صفجة الفنان أحمد العوضي
مشهد من مسلسل "ضرب نار"

رجل دراما رمضان.. بين الخيال والخيال

منشور الأربعاء 19 أبريل 2023 - آخر تحديث الأربعاء 19 أبريل 2023

من المعروف بالضرورة أن الدراما ليس مطلوبًا منها نقل الواقع بشكل دقيق، رغم ذلك فإنها منوط بها الاعتماد على بعض ملامحه لتشييد عوالمها، ومع اقتراب موسم الدراما الرمضاني من نهايته، تكرر ظهور أنماط من الرجال، لا تتطابق مع صور رجل الشارع الحقيقي أو حتى تأخذ من ملامحه، لتصنع منه صورة درامية مبتكرة.

فرغم الطموح المعلن لصناع دراما رمضان للخروج من صندوق القوالب الثابتة، فإنهم فيما يبدو صنعوا صناديق جديدة ووقعوا في أسرها، أو بشكل أدق، صندوقين/ نمطين، وإن بديا للمفارقة، متناقضين تمامًا.

العمدة ورفاقه الأسطوريون

جعفر العمدة (يحمل المسلسل الاسم نفسه)، وجابر الكومندا (ضرب نار )، ومصطفى الأجهر (الأجهر )، وزين (بابا المجال)، هم رجال من نوع خاص، كلامهم حكمة متصلة تصلح للتدوين في كتب الشعر العامي والأمثال الشعبية، الجدعنة والشهامة مثلهم العليا، قادرون على حل كل مشكلة كبيرة كانت أو صغيرة بذراعهم القوي وذكائهم القادر على استكشاف بواطن البشر، حتى لو لم يحصلوا على تعليم عالٍ أو يكتسبوا ثقافة ما، فهم تعلموا من مدرسة الحياة نفسها كل الدروس المطلوبة للمعيشة.

في المشاهد الافتتاحية لمسلسل ضرب نار، بطولة أحمد العوضي وياسمين عبد العزيز، يظهر البطل جابر الكومندا يغير إطار سيارة نقل عملاقة وحده باستخدام عضلاته المفتولة، ثم يجوب طرق الصعيد منفردًا بدراجته النارية وعلى ظهره طائر جارح عملاق يتعلق بملابسه كأليف، مشهد يبدو أسطوريًا في عالم غير أسطوري.


تبعًا لكريستوفر فوجلر في كتابه دليل السيناريست، فإنه "غالبًا ما تقود الرحلات البطل والجمهور إلى عوالم فائقة، لذا إن معظم القصص تبدأ أولًا بوصف عالم البطل الاعتيادي لكي يستخدم فيما بعد كعنصر للمقارنة، في الحقيقة لا يمكن لخصوصية العالم الفائق أن تظهر بجلاء إلا بتناقضها مع العالم اليومي الذي يأتي منه البطل".

وفي "ضرب نار" يقدم السيناريو صورة عكسية، فهو يبدأ في عالم فائق لرسم صورة البطل الأقرب للآلهة الإغريقية، كما يقدم صورة عن الصعيد لا تتشابه مع العالم الواقعي، ثم يتوجه إلى عالم اعتيادي هو القاهرة ليسكن أحد الحارات الشعبية ويتعرف على "مهرة"، قبل أن تبدأ مجموعة من المغامرات التي تدور في فلك رجال الأعمال الفاسدين وقصة الحب الملتهبة بين البطلين، التي يفسدها الثأر من ناحية، ومطامع رجل الأعمال الشرير زيدان في البطلة الجميلة من ناحية أخرى.

جاءت بداية جابر الكومندا أسطورية ولكنه نزل إلى عالمنا الاعتيادي بعد تلك المقدمة المهيبة، ولكن على الجانب الآخر عالم جعفر العمدة لا يزال يقدم بطله بشكل ميثولوجي. يداعب جعفر خيال المشاهدين الرجال بقدراته الجنسية الفائقة، وقوته العضلية التي تجعله يخوض شجارًا طويلًا بملابسه الداخلية بعد استيقاظه من النوم مباشرة، مع مجموعة من الرجال بمفرده.

يتجاهل هذا التأطير الأسطوري لشخصية جعفر العمدة سقطاته المبينة مثل عدم انتباهه إلى أن ابنه الذي يبحث عنه بجنون بجواره بالفعل، ويتم تمرير عمله في "الربا" على الرغم من النفور الديني منه لدى الكثيرين، بالإضافة إلى استغلاله الحاجة المادية لامرأة ليتزوجها رغمًا عن إرادتها، وفي الوقت ذاته يعلي المسلسل من قدرة البطل على ضبط نفسه وعدم اغتصابه لتلك الزوجة رغمًا عن إرادتها وتمنعها، لكن يستطيع بذكوريته الجذابة إيقاعها في حبه.

بالعودة مرة أخرى لدليل السيناريست يقول فوجلر "لدى أبطال حكايات الجنيات قاسم مشترك، صفة تجمع بينهم عبر مختلف الثقافات والأزمنة والأماكن، إنهم يفتقرون إلى شيء ما أو اختطف منهم أحد ما، تعالج حكايات الجنيات البحث عن الكفاية والكمال وغالبًا ما يؤدي إقصاء أحد أفراد العائلة إلى إطلاق العمل، ضرورة إيجاد القطعة الناقصة تدفع بالقصة إلى الكمال النهائي".

يبحث جعفر عن ابنه الضائع بالفعل، والعثور عليه هو قطعة البازل الأخيرة التي تجعل حياته مكتملة تمامًا، لديه أربع زوجات جميلات، ومال وفير، ومنزل عملاق ووريث ذكر شرعي، إنها جنة الذكر على الأرض.

رجال لا نسمع لهم ذكرًا 

رغم ذلك ثمة نمط آخر من الرجال يظهر فيما يعرض أو عرض من أعمال، فشريف (الهرشة السابعة) ورؤوف (مذكرات زوج) وأحمد (كامل العدد)، يقدمون نموذج الرجل شديد الهدوء المسالم، الذي لا يرغب في غير التواصل مع المقربين منه.

يحيا شريف وفق قواعده الخاصة، فيعمل عملًا لا يفهمه المشاهدون في النجارة، ولكن يدر عليه المال الكافي لحياة مرفهة. يقضي أيامه في القراءة والطهي ولقاء الأصدقاء والحديث مع زوجته عن مشاعرها، يأخذها للطبيبة النفسية تارة، ويذهب معها إلى علاج زوجي/ كابل ثيرابي تارة أخرى.


بينما يقرر رؤوف، المراقب الجوي، بعد مروره بكابوس، تغيير حياته والتواصل مع أفراد عائلته خاصة الزوجة، فيدعوها بشكل مفاجئ إلى عشاء خارج المنزل، وعندما تعتذر بشكل فج يتركها نهائيًا لأنها غير صالحة للحب ويبحث عن الأخير بالخارج، من حبيبة المراهقة إلى أخرى تعرف عليها حتى يعود إلى زوجته التي تغيرت شخصيتها وأصبحت صالحة لاستقبال حبه، رؤوف مثال الرجل اللطيف الذي لا يرغب سوى في أن يحب ويُحب حتى لو أدى ذلك إلى استقالته من وظيفته.

مثال ثالث هو أحمد طبيب التجميل الناجح الذي يقع في حب امرأة مطلقة مرتين ولديها أربعة أولاد، فيتزوجها ويضم أولاده على أولادها ليصبحوا ثلثي فريق كرة قدم، ويعولهم جميعًا، وهو في الوقت نفسه زوج مثالي وأب رائع للأطفال السبعة، يرفض سعادته الشخصية مقابل بناء علاقة جيدة مع أبنائه، ويقيم علاقة صداقة مع طليق زوجته.

قامت تلك المسلسلات بعزل أبطالها بالفعل عن المجتمع، فغابت عوامل مثل الاحتياجات المادية، أو الضغط الاقتصادي، أو الأفكار السائدة عن الزواج من المرأة المطلقة، لا نرى شريف يعمل بشكل حقيقي طوال الـ 15 حلقة من الهرشة السابعة، وكذلك أحمد ورؤوف، فهي شخصيات ذات هدف محدد مسبقًا، مرسومة بدقة لتظهر في النهاية كنمط وليست شخصية حقيقية من لحم ودم.

طبقًا لماري تالبوت في كتابها "اللغة والجندر" فإن "الهيمنة الاجتماعية لا تجعل الحياة سهلة بالنسبة للرجال. فهناك شرط مفروض على الأفراد. وهو توقع قيامهم بتجسيد هيمنة الرجل وسيطرته وعليهم تأدية ذلك".

أبطال ذلك النمط في مسلسلات رمضان رجال تحللوا من قيد تجسيد أدوارهم في الهيمنة الذكورية، شريف شاب ابن لأسرة ذات فكر مختلف عن الفكر السائد في المجتمع، لذلك يبني أسرة غير تقليدية مع زوجته، ورؤوف مثال على الرجل الذي يعاني من أزمة وجودية مع أزمة منتصف العمر ولكن بدلًا من إجبار زوجته على الرضوخ لمتطلباته الرومانسية والعاطفية تركها حتى تتغير شخصيتها وحدها وتتعلم الدرس، وأحمد الأب والزوج المثالي الذي يجعل حياة كل من حوله نعيمًا بلطفه وتفهمه.

أنماط تسعد كل جنس بمفرده 

يقول رايون كونيل، في مقال بعنوان "الذكورية المهيمنة إعادة تفكير في المفهوم"، إنه "يمكن تعريف الذكورية المهيمنة على أنها تكوين لممارسة جندرية تجسد الإجابة المقبولة حاليًا لمشكلة شرعية النظام الأبوي.. إنها الإدعاء الناجح للسلطة، أكثر من العنف المباشر، هذا هو علامة الهيمنة (على الرغم من أن العنف غالبًا ما يؤسس السلطة أو يدعمها)".

يقدم "جعفر العمدة" مثل "ضرب نار" والمسلسلات على شاكلتهما صورة مرتبكة من الميثولوجيا، رحلة تبدو مثل رحلة البطل ولكن بطلها نفسه يصعب اعتباره بطلًا بالمعنى الصحيح، فله سقطات أكبر حتى مما يطلق عليه "الخطأ التراجيدي" فهي شخصيات معيبة بأي ميزان أخلاقي.

ولكن تلك الأعمال الدرامية تضعها في إطار المثل العليا التي يجب أن يتماهى معها المشاهد الذكر على وجه الخصوص، وذلك لأنها تعطيه أملًا وحلمًا في المزيد من الهيمنة الذكورية، تضاعف مكتسباته الحالية، وتحرره من أي قيم اجتماعية وقانونية تجعله يحجم عن التصرف مثل فتوة حقيقي وزير نساء وأغنى الأغنياء في آن واحد.

بينما "الهرشة السابعة" و"مذكرات زوج" و"كامل العدد" تخفف من الهيمنة الذكورية لأبطالها حتى الحدود الدنيا، لذلك فهي شخصيات صادمة لبعض المشاهدين أو غير مفهومة بالكامل، أو خيالية، حتى كما اتهمها البعض على السوشيال  ميديا، لأنها تخالف الممارسات الجندرية المقبولة التي شرعها النظام الأبوي.

ما يجمع كل من جعفر العمدة وجابر الكومندا وشريف وؤروف والدكتور أحمد أنهم أنماط غير حقيقية، هم مبالغة شديدة في القرب من أو البعد عن الهيمنة الذكورية. شخصيات لا تشبه رجل الشارع في شيء ولكن تدفعه للشعور بأنه يجب أن يتحدث بالشعر والحكم والأمثال، وقادر على القتال مثل أبطال الكونغ فو ويمتلك مالًا تجعله يشتري السيدة زينب، أو تجعل النساء تحلم بالزوج الطيب الحنون الذي يستمع لها أفضل من الطبيب النفسي، ويعتبر التواصل معها أهم حتى من كسب العيش.