يوتيوب
مشهد من مسلسل "جعفر العمدة"

جعفر العمدة.. مسلسلي الجميل الطيب الرؤوف

منشور الأحد 9 أبريل 2023 - آخر تحديث الأحد 9 أبريل 2023

شغفت بمشاهدة مسلسل جعفر العمدة، لأنه عمل فني جميل، مثل شاب طيب أو فتاة ودودة، لا يملكان أي طموح من الحياة أو مطمعًا فيها، يُصدِّران الخير للغير ويتقبلان الإساءة بقلب كريم، ويحبُّ الناس صحبتهما للطف معشرهما وليس للينٍ أو ضعفٍ فيهما.

هو مسلسل كله خير. يمنح نفسه لصانعيَه ومتلقيه بكرم، يغذي ثلاثتهم سرديته المتخيلة عن نفسه ويصدقونها دون تعب.

ربما لا يحتاج مسلسل مثل هذا لكتابة تؤوله، فهو مثل حكمة الأسطورة، أي أسطورة، في سهولتها ومباشرتها وبدائيتها، مثل الذنب الجميل الذي لا يضنيك البحث عن كفارته أو أدائها، دون دراما صعبة، دون أي دراما في الحقيقة، ودون قيم غير المتخيل منها، المتخيل عن الطمع والبخل والبلاهة والفقر والجوع والكرم والفتوة والطيبة والسذاجة والكراهية.


هو قربان فني، أو إن شئت الدقة، دليل في ليل كالح على تحلي مخرجه بالقيم الفنية المطلقة، قيم الزمن الجميل، الأعمال الخالدة من العصر الغابر، فكل تليفزيون ظهر في أي من مشاهد المسلسل، يدور على فيلم أبيض وأسود، كوميدي أو درامي، غير مهم، المهم أنه أبيض وأسود.

ولا يتوقف ذلك على الخلفية الثقافية والفنية لمن يشاهد التليفزيون في تلك اللحظة، كل الناس يدينون بالذوق الرفيع؛ زوجة النجار الذي ذهب لينصب على جعفر العمدة تشاهد الأبيض والأسود، والملكة صفصف تشاهد الأبيض والأسود، وسيد الأبله يشاهد الأبيض والأسود، حتى الزوجات الثلاث البائسات يشاهدن أفلام اللونين الأنيقين.

أما عن الموسيقى، فلا سلطان غير الزمن الطيب نفسه، جعفر يهيم بأم كلثوم، والناس تغنيها وتدندن معها، حتى الشرير ابن حمادة فتح الله يسمع وأبوه نجاة الصغيرة. وهكذا، يرسل محمد سامي مخرج العمل تحيته إلى نوع ما يدين به من فن. ببساطة، وبضمير مرتاح، يحقق سرديته المتخيلة عن نفسه.

الحياة سهلة

فالمخرج الذي كتب قصة المسلسل وحواره، نزع منه الدراما تمامًا، ليسهل الطريق على متلقيه رأفة به من إنهاك نهار صيام طويل. لكنه لم يعدم التشويق، كل حلقة تغلق على ساسبنس من العيار الثقيل. ولكنه، رأفة أيضًا بالمشاهد الطيب، لا يمد التشويق على استقامته، ينهيه في بداية الحلقة التالية على حل بسيط جدًا.

فالحياة سهلة، رغم سوء ظن جعفر العمدة بها وشكه في أنها لن ترسل له ابنه في تاكسي. فبلال شامة يكت في اللحظة الأخيرة قبل أن يمسك به جعفر، كل مرة. ربما لأنه لو عثر عليه من البداية كان سيخبره أن ابنه قُتل فيعقد البحث ويعقد الأمور، لذا يمنحه سامي الفرصة ليس ليهرب وإنما ليعرف أن عبد الجواد العمدة لا يزال حيًا يرزق، وأم سيف، التي أبقت الطفل المخطوف رفقتها وربته، تموت في منتصف المسلسل، حتى لا تعقد الأمور على ابنها وتتركه لمشاعر مختلطة بين الكراهية والشفقة عندما يكتشف حقيقة أنها أخفت عنه سر معرفتها بهوية أبيه الحقيقي.

وفوق ذلك كله، تعلم سامي من أخطاء الماضي، فمسلسله السابق نسل الأغراب، كانت به ثغرة معيبة؛ يتكلم الجميع عن "العركة الكبيرة" التي كانت السبب في الشقاق بين عساف الغريب وابن عمه غفران الغريب أيضًا، دون أن نعرف حكاياتها وأسباب اندلاعها من الأساس. ولكنه في "جعفر العمدة" يثبت منذ الحلقة الأولى، عبر الفلاش باك، الشقاق الذي وقع مع عائلة فتح الله الملاعين. صحيح أنه لم يوضح حتى الآن، ونحن في منتصف المسلسل، دوافع تلك الكراهية التي يكنها أبناء تاجر الذهب تجاهه، ولكنه على الأقل حكى قصة "العركة" هذه المرة.  


أما محمد رمضان فيحقق من ذلك العمل طموحه الفني، كنجم جريء، لا يعبأ بتقدم الزمن، ويؤدي بينما هو في الرابعة والثلاثين من عمره دور كهل في الخامسة والأربعين على الأقل، ببعض الشعر الأبيض الذي زين به الماكير ذؤابته وسوالفه. رغم ذلك لا يزال شبحًا، يدخل الخناقة مثل أي عيل في منطقته لم يتخطَّ العشرين، ويعلّم بسهولة على شاب من طبقة عليا، جاء يمسك كلبًا وجنزيرًا ويجر زميليه مثل مراهقي الثانوية العامة ليقتصوا من العيال اللبط الشُضلية الذين يمثلهم جعفر وزمرته، فيوقع به الأخير ويمرمغ به أسفلت السيدة زينب، مدينة الله الفاضلة، الأجمل من أي كومباوند.

يدرك "الأسطورة" كذلك عبر أدائه التمثيلي المتفرد مناطق أدائية جديدة ربما لم يطرقها غيره، ويثبت أن لرقبة الإنسان عضلات يمكن للفنان أن يستخدمها، ففي كل تأثر يلم به يحرك رقبته من أعلى لأسفل مثل غيار فتيس السيارة المانيوال، وكأنه يكتم الغيظ في نفسه، ويقول "همم" عميقة تشعر بألمها في رقبتك.

رمضان في ذلك العمل الفني المميز، يثبت أنه لا يستطيع تقليد الفنان الراحل أحمد زكي فقط، وإنما نور الشريف أيضًا، فيتزوج مثله في عائلة الحاج متولي أربعة، ويعلي عليه، حين يعترف منذ البداية أنه ربما لا يكون عادلًا بينهن، وأن النساء الأربع الجميلات يتعلقن به دون أي دافع ولا يملكن أي شخصية من دونه، على عكس زبيدة وأمينة ونعمة الله ومديحة وألفت زوجات الحاج متولي.

ورغم أنه مثل الحاج متولي، بدأ معتمدًا على ثروة غيره فنماها وصنع ثروته الخاصة، فإنه أكثر منه وعورة وذكاءً، يعمل في اللا شيء تقريبًا فيصبح أغنى شخص في العالم. فلا تجارة واضحة يديرها ذلك المكتب الذي يتوسط الشارع الواسع في حي السيدة زينب ويجلس فيه جعفر بين الصبح والمغرب قبل أن يذهب إلى كباريه، من أيام الزمن الجميل، في وسط البلد.


دراما لأولي الأبصار

كل ذلك يمنح المشاهد الفرصة ليحقق هو نفسه سرديته المتخيلة عن ذاته، عندما يشاهد بأم عينه، شخصًا متواضع التعليم، من حي شعبي، يلبس الجلباب والبدلة على السواء، وخايل فيهما الاثنين، أدرك ثروة مكنته من ذل أولاد الذوات، الذين لا يقدرون على شقاء السجن ويموتون فيه كمدًا، يتزوج أربعة لأنه حقه الشرعي، ويعيش بينهم مثل شهريار، فيذل الست ويهينها لأن ذلك تمامها، ثم لا ينطق عن الهوى، فكل حديثه حكمة ورأفة وإكبار لأمه، وأي أم أخرى، ولأخيه سيد الأبله، ولخاله الجشع البخيل ولأبناء السبيل وقطط الشوارع، و"يستر ما يفضحش"، وينفرد وحده بالمأساة، فرغم أن أخاه عقيم لم يرزق بالأطفال من الأساس، فإن أحدًا في العمل لم يألم لغير جعفر العمدة الذي فقد ابنه الوليد، ولهمّه الذي تنوء الجبال عن حمله. 


في مسلسل طيب مثل هذا، ليست ثمة عقد نفسية مركبة، فثريا المكلومة مصابة بداء السرقة ليس كرد فعل على فقدانها الابن، وإنما لأنها جعانة ومن أسرة وضيعة اعتادت الخطف والشحاتة ولم تشفها، ولن تشفيها، الحياة الرغدة في بيت جعفر. لأنها "صغيرة قوي" وديل الكلب لا يعدله قالب الطوب كما هو معلوم بالضرورة.

الفن المحرض يفرق لا يجمع، أي أنه يمنح الإنسان شعورًا بفردانيته، لكنَّ "جعفر العمدة"، عمل ودود، خلاق، يبث شعورًا جمعيًّا يئن لعاطفته الجمهور، بينما تدور العبرة الحياتية خفيفة ومؤثرة تجلب الدموع والتأسي من مشهد إلى آخر، ليعتبر بها أولو الأبصار، فالطفل الضائع من أمه وأبيه، يقابل كليهما ويستعديهما في البداية، ثم ما يفتأ أن يصير صديقًا لهما. تطبخ له أمه دون أن تعرف أنه عبد الجواد، ويصاحبه أبيه، دون أن يعرف أنه عبد الجواد، وربما ستلتقي به جدته الملكة صفصف دون أن تعرف أن ذلك الشاب ذا التسع عشرة سنة هو حفيدها، الذي يحمل اسم حبيب عمرها عبد الجواد.

ورغم ذلك كله، ربما، لن يفجع المشاهد رؤية المخرج يقتل سيف/عبد الجواد في الماستر سين الأخير من العمل، وقبل دقائق قليلة من معرفة جعفر بحقيقة نسبه إليه، لتكون تلك العبرة الكبرى، التي ربما رغم سهولة الحياة، ستتصالح مع خبرة جعفر عنها، لأنه لا ينطق عن الهوى، ويعرف كل شيء مثل إله المعتزلة، ولا يحتاج الأيام ليراكم معارف جديدة. ربما سيموت الولد الذي قضى أبوه حياته يبحث عنه وهو إلى جواره، فقط لتثبت الحياة إنها "مش هتجيب له ابنه في تاكسي".