يحفل الموسم الرمضاني الذي يوشك على الانتهاء بالكثير من القضايا التي تُناقش على هامشه كالعادة، مثل دخول مفهوم اللجان الإلكترونية إلى الفن، ومسلسل سره الباتع الذي حصد الكثير من السخرية على السوشيال ميديا مع مشايخ مسلسلات إبراهيم عيسى، ومحمد رمضان الذي نعلقه على الصليب سنويًا ليحمل عنا خطايانا.
لكن هذا الصخب تتخلله ظاهرة جديدة حقًا، فأربعة عشر مسلسلًا قصيرًا، تتنافس فيما بينها هذا العام، وأبطالها جميعهم من نجوم الصف الأول، مثل منى زكي، ومنة شلبي، وغادة عبد الرازق، ومحمد ممدوح، وأمينة خليل، وأحمد السقا، وياسر جلال، ودنيا سمير غانم، ودينا الشربيني.
متعة بدون التزامات
ظاهرة المسلسلات القصيرة ليست غريبة عن الدراما التليفزيونية المصرية، فقد كانت علامة مميزة في حقبة قطاع الإنتاج التليفزيوني في منتصف الثمانينيات، الذي كان ينتج سهرات درامية تليفزيونية بسبب ضعف الميزانية، ومسلسلات قصيرة كذلك. كان بين تلك الأعمال اليقين، وخالتي صفية والدير، وفيه حاجة غلط، وصابر يا عم صابر، وتوالت الأحداث، ونهاية العالم ليست غدًا، والرجل والحصان.
لكنه ما لبث أن تراجع حتى اختفى مع تراجع قطاع الإنتاج الحكومي، ودخول الفضائيات وإعلاناتها التي جعلت من رمضان ماراثونًا يتنافس فيه المنتجون بمسلسلاتهم الطويلة على مدار 30 يومًا.
ولكن في رمضان الحالي لم يتسبب ضعف الميزانية في اللجوء إلى المسلسل القصير من جديد، فالفضل كله يعود إلى سيادة ثقافة "الستريمنج" ومنتجاتها في منصات مثل: نتفليكس، وهولو، وأمازون، وشاهد، وواتش إت؛التي غيرت جداول المشاهدة وطقوسها.
فمن أهم ظواهر ثقافة "الستريمنج" إعادة تصدير المسلسل القصير وسيكولوجيته التي تناسب المشاهد في العصر الذي تتزاحم فيه الأشياء التي يمكن القيام بها في يوم واحد.
تشير إحدى الإحصائيات أنه منذ العام 2020 ارتفع إنتاج المسلسلات القصيرة حول العالم بنسبة 13% بسبب ما للمسلسل القصير من سيكولوجية جذابة، فهو سلسلة محدودة من الحلقات التي من المفترض مشاهدتها خلال فترة قصيرة، أطول من الفيلم، ولكنه ليس طويلًا بحيث يتطلب التزامًا طويل المدى.
كما أنه يمكنك أن تشاهده دفعة واحدة في عطلة نهاية الأسبوع، أو كما يصفها ساخرًا أحد أساتذة التليفزيون والثقافة السكانية في جامعة سيراكيوز بنيويورك "إنها تشبه رحلة الصيف بما فيها من خفة ورومانسية ملتهبة، ولكنها لا تحمل بالضرورة التزامًا، فبينما يبدو مسلسل صراع العروش علاقة مشروطة بمتابعة طويلة الأمد كعلاقتك بزوجتك، يظهر تشيرنوبل مشُبعًا أيضًا في متعته كممارسة الجنس دون زواج، دون أي التزامات".
بالعودة إلى الدراما العربية، نجد أن النمط الإنتاجي للمسلسلات القصيرة بدأ مع حاجة المنصات إلى مسلسلات حصرية لكي تدفع المشاهد للاشتراك فيها. وكان لمنصة شاهد الأسبقية بمسلسل في كل أسبوع يوم جمعة لأبطاله منة شلبي وآسر ياسين عام 2020، والجزء الأول من مسلسل ليه لأ بطولة أمينة خليل، الذي أدى نجاحه لصناعة الجزء الثاني من بطولة منة شلبي.
واستُتْبعت تلك التجربة بتجارب من نجوم الصف الثاني والثالث كأحمد زاهر في وراء كل باب حكاية، وأحمد داش في الحرامي، وروبي وأحمد حاتم في شقة 6، وأحمد مالك وويجز في بيمبو.
وبنجاح تلك التجارب حاولت المسلسلات التليفزيونية على استحياء أن تستلهمها، فظهر في العام 2021 كوفيد 25 في 15 حلقة ليوسف الشريف، وبين السما والأرض في 15 حلقة لهاني سلامة.
ولكن العام 2022 كان فارقًا في ترسيخ العودة للمسلسلات كحل للخروج من القوالب النمطية للدراما المصرية. قدمت منصة شاهد في ذلك العام مسلسلات ناجحة من أبطال الصف الأول مثل وش وضهر لإياد نصار وريهام عبد الغفور، ومنورة بأهلها لغادة عادل وباسم سمرة، والغرفة 207 لمحمد فراج وريهام عبد الغفور، والثمانية لآسر ياسين ومحمد ممدوح، وموضوع عائلي لماجد الكدواني.
كما قدمت منصة WatchIt إنتاجها الأول الناجح ريفو من بطولة أمير عيد، الذي شجع على إنتاج تجربة بالطو الناجحة، مع مطلع 2023.
شركات الإنتاج تدخل الخط
وجاء موسم 2023 ليؤكد الانتصار للمسلسلات القصيرة حيث أصبحت شركات الإنتاج هي التي تتوجه بأعمالها إلى أسلوب عرض المنصات، من خلال إنتاج مسلسلات تتراوح بين 10 و 15 حلقة، وهو ما يُبشر بنجاح التجربة واستمراريتها من خلال نجاح مسلسلات قصيرة مثل الصفارة، والهرشة السابعة، ورشيد، وكامل العدد. وحالة الزخم التي تحيط مسلسلات أخرى بدء عرضها مثل تحت الوصاية، وتغيير جو.
ورغم أن اللجوء إلى المسلسلات القصيرة كان مجرد توافق مع نمط إنتاجي عالمي رسخته ثقافة "الستريمنج" فإنه يدعو للتفاؤل بشأن التغلب على مشاكل الكتابة. فالمسلسل المصري طيلة السنوات الماضية عانى من قالب الثلاثين حلقة، بل وزاد الطين بلة بأن حاول البعض مجاراة النمط التركي بصناعة مسلسلات طويلة الأنفاس تزيد عن الثلاثين إلى ما يعلم الله.
ولكن كان هناك نوعًا من المسلسلات حاول أن يتغلب على مشاكل التطويل والحشو بأسلوب المسلسل المنفصل/المتصل حيث يحوي المسلسل أكثر من قصة مثل نصيبي وقسمتك، وبدل الحدوتة تلاتة، وحكايات وبنعيشها، وإلا أنا. وهي تجارب حققت نجاحًا متواضعًا.
هناك مشكلات رغم ذلك
يلفت موسم 2023 النظر إلى رقمين هامين في هذا السياق، الأول هو أن نسبة المسلسلات القصيرة من الإنتاج الرمضاني المصري بلغت 45% بأربعة عشر مسلسلًا في مقابل 55% للمسلسلات الطويلة بسبعة عشر، وهي نسبة صاعدة بشكل مدوي إذا ما قورنت بالعام السابق الذي شهد 4 مسلسلات قصيرة فقط، كان أنجحها بطلوع الروح لمخرجته كاملة أبو ذكرى.
ويلفت الرقم الآخر إلى ما يمكن أن تقدمه المسلسلات القصيرة للإنتاج التليفزيوني المصري، حيث إننا نشهد بالإجمال 31 عملًا متنوعًا في مواضيعه وقضاياه، وهو أعلى رقم منذ عام 2017، الذي قُدم فيه 33 مسلسلًا رمضانيًا طويلًا.
وشهدت السنوات الستة ما بينهما تقليصًا لحجم الإنتاج بعد محاولات شركة سينرجي السيطرة على الإنتاج التليفزيوني وتكثيف الجرعة الوطنية العسكرية والشرطية والمخابراتية في مضامين الأعمال الرمضانية.
ولكن يبقى السؤال المطروح: هل يضمن ذلك الإنتاج الكثيف للمسلسلات القصيرة حل لآفات كتابة المسلسلات الطويلة؟
لا يمكن الجزم بإجابة قاطعة لهذا السؤال، فهي تجربة لا تزال تحاول النجاح، فهناك من المسلسلات القصيرة التي أظهرت مشكلات في الكتابة مثل مسلسل رشيد، الذي فُرشت أحداثه وتوزعت بشكل جيد على مدار 14 حلقة ولكنها لم تُلم بشكل جيد في حلقتها الأخيرة التي جاءت في زمن قصير للحلقة ذاتها لا يتخطى الأربعين دقيقة، وحاولت أن تضع مصير كل شخصية بشكل سريع دون أن تعطي فرصًا للشخصيات لأن تلعب في مساحاتها كشخصيات مركبة تبحث عن مبررات لقرراتها، فيما تخطى العمل الإجابة عن أسئلة ومصائر كمصير قضية تجارة الأعضاء التي يقوم بها سيف ابن رشيد، ومصير سيف ذاته من تلك القضايا الموثقة بالفيديو.
وفي مسلسل الهرشة السابعة نرى حالة معاكسة لمساحة الكتابة التي كانت فائضة تقريبًا وتم حشوها، فرغم كل ما يمكن أن يُقال عن المسلسل من منظور طبقي، فإنه بالنسبة للكتابة وللأحداث بحد ذاتها، كان فقيرًا في الكثير من الحلقات التي وجدنا أنفسنا نغرق فيها في يوميات الشخصيات أكثر من اللازم، في ملبسهم ومأكلهم وخروجاتهم وملاهيهم، حتى تحول المسلسل في بعض حلقاته إلى استعراض لذلك النمط البرجوازي من الحياة أكثر من عرض مشاكل الحياة الزوجية والعاطفية لآدم ونادين، وسارة وشريف، والشخصيات التي تدور في فلكهم.
وفي الصفارة نجد أن الخمسة عشر حلقة لم تضف أو تنُقص من العمل شيئًا، فعلى كل حال ستتم صناعة جزء ثانٍ له، وهو ما يدلل أنه كان بإلإمكان الاستمرار في عرضه أكثر، فالمسلسل أساسًا يقوم على نمط المسلسل المنفصل/المتصل والذي هو بطبعه مسلسلات قصيرة داخل المسلسل. أما في الصفارة فنحن نجد مسلسلات قصيرة داخل مسلسل قصير من الأساس، ولم يتم توزيع وقت القصص بشكل متساوٍ في الوقت والحلقات، من أجل مواكبة الخمسة عشر حلقة.
أما مسلسل وعود سخية لحنان مطاوع وإن كانت تجربة متوسطة الشهرة والنجاح، لكنها الأكثر تماسكًا من ناحية تقديم عالمها، فالمسلسل في حلقاته الأولى يتزين بسينوغرافيا الحي الشعبي بفقره، وحوائط منازله المشققة، وملابس أهاليه، ومأكلهم، وشوارعهم، بشكل غاب عن أغلب الأعمال التي أظهرت الحي الشعبي في التليفزيون. بل والتي غابت عن مسلسل "جعفر العمدة" بحد ذاته الذي يدور في حي شعبي كالسيدة زينب.
وعلى مستوى الكتابة، تتحرك حنان مطاوع في شخصيتين على مدار الخمسة عشر حلقة بشكل متوازن، ولكل شخصية من الشخصيتين انفصامها وصراعها. وإن عانى المسلسل في بعض الأحيان من كليشيه الصور النمطية عن إمراة الحي الشعبي، ولكنه تخلى بجرأة عن كليشيه تطهير البطل من ذنوبه وانتصاره على أقداره التي حاولت أن تصنع منه شريرًا.
بشكل عام، تعد تجربة المسلسلات القصيرة بتغيير ثقافة المشاهدة والإنتاج التليفزيوني في مصر في السنوات القادمة، وهي تجربة ترمي حجرًا ثقيلًا في المياة الراكدة.