تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
غسان الدهيني قائد ما يُعرف بالقوات الشعبية، وهي ميليشيا مناوئة لحماس تسيطر على شرق رفح الفلسطينية بدعم إسرائيلي

غسان الدهيني.. رأس منبوذ لميليشيا بحبل سري إسرائيلي

منشور الاثنين 15 كانون الأول/ديسمبر 2025

في مشهد سينمائي وسط ركام مدينة رفح، ظهر غسان الدهيني في استعراض عسكري، محاطًا بملثمين ومدججًا بأسلحة، مرتديًا زيًا عسكريًا وهو يتفقد تشكيلًا من المقاتلين، ليقدم نفسه في صورة "الرجل القوي" الجديد بعد مقتل ياسر أبو شباب قائد ما يدعى "القوات الشعبية".

خلف الصورةِ، يقبع تاريخ شخصي شديد الاضطراب والتعقيد لرجلٍ يراهن عليه الاحتلال اليوم لملء الفراغ الأمني، وتُدرجه "حماس" على قوائم المطلوبين لديها، بدأ مسيرته ضابطًا في الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية، ثم مقاتلًا في صفوف تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، لينتهي به المطاف "مرتزقًا" ينفذ أجندة الاستخبارات الإسرائيلية.

تُجسد سيرة الدهيني المفارقةَ الأكثر خطورةً في سيناريوهات اليوم التالي للحرب؛ رهان إسرائيلي على الفوضى عبر إعادة تدوير شخصيات ذات خلفيات متطرفة، وتحويلها من "أعداء عقائديين" إلى "وكلاء محليين"، في مقامرة تهدد بإغراق القطاع في حرب أهلية دموية.

سيرة الفوضى والدم

وُلد الدهيني في أكتوبر/تشرين الأول 1987 بمحافظة رفح في قبيلة الترابين، وهى القبيلة نفسها التي ينتمي إليها أبو شباب، ونشأ في بيئة متواضعة، منهيًا تعليمه الثانوي بمعدل متدنٍ. إلّا أن مسيرته ذهبت بعيدًا.

بدأ حياته عنصرًا في أجهزة أمن السلطة الفلسطينية قبل عام 2007 كما يعرِّف نفسه على حسابه على فيسبوك، قبل أن ينضم إلى جيش الإسلام، الجماعة السلفية الجهادية التي تأسست بين عامي 2005 و2006 في غزة، وكانت على توافق مع حماس حتى عام 2007، وقادها منذ عام 2015 ممتاز دغمش، المدرج على قائمة الإرهاب الأمريكية، الذي اشتهر باختطاف الصحفي البريطاني ألن جونستون، واتهمه حبيب العادلي وزير الداخلية في نظام مبارك بتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية وهو ما نفاه التنظيم وقتها.

لم يكن التحول من ضابط أمن إلى جهادي نهاية المطاف لغسان، فسجلات الأمن في غزة تكشف عن تورطه في أعمال تهريب وتنسيق مع ولاية سيناء التابعة لداعش أيضًا لتنفيذ عمليات إرهابية في سيناء، ثم بعد ذلك فُصل من تنظيماته السابقة على خلفية قضايا أخلاقية شائكة، واعتقلته أجهزة أمن غزة مرتين (2020 و2022) بتهم جنائية.

على الصعيد الشخصي، يعيش الدهيني حياةً مفككةً، فهو منفصل عن زوجته، ويقيم بعيدًا عن أبنائه الثلاثة، كما انتحر شقيقه في السجن عام 2018. هذه "الهشاشة النفسية" والنبذ الاجتماعي حوّلتاه إلى هدف مثالي لأجهزة الأمن الإسرائيلية الباحثة عن عملاء جدد في غزة، فوجد في العمالة مخرجًا لتفريغ رغباته الانتقامية واستعادة "سلطة وهمية".

في إطار جهودها لإخراج حماس من غزة خلال حرب 2023-2025، بدأت إسرائيل التقرب من عائلة دغمش. وفي مارس/آذار 2024، اقترح الجيش الإسرائيلي تسليحها لتحدي حكم حماس تحت مسمى تأمين وحماية قوافل المساعدات الإنسانية، ثم بعد ذلك تأمين مشروع تجريبي لتوزيع الأغذية في شرق رفح.

وذكرت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشين بيت) هو من جند مجموعة أبو شباب ضمن ما سُمي "المشروع التجريبي"، حيث نصح رئيسه رونين بار، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بتجنيد المجموعة وتسليحها.

يقر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن حكومته عملت فعليًا على تسليح مجموعات عشائرية فلسطينية مناوئة لحماس، في مسعى صريح لخلق "بديل محلي" لسلطة الحركة المتآكلة. وكان الدهيني مسؤولًا  عن تجنيد عملاء سريين للمساعدة في مواجهة سيطرة حماس على توزيع المساعدات. 

كما يرتبط غسان بالعمل لصالح إسرائيل، فإن تقارير عدة ربطته بالعمل لصالح الإمارات وحصول ميليشيا "القوات الشعبية" على تمويلات ودعم مالي.

وتسيطر على غزة الفصائل التقليدية بتنوعها الأيديولوجي؛ حماس، والجهاد، وفتح، والجبهة الشعبية، وتحافظ على تماسك جبهتها القتالية ضد الجيش الإسرائيلي، لكن في عام 2024 بدأت تظهر  كيانات مسلحة جديدة بصبغة عشائرية ومناطقية.

تضم هذه التشكيلات، التي تُصنّف محليًا كقوى مدعومة إسرائيليًا، مجموعات تحمل مسميات مثل "القوات الشعبية" بقيادة ياسر أبو شباب، والقوة الضاربة بقيادة حسام الأسطل، إضافة إلى مجموعات يقودها أشرف المنسي ورامي حلس. ويُقرأ صعود هذه الأسماء مؤشرًا على مساعٍ لهندسة بدائل أمنية محلية تهدف لمنافسة سلطة الفصائل التاريخية وملء الفراغ الأمني الراهن.

ويسعى الدهيني لإنشاء منطقة منزوعة السلاح (سلاح حماس وباقي العشائر) في المنطقة الخاضعة لسيطرته، شرق رفح قرب معبر كرم أبو سالم، وهو المعبر الوحيد الذي تسمح إسرائيل حاليًا بدخول المساعدات الإنسانية عبره إلى غزة، لإنشاء منطقة آمنة للمدنيين الذين "يؤمنون بالسلام".

الوريث "الأكثر وحشيةً"

بينما كان ينظر إلى سلفه ياسر أبو شباب باعتباره تاجر مخدرات هاربًا وجد في الاحتلال ملاذًا، يرى الدهيني نفسه شخصية "سياسية" وخصمًا أيديولوجيًا لحماس. هذا الاعتقاد جعله يطمح للقيادة حتى في وجود أبو شباب مستندًا إلى أقدميته فهو أكبر سنًا ولديه تجربة تنظيمية سابقة.

وبمجرد مقتل أبو شباب، سارعت القناة 12 العبرية لتقديم الدهيني بديلًا "أكثر حدة وجرأة". وفي أولى مقابلاته مع الإعلام الإسرائيلي، لم يخفِ الدهيني ولاءه المطلق للأجندة الإسرائيلية، قائلًا "كيف أخاف من حماس وأنا أحاربها؟ أعتقل رجالها وأصادر معداتها. نحن نهيئ منطقة منزوعة السلاح للمدنيين".

تصريحاته هذه تؤكد انخراطه الكامل في مشروع الفقاعات الأمنية، وهي خطة إسرائيلية تهدف لخلق جيوب إدارية في غزة تحكمها عشائر أو ميليشيات محلية، بعيدًا عن سيطرة حماس أو السلطة الفلسطينية.

وفي يونيو/حزيران الماضي، ذكر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أن غسان الدهيني "مسؤول عن تجنيد عملاء سريين للمساعدة في مواجهة سيطرة حماس تحت إشراف الجيش الإسرائيلي".

لعل الأخطر في صعود الدهيني هو ساديته التي يمارسها علنًا، وتكشف وثائق وشهادات حية حصلت عليها جهات حقوقية وصحفية، بما في ذلك صحيفة قدس، عن تورطه في إعدامات ميدانية بحق مدنيين من عائلة أبو سنيمة في رفح.

لم يكتفِ الدهيني بالقتل، بل نشر بنفسه صورًا "صادمة" تستنسخ بوضوح ممارسات تنظيم "داعش" في أوج توحشه، تتم هذه المرة بسلاح وبتغطية من الجيش الإسرائيلي "النظامي" مما يدين "القوات الشعبية" وجيش الاحتلال بـ"جرائم الحرب" الموثقة.

نشاط رقمي مناوئ لحماس  

رغم قصر عمر حساب الدهيني على فيسبوك (دشنه في فبراير/شباط الماضي) فإنه تحول إلى منصة بث مكثفة لأفكار مناوئة لحماس والتنظيمات الإسلامية المسلحة بشكل عام، حيث نشر 40 مقطع فيديو حققت مجتمعة أكثر من مليون و58 ألف مشاهدة.

يرتكز المحتوى الذي يقدمه الدهيني على مهاجمة حركة حماس، ويظهر تبنيه خطابًا يتقاطع مع الرواية الإسرائيلية؛ تارة عبر الترويج لمزاعم استخدام حماس للمدارس قواعد عسكرية، وتارة أخرى عبر الاحتفاء الضمني أو العلني بعمليات اغتيال طالت عناصر الحركة.

من أبرز المنشورات صورة لأحمد ياسين وخالد مشعل وحسن نصر الله، ووصفهم بـ"أحذية المشروع الإيراني في صورة.. نخالة التبن ومشعل الموساد والعطيلة ياسين الظروف الآن بهلاكهم أكثر ملائمة نحو الاستقرار وانتهاء الوصاية الفارسية الرافضية على القضية الفلسطينية بالقضاء على أرخص أدواتها". 

كما تفاعل حساب الدهيني بشكل حاد تجاه قادة حماس واستخدم صورهم، مع كتابة النص القرآني "إِذ تَبَرَّأَ الَّذينَ اتُّبِعوا مِنَ الَّذينَ اتَّبَعوا وَرَأَوُا العَذابَ وَتَقَطَّعَت بِهِمُ الأَسبابُ..."، كما نشر صورة لمحمد الضيف مكتوب على رأسه كافر وتعليق الأعور  الدجال.

القبيلة تتبرأ: "ليس منا"

رغم محاولة إسرائيل إضفاء طابع عشائري على هذه الميليشيا عبر ربطها بقبيلة الترابين، فإن القبيلة سارعت لقطع الطريق على هذا المخطط. في بيانات متعددة، أعلن وجهاء الترابين البراءة التامة من ياسر أبو شباب وغسان الدهيني، رافعين الغطاء العشائري عنهم، ومطالبين بالقصاص منهم.

ورغم إعلان وسائل إعلام عبرية مقتل ياسر أبو شباب وآخرين في كمين نفذته حركة حماس في رفح، قالت قبيلة الترابين في قطاع غزة إن مقتل ياسر أبو شباب على يد شباب من القبيلة مثّل بالنسبة لأبناء الترابين "نهاية صفحة سوداء لا تعبّر عن تاريخ القبيلة ولا عن مواقفها الثابتة. وتعتبر القبيلة أن دم هذا الشخص، الذي خان عهد أهله وتورط في الارتباط بالاحتلال، طوى صفحة عارٍ عملت القبيلة على غسلها بيدها وبموقفها الواضح".

هذا الرفض المجتمعي يضع الدهيني وميليشياته في عزلة قاتلة؛ من ناحية هم لا يملكون حاضنة شعبية، ويعتمدون في بقائهم حصريًا على الحماية الإسرائيلية المؤقتة، ومن ناحية هزَّ مقتل أبو شباب معنويات هذه المجموعات، وبدأ أفرادها يدركون أنهم مجرد "وقود" في محرقة الاحتلال، وأن نهايتهم قد تكون برصاصة قنص أو بانسحاب الغطاء الإسرائيلي عنهم فجأة فشعروا في تسليم أنفسهم لحماس.