الصفحة الرسمية لحمادة هلال
المطرب والممثل حمادة هلال أثناء تصوير مسلسل المداح

حلم شهريار في مجتمع "تحت الوصاية"

أثر الطبقة والنوع والوعي في استقبال أعمال رمضان

منشور الخميس 20 أبريل 2023

في لقاء مع طلبة جامعيين حول دراما رمضان وثقافة المجتمع، عُقد بالمجلس الأعلى للثقافة، بحضور كوكبة من الأكاديميين المرموقين وطلبتهم، تحدث الأساتذة باستفاضة عن ضرورة أن يلعب الفن، باعتباره "القوة الناعمة"، دورًا إيجابيًا في تنمية الحس الوطني والاجتماعي، ضاربين أمثلة بـ"الاختيار" و"الكتيبة 101" و"أمل فاتن حربي" و"تحت الوصاية"، وأدانوا ما أسموه بالأعمال "التافهة" "المضرة"، التي تروج للبلطجة وتعدد الزوجات وإهانة النساء وترويج الخرافة، ضاربين المثل بـ"جعفر العمدة" و"المداح" وغيرهما.

لاحظت، كما لاحظ الأساتذة، أن الطلبة لا يستجيبون مع ما يطرحه المشاركون على المنصة، عازفين حتى عن توجيه الأسئلة على الرغم من أن أستاذتهم وعدوهم بأن من يشارك ولو بسؤال سوف يحصل على درجات إضافية.

عُقدت الندوة بعد الظهر وآثار الصيام والإرهاق كانت بادية على الطلبة، الذين أتى معظمهم لتأدية فرض دراسي.

جربت أن ألعب معهم لعبة. سألتهم عن الأعمال التي يشاهدونها: من منكم يشاهد "تحت الوصاية"؟ حوالي عشرة من بين ما يقرب من خمسين رفعوا أيديهم (معظمهم فتيات). سألت ثانية: من منكم يشاهد "جعفر العمدة؟"، كل الذكور تقريبًا رفعوا أيديهم بحماس. من يشاهد "الهرشة السابعة؟" ثلاث أو أربع فتيات رفعن أيديهن. لاحظت أن ملابسهن وهيئتهن أكثر عصرية. من يشاهد "المداح"؟ ثلاثة أو أربعة فتية رفعوا أيديهم. فكرت أنهم يشبهون الطلبة القادمين من الأرياف، أو هكذا بدوا.

طلبت من أحد الفتيان المتحمسين لـ"جعفر العمدة" أن يخبرنا برأيه. تقدم شاب مفتول العضلات وراح يعدد في مناقب بطل المسلسل، القوي، صاحب الأخلاق، الذي يتألم من فقدان ابنه، ويعاني من زوجاته، إذ تعرض لخيانة إحداهن، وأشاد بالعلاقة التي تربطه بابنه الذي لا يعرفه، وبقدرته على العدل بين زوجاته الأربع، وشبهه بشهريار. (بشكل عام لم يختلف رأي الفتى كثيرًا عن آراء بعض المثقفين والنقاد الذين يشيدون بالمسلسل على مواقع التواصل، رغم أن هؤلاء لا يشيرون إلى شهريار والعدل بين الزوجات).


سرت همسات ضاحكة معترضة بين الفتيات. فطلبت من إحدى المتحمسات لـ"تحت الوصاية" الإدلاء برأيها، فأشادت بالموضوع الاجتماعي المهم الذي يناقشه المسلسل، وأشارت إلى عبارة قالتها بطلة المسلسل لموظفي المجلس الحسبي "أنتم مستصغرني قوي كده؟" (تذكرت أنني قرأت عدة إشارات للجملة على السوشيال ميديا لبعض الصديقات. يبدو أنها تلخص فكرة المسلسل، ووضع المرأة في المجتمع بشكل عام).

أعداء "الطبقية"

عندما أشرت للبعد الطبقي (ماديًا واجتماعيًا وثقافيًا) في مقال سابق عن "هيستريا النساء وذهان الرجال في أعمال رمضان"، تلقيت ملاحظة غاضبة من التقسيم والتحليل "المتعسف" للفن مصحوبًا باتهام أن المقال هو "الطبقي".

بغض النظر عن هذه الآلية الدفاعية، جرب أن تتحدث عن العنصرية سيخبرك أحدهم أنك عنصري، وجرب أن تتحدث عن الطائفية، سيخبرك أحدهم أنك طائفي. بغض النظر، فقد لاحظت أن البعض يستاء إذا أشرت للبعد الطبقي لعمل فني يحبونه. وهؤلاء اعتقدوا أن المقال "اتهام" لمحبي "جعفر العمدة" بأنهم "شعبيون".

البعض الآخر اعتقد أن المقال اتهام لمحبات "الهرشة السابعة" بأنهن "بورجوازيات" و"هستيريات". وصديق مثقف أحترم رأيه وصف ما يذكر عن "طبقية" جعفر العمدة بأنه "نقد يساري"، وأن جعفر يختلف عن أبطال محمد رمضان السابقين، فهو ليس بلطجيًا لكنه شخص يعاني ويتألم ويتعرض للخداع، ومحروم من البنوة ومن الصداقة المخلصة.

"باترون" البطل الشعبي

لا أجد فارقًا يذكر بين شخصيتي جعفر العمدة المسلسل وعبده موتة في الفيلم الذي حمل اسمه، أو فارس في "قلب الأسد" أو حربي الشهير بزلزال في "زلزال" أو رضوان البرنس في "البرنس" أو زين في "نسر الصعيد". وفي الحقيقة ليس هناك اختلاف كبير بين تلك الشخصيات وشخصية البطل الشعبي التي لعبها معظم النجوم من فريد شوقي إلى أحمد السقا مرورًا بنور الشريف وأحمد زكي وعادل إمام. يمكنك أن تقارن شخصية جعفر بشخصية رشيد (محمد ممدوح) في مسلسل "رشيد"، الذي يظلم كثيرًا ويسرق منه ابنه، ويهرب من السجن ليبحث عنه ثم ينتقم من أعداءه. البحث عن النسب الضائع سمة أخرى من سمات البطل الشعبي المصري والعربي.


البطل الشعبي العربي لديه دائمًا مشكلة مع النسب، وهو دومًا يبحث عن أب يكون امتداده، أو يبحث عن ابن ليصبح أبًا، إذ لا تكتمل البطولة ولا الشرف دون النسب. وحتى عبد الحليم حافظ كان يبحث عن أبيه الضائع في معظم أفلامه.

البطل الشعبي لا يصبح فتوة أو بلطجيًا لمجرد الفتونة والبلطجة، لكنه دائمًا شخص طيب، يتعرض للمعاناة والظلم الشديدين، ويقاوم أعداءه أو ينتقم منهم بالعنف، ليس لأنه يحبه، ولكن لأنه مضطر لذلك. وهو دائمًا رحيم بالنساء، عادل بين الزوجات، يرعى الأطفال ويراعي كبار السن. يسير جعفر العمدة على نفس النموذج، الـ Pattern، دون زيادة أو نقصان.

بين العمدة والكبير

المختلف في "جعفر العمدة" كما أشرت في المقال سابق الذكر، قد يكون المبالغة المقصودة دراميًا والإفراط في المشاعر، لدرجة تنقل العمل من مجال الواقعية والميلودراما القديمة إلى مجال المحاكاة الساخرة على طريقة تارانتينو أو الأفلام الهندية مثل RRR.

 وهذه المبالغة تسهم في "تعليق" الواقع والمصداقية المنطقية، لندخل في مجال الخيال اللعبي والعبث الفكاهي. ولا غرابة في أن المسلسل يثير أكبر قدر من "ميمات" الضحك على صفحات التواصل والواقع. جعفر العمدة هو، بطريقة ما، امتداد ميلودرامي لشخصية "الكبير"، رمز الفحولة، الذي يبحث هو أيضًا، يا للمفارقة، عن استعادة ابنه منذ موسمين.

لولا تلك المبالغة، وذلك الحس الساخر والإفراط، لما وجدت أعمال تارانتينو أو RRR أو "كل شئ، في كل مكان، في الوقت نفسه"، هذه الحفاوة والاستقبال الطيب بين المثقفين والنقاد. "النبرة" أو الـ tone، أحد العناصر المهمة جدًا في الفن، وهي مسؤولة عن تحديد طبيعة العمل الفني وتأثيره وطريقة تلقيه، و"النبرة" الساخرة أو المتهكمة هي إحدى خصائص فن ما بعد الحداثة، مع الاعتذار لمن لا يحبون المصطلحات العلمية في مجال النقد الفني.

بين فاتن وحنان

فيما يتعلق بـ"تحت الوصاية" هناك تشابهات واضحة بينه و"فاتن أمل حرب" الذي عرض العام الماضي. امرأة وحيدة في مواجهة رجال أنذال وقوانين ظالمة للمرأة، تجاهد ضد التيار وتنتصر، وهناك تشابهات حتى في بناء العملين؛ اعتمادهما على مقدمة لكل حلقة عبارة عن فلاشباك من ماضي الشخصية، وهي تقنية مستمدة من بعض أعمال نتفليكس خاصة مسلسل Maid، الذي يمكن تتبع أثره، مضمونًا وشكلًا، على العملين المصريين.

مع ذلك هناك فوارق كثيرة بين "فاتن حربي" و"تحت الوصاية"، يكمن أهمهم في التون؛ فاتن فاقع الميلودراما، الناس فيه ملائكة أو شياطين، مفرط التعبير في الحوار والتمثيل والموسيقى، لكن الإفراط هنا، على عكس "جعفر العمدة"، أضر بالعمل. لماذا؟ لأن مضمونه واقعي يحتاج إلى معالجة واقعية هادئة، وهو ما يتحقق في "تحت الوصاية" الذي نال إعجابًا أكبر ولم يستطع حتى أعداء بطلته وأكثرهم رجعية فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية، أن يجدوا فيه مبالغات يطعنونه بسببها.


إن التون المنخفض هنا يلعب في صالح العمل، ويضفي عليه واقعية تزيد من أثره الفكري وتأثيره العاطفي. كل نوع فني وكل عمل يجب أن يكون له "تون" يناسبه، ومثلما رفع "تون" المبالغة من قيمة "جعفر العمدة" وRRR، فإن "تون" الواقعية رفع من شأن "تحت الوصاية"، وأضعف حلقات المسلسل هي الحادية عشر التي تبدأ بعين الابن مهددة بالفقدان، ما يدفع الأسرة إلى التفكير في بيع مركب الصيد، وتنتهي بقيام حنان (منى زكي) بطعن بحار حاول الاعتداء عليها، ثم قيامه بابتزازها مقابل عدم الإبلاغ عنها. هنا ينتقل العمل من درجة الواقعية الهادئة، إلى درجة الميلودراما الفاقعة التي تحاكي أفلام فاتن حمامة القديمة، ويدخل في حالة مختلفة، ربما لأن كاتبي المسلسل، شيرين وخالد دياب، فكرا في زيادة جرعة التشويق والدراما، فخانا إيقاع وتون العمل، وهذه مشكلة الكتابة "الاحترافية" أحيانًا.

محاكمة الفن.. أم المجتمع؟

أعود إلى ندوة الدراما الرمضانية وثقافة المجتمع. الأسئلة التي طرحتها على الطلبة وإجاباتهم أكدت لي أن هناك "جماهير" مختلفة، تتحدد بناء على مستوى الطبقة والمركز الاجتماعي أو المهنة والنوع الجنسي ومستوى الوعي والثقافة. تفاعل الطلبة حول النقاش إلى مجرى آخر أيضًا. ما بدأ كمحاكمة للفن من وجهة نظر المجتمع انتهى بمحاكمة للمجتمع من وجهة نظر الفن.

انطلقت الندوة من فكرة الوصاية التي يمارسها الإعلام وأساتذة الجامعة ورجال الدين والسياسة على الفن، التي لا تقل وطأة عن الوصاية على الأرامل. والسؤال الذي وجهته حنان للمجلس الحسبي "أنتم مستصغرني قوي كده؟" وجهته للحاضرين. هل تستصغرون الفن إلى هذه الدرجة وتريدون فرض الوصاية عليه؟ بدلًا من أن تقيموا الدراما من وجهة نظر المجتمع دعونا نقيم هذا المجتمع من وجهة نظر الدراما التي يقبل عليها الناس والكيفية التي يتلقون بها المسلسلات. هل لاحظتم حماس الفتيان لجعفر العمدة؟ ألا يخبركم ذلك بشيء؟ هل لاحظتم تعاطف الفتيات مع حنان؟ ألا يخبركم هذا بوجود انشقاق وصراع مجتمعي بين الجنسين؟

في كليات العلوم الإنسانية في العالم توجد اليوم دراسات للسينما والدراما من وجهة نظر علوم الاجتماع والنفس والاقتصاد، ليس هدفها تقويم الأعمال الفنية وحثها على مراعاة الأخلاق ورفع الحس الوطني، لكن تحليل تلك الأعمال لفهم المجتمع بشكل أفضل.

بعد الندوة سألني بعض الطلاب عما إذا كنت ضد الوصاية والرقابة. سألت أحدهم هل تقبل أن يفرض عليك أستاذك أو أنا ما تشاهده وما لا تشاهده؟ فأجاب بابتسامة: لا. سألته: ترفضون الوصاية، فلماذا، إذن، تعتقدون أنكم أوصياء على الآخرين؟