيجب علينا أن نبذل شغل (طاقة).
فكّر في توربينات تدور بفعل حركة الماء وتولد الكهرباء. تبدو حركة الماء وكأنها طاقة متجددة وأن التوربينات ستستمر في الحركة إلى الأبد، إلا أن ذلك غير حقيقي لأن الماء سيأتي عليه اليوم الذي يتوقف فيه عن الحركة، ربما عندما تتوقف الرياح عن الحركة أو الأمطار عن الهطول وهو ما سيحدث عندما تتسرب كل حرارة الشمس إلى الأرض.
لا يمكن أبدًا عكس ذلك تلقائيا، فدائما ستتسرب الحرارة من الأسخن إلى الأبرد، ودائما سيتحرك النظام، أي نظام، من درجة عالية من التنظيم، حيث هناك شمس ساخنة وأرض باردة، إلى تمام الفوضى، حيث هناك شمس وأرض لهما نفس درجة الحرارة، وساعتها ستتوقف الحركة وسيقف التوربين مرغمًا.
فكر في الكون كمصدر ضخم لطاقة منظمة مسؤولة عن كل حركة موجودة. هذا النظام لن يلبث أن يفقد، عندما تتفاعل كل العناصر تلقائيا مكونة مركبات، وتتعادل حرارة كل الكون، ساعتها سيتحول الكون إلى مكان كل ما فيه متعادلًا، لا حركة هناك، بل موت تام وقابض.
إن الكون يشبه تلك الآلة التي بدأت بطاقة محددة لكنها تتسرب رويدًا رويدًا خالقة تلك الفوضى التي لا يمكن عكسها أبدًا بشكل تلقائي أو إعادة استخدامها، فدائمًا بحسب القانون الثاني للديناميكا الحرارية يجب أن تستمر الفوضى في الازدياد حتى تصبح أقصى ما يمكن وحينها يقف كل شيء ويموت.
اقرأ أيضًا: الطيب والشرس والمُتربِّص.. إعلانات الاتصالات على شاشة رمضان
لودفيج بولتزمان VS عم ضياء
بولتزمان فيزيائي نمساوي اكتشف هذا القانون وصاغ معادلته الرياضية وحاول أن يقنع العالم به إلا أن العالم لم يقتنع أثناء حياته.
لقد كان بولتزمان سوداويًا، إلا أنه لم يتحل أبدًا بالحس الساخر في مجابهة تلك السوداوية، فلم يكن مثل عم ضياء بل انتحر عام ١٩٠٦ بشكل بدا مفاجئ وغير مبرر. لم يُعرف سبب انتحاره وقيل إنه انتحر دون معادلته بعد أن أصابه اليأس وظن أن لن يقتنع بمعادلته أحد، أو ربما لسبب آخر أنه قد وضع يده على أول طريق الموت الأكيد وصاغ قانونه.
كما أشرنا إلى أن هناك حتميات في الكون، من بينها أن الحرارة تتسرب دائمًا من الأسخن إلى الأبرد -هذا ما نلاحظه دائمًا- ويستحيل أن يحدث العكس إلا لو بذلنا طاقة وشغل (كما هو الحال مع الثلاجة مثلًا).
قديمًا ظنوا أن الحرارة هي سائل غير مرئي ينتقل من الأسخن إلى الأبرد، لكن ملاحظات مثل أن الاحتكاك يولد حرارة واستمراره يزيد من تولدها كان ضد اعتقاد مثل هذا، يفترض أن الحرارة سائل يتدفق فمن أين يجئ إذا؟ وكيف يستمر في التولد هكذا.
في القرن السابع عشر وضعت قوانين تستطيع أن تتنبأ بالعلاقة بين درجة الحرارة وضغط الغاز وحجمه.
حاول كلاوزيوس تفسير تلك القوانين مشيرًا إلى أن تلك الغازات ربما تتكون من ذرات كثيرة تتحرك، إلا أن حساباته قد جاءت خاطئة فلم تقنع العالم. فيما بعد، نجح ماكسويل في تعديل تلك الحسابات مشيرًا إلى أن الذرات كما تصطدم بطارد الوعاء فإنها تصطدم ببعضها البعض.
بولتزمان هو الذي أخلص لذلك النهج في وقت كان العالم كله يكذّبه وغير مقتنع بوجود ما يعرف الآن بالذرات.
آمن بولتزمان أن الحرارة عبارة عن حركة جسيمات ولو افترضنا أن هناك غاز ساخن فستكون ذراته تتحرك في جنون وسرعة شديدة والغاز البارد ستكون حركة ذراته أبطئ ولو أننا قمنا بفتح قناة بين الغازين الساخن والبارد فستتعادل الحرارة بين الغازين ويتعادل معدل الحركة بينهما.
لقد بدأنا بوضع منظم، فيه الساخن منفصل عن البارد لكن سرعان ما تزايدت الفوضى حتى انتهى الأمر إلى تمام التعادل. وضع بولتزمان قانونا لهذه الفوضى التي عليها أن تزداد دائما حتى ينضب كل شئ ويتعادل كل شئ ويموت كل شئ.
على قبر بولتزمان حفرت معادلته S = kW، معادلة الانتروبيا؛ لتشهد له بما أنجز. وتنعي صاحب قانون الموت الذي مات دونه محاولا إقناع العالم به.
حيث S هي درجة الفوضى (الانتروبيا)، و K هو ثابت بولتزمان، أما W هو احتمال توزيع الذرات.
عم ضياء عالم فيزياء يحسم الجدل
لقد أصبح القانون الثاني للديناميكا الحرارية أحد أسس الفيزياء التي يؤمن بها جميع العلماء. الكون يتحرك نحو فوضى ستنتهي إلى تعادل تام، وتتوقف لكل انتقال للطاقة بعد أن تبددت تمامًا في تلك الفوضى المتزايدة.
هذه الفوضى التي لا يمكن عكسها، بل إن التفسير الوحيد الحالي لسهم الزمن الذي يسير نحو المستقبل دائمًا سببه هو هذا القانون، فالفوضى يجب أن تزداد مع مرور الزمن، والشباب يجب أن يشيخ، والهدم والخلل يصيب كل بناء، وأي محاولة لعكس ذلك تحتاج لبذل طاقة أكبر، ولكن ذلك محكوم بمستوى الطاقة المنظمة في الكون، والتي لن تلبث أن تصاب كلها بالفوضى ليموت كل شيء وكل الكون.
إن رؤية عم ضياء لا تختلف أبدا عن رؤية أي عالم أو عارف بالكون والفيزياء وقوانينه الحتمية المسلم بها، لذلك فإن مقولة عم ضياء هي قانون فيزيائي راسخ وأكيد. "كله ريح.. كله ريح".
اقرأ أيضًا: مُترجَم| مقدمة في حياة كارل ماركس