تصميم: أحمد بلال - المنصة، 2025
يتجاوز الصراع بين خليل الحية وخالد مشعل على رئاسة حركة حماس في أعقاب طوفان الأقصى وتبعاته الاستحقاق الانتخابي المعتاد، ليشكل مستقبل المقاومة المسلحة في فلسطين.

مصادر خاصة تكشف لـ المنصة كواليس الصراع بين "براجماتية مشعل" و"بندقية الحية" على قيادة حماس

يناير 2026.. "شورى الحركة" يوجه بوصلة العلاقة مع إيران ومستقبل السلاح والمقاومة

منشور الأحد 28 كانون الأول/ديسمبر 2025

في لحظة سياسية مأزومة تعيشها حركة حماس منذ اغتيال إسماعيل هنية ثم يحيى السنوار في أكتوبر/تشرين الأول 2024، كشفت مصادر قيادية بالحركة تحدثت إلى المنصة أن مجلس الشورى العام لحماس دُعي لعقد اجتماع طارئ لانتخاب رئيس جديد للمكتب السياسي، في محاولة لجبر الصدع الذي يضرب الحركة، وحسم الخلاف على قيادتها بين تيار يتزعمه خالد مشعل من خارج غزة وآخر يفضل القيادة من داخل القطاع؛ خليل الحية.

غير أن الاجتماع الذي كان مقررًا عقده خلال ديسمبر/كانون الأول الجاري أُرجئ إلى مطلع يناير/كانون الثاني 2026 بسبب تعقيدات لوجستية وأمنية أثرت على مسارات التواصل بين القيادات.

وتوافقت المصادر الأربعة التي تحدثنا معها، كل على حدة، على أن عددًا من أعضاء المكتب السياسي (المجلس التنفيذي) سمّوا خالد مشعل مرشحًا لشغل منصب الرئاسة، بينما رشحت قيادات غزة خليل الحية للمنافسة على المنصب.

هذه الترشيحات جاءت وسط استقطاب حاد داخل الحركة بين تيار "الخارج" الذي يتزعمه مشعل برؤيته التي توصف بالبراجماتية وتسعى لاستعادة العلاقات مع المحور السني، وبين تيار "غزة" الذي يمثله الحية رئيس قطاع غزة، ونائب السنوار سابقًا، الذي يتمسك بنهج يمكن تسميته بـ"السنوارية"، يرتكز على التحالف مع إيران.

ويلفت الأربعة الذين تحدثوا إلى المنصة شريطة عدم نشر أسمائهم، وهم عضوان في المكتب السياسي لحركة حماس، وثالث مقرب من أحد أعضاء المكتب، ورابع عضو بمجلس الشورى، إلى أن لائحة الحركة الداخلية تقوم على مبدأ "التزكية"، ولا تجيز ترشح القيادات بأنفسهم إلى المناصب العليا، الأمر الذي يجعل موازين القوى داخل التكتلات التنظيمية عاملًا حاسمًا في توجيه مسار التصويت واختيار القيادة.

يعنى هذا أن القيادات لا تترشح، بل يتولى أعضاء مجلس الشورى المنتخبون، وعددهم غير معلن، تسمية المرشح الذي يرونه الأجدر برئاسة المكتب السياسي، ويتم ذلك يوم الانتخاب نفسه.

وتخضع انتخابات حماس للائحة داخلية سرية ومعقدة، وتجرى بشكل دوري كل أربع سنوات، وكان من المفترض أن تبدأ في مارس/آذار 2025 وتنتهي في أغسطس/آب من العام نفسه.

تعتمد الانتخابات على التصويت من قواعد الحركة لتشكيل كيانات محلية من الشُعب للمناطق، حتى مجالس الشورى المحلية، لينتخب من بينهم مجلس شورى عام للحركة. ومن ثمَّ يختار هذا المجلس رئيس الحركة بأصوات لا يجب أن تقل عن 50%+1.

وتتشكل الحركة وفق لائحتها الداخلية من ثلاثة أقاليم: غزة، والضفة، وإقليم الخارج. وتضاف لها أصوات من الأسرى في السجون الإسرائيلية، التي تحتسب صوتًا إضافيًّا للضفة.

لكن استمرار الحرب واغتيال عدد كبير من القيادات في الداخل والخارج حالا دون إجراء الانتخابات في موعدها وأثّرا على مجرياتها.

إدارة الفراغ

تعيش حماس أطول فراغ قيادي في تاريخها، على خلاف ما تنص عليه لوائحها الداخلية، إذ إنه منذ اغتيال السنوار لم تنتخب الحركة قائدًا جديدًا لها. وحسب اثنين من المصادر، أحدهما عضو في المكتب السياسي، والآخر مقرب من عضو آخر بالمكتب، تُدار الحركة عبر لجنة قيادية مؤقتة كانت تُعرف باسم "الخماسية"، قبل أن يُضاف إليها قيادي سادس.

أعضاء هذه اللجنة هم محمد إسماعيل درويش رئيس مجلس الشورى العام للحركة، وخالد مشعل رئيس إقليم الخارج، وخليل الحية رئيس الحركة في غزة ورئيس لجنة التفاوض، وزاهر جبارين مسؤول إقليم الضفة، ونزار عوض الله وهو أحد القيادات التاريخية في غزة. وانضم إليهم مؤخرًا موسى أبو مرزوق نائب رئيس إقليم الخارج.

بينما ينفي المصدر العضو بمجلس الشورى انضمام أبو مرزوق إلى المجلس الخماسي، قائلًا إن رفض أبو مرزوق جاء على خلفية مخالفة لائحة الحركة بتشكيل "الخماسية".

وأجمعت المصادر الأربعة على أن الحركة أجرت ترميمًا لهيئاتها التنظيمية في غزة عقب قرار وقف الحرب في أكتوبر الماضي، حيث انتخبت مجلس شورى ومكتبًا تنفيذيًّا جديدين لقطاع غزة في حدود المتاح أمنيًا، وكشفت نيويورك تايمز عن تولّي عز  الدين الحداد، قائد لواء غزة وعضو المجلس العسكري المصغر لكتائب القسام، قيادة الجناح العسكري خلفًا لمحمد الضيف.

الرسالة التي أشعلت الخلاف

على الرغم من امتداد التوتر تاريخيًا بين جناحي حماس في غزة والخارج داخل البنية التنظيمية للحركة، فإنّ التصعيد الأخير يمثّل سابقة لم يخرج مثلها للعلن من قبل. عبر حملات منظمة على السوشيال ميديا انتقلت الخلافات من الغرف المغلقة إلى الفضاء العام، ما يعكس عمق الشرخ داخل البنية القيادية.

وشنت عدة حسابات على إكس حملة لاذعة ضد مشعل، وصفته بأنه "تاجر قضايا في تاريخ النضال الفلسطيني"، وشككت في سجله المالي والسياسي. وتصدر هذه الحملة حساب باسم خالد منصور.

وفي المقابل، دافع عن مشعل حساب على إكس يحمل اسم العصفورة، متهمًا قيادات غزة بالانسياق الكامل خلف النفوذ الإيراني، واصفا إياهم بـ"عصابة الضرار". 

وأمام اتساع نطاق السجال غير المسبوق، اضطرت القيادة إلى إصدار بيان رسمي نادر، حذَّر من الانجرار وراء هذه الحملات، ودعا كوادر الحركة إلى ضبط الخطاب. وهو ما اعتُبر اعترافًا بوجود أزمة عميقة في البنية التنظيمية الداخلية.

وحسب مصدرين، أحدهما عضو في المكتب السياسي والآخر مقرب من عضو بالمكتب، فإن خروج الخلاف إلى العلن أعقب رسالة داخلية بعث بها عز الدين الحداد القائد الجديد لكتائب القسام في غزة، في سبتمبر/أيلول الماضي، إلى قيادات الحركة في الدوحة، دعاهم فيها إلى الإسراع باختيار قائد جديد. ورشَّح، وفق المصدرين، ست شخصيات لهذا المنصب، مع تفويض قيادة الخارج باتخاذ ما تراه مناسبًا لوقف الحرب.

وتطابقت شهادات المصادر الأربعة التي تحدثت إلى المنصة بشأن الرسالة وفحواها، وترتيب الأسماء الواردة فيها كالتالي: خالد مشعل، موسى أبو مرزوق، محمد إسماعيل درويش، زاهر جبارين، نزار عوض الله، وخليل الحيّة.

وذكر المصدر المقرَّب من أحد أعضاء المكتب السياسي أن عددًا من قيادات الحركة اكتشفوا لاحقًا قيام أحد العناصر الاستخباراتية المسؤولة داخليًا عن قنوات الاتصال بحجب الرسالة وتعطيل تمريرها، الأمر الذي دفع عز الدين الحداد إلى المغامرة بفتح قنوات تواصل بديلة.

وقال عضو المكتب السياسي الذي تحدث لـ المنصة إن الحداد أرسل الرسالة عبر قنوات مختلفة، مضيفًا أن نصّها يشير إلى عدم وجود "فيتو" من جانب القسّام على الأسماء المقترحة، مع التشديد، بحسب المصدر المحسوب على الجناح الإصلاحي، على "ترتيب ذكرها".

في المقابل، نفى العضو بمجلس شورى الحركة علمه بمسألة تأخر أو حجب الرسالة. وقال، "لقد أُرسلت الرسالة عقب الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قيادات الحركة في الدوحة خلال سبتمبر الماضي، وهو ما استدعى غلق جميع قنوات التواصل مع قيادات الحركة لمدة تجاوزت العشرين يومًا".

وأضاف المصدر نفسه، رغم تأكيده صحة الرسالة، أنه لا يجوز للجناح العسكري أن يتجاوز الكيانات المؤسسية والشورية للحركة لفرض أسماء بعينها على موقع القيادة.

وكان لافتًا أن حسابًا يسمى تجارة الكون، وهو أحد الحسابات الذي تتصدر الهجوم على مشعل، نشر تغريدة مطولة رافضًا مبادرة وقف الحرب وتسليم المحتجزين الإسرائيليين لتل أبيب قائلًا إن عزّ الدين الحداد كان معارضًا لبعض القرارات التي اتُّخذت بعد عملية طوفان الأقصى، ووقع بينه وبين السنوار خلاف غير بسيط حول طريقة إدارة المرحلة.

وأضاف، "نعم، القيادة السياسية لحماس في الخارج رأيها ضعيف، وليس مُلزِمًا مئة بالمئة للقيادة في غزة. ومنذ استشهاد الأخوين السنوار وأبي خالد أو القائد الضيف، تمكّن أبو صهيب (الحداد)، بصفته القائد الأعلى حاليًا لحماس في الداخل، من فرض رأيه بالكامل تقريبًا، وهو من أدار المفاوضات عمليًا".

ولكن معطيات استخباراتية إسرائيلية تنفي مزاعم الخلاف بين الحداد والسنوار، وتشير إلى أن الحداد كان له دورًا محوريًا في عملية السابع من أكتوبر، وكان أقرب إلى المنسّق الميداني لها. ففي السادس من أكتوبر عقد اجتماعات مغلقة مع قادة لواء غزة والشمال، تم خلالها تثبيت خطة الانتشار وتوزيع المهام. كما أصدر أوامر مكتوبة شدّد فيها على أسر أكبر عدد ممكن من الجنود الإسرائيليين ونقلهم أحياء إلى داخل القطاع، باعتبار الأسرى "ورقة الضغط الاستراتيجية" في أي مسار تفاوضي لاحق.

وفي تطور لاحق، كشفت جيروزاليم بوست عن رسالة وجّهها الحداد إلى الحية مطلع سبتمبر، في وقت كانت فيه الوساطة الأمريكية-المصرية-القطرية تدفع نحو اتفاق هدنة جزئية لمدة 60 يومًا. وأكد فيها الحداد أن مقاتلي القسام سيرفضون أي اتفاق لا يتضمن جداول زمنية واضحة وخارطة طريق لإنهاء الوجود العسكري الإسرائيلي في غزة، مؤكّدًا أن هدنة بلا التزام صريح بالانسحاب الكامل لن تكون مقبولة لدى القيادة الميدانية.

كما كشف الحداد في برنامج ما خفي أعظم الذي بثّته قناة الجزيرة في يناير 2025 عن دوره المحوري في عملية السابع من أكتوبر، مؤكّدًا أن جهاز الاستخبارات التابع لكتائب القسام تمكّن من اختراق أحد خوادم وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200 والحصول على وثيقة حساسة تُظهر، بحسب روايته، أن الخطة الإسرائيلية كانت تقوم على شنّ هجوم جوي مباغت يستهدف جميع فصائل المقاومة، يعقبه هجوم بري واسع ومدمّر.

رؤيتان تتجاذبان مستقبل الحركة

لا يبدو الصراع داخل الحركة مجرد تنافس على موقع القيادة، بل يعكس صدامًا بين رؤيتين مختلفتين لمسار مرحلة ما بعد الحرب، وطبيعة الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الحركة في المستقبل. فمن جهة، يمثّل الحية الامتداد الميداني لنهج السنوار، إذ ينطلق من قناعة أن بقاء الحركة في غزة الداخل هو ضمان استمرار حضورها السياسي والتنظيمي، حتى في ظل الخسائر العسكرية. ويرتكز هذا الاتجاه على تثبيت بنية إدارية أمنية داخل القطاع، والحفاظ على هيبة الذراع العسكرية وشبكة النفوذ التنظيمي بوصفهما رافعة الحسم في أي ترتيبات محتملة.

غير أن وجود الحية خارج غزة حاليًا يقلّل من حضوره الميداني مقارنة بالقيادات داخل القطاع.

وفي المقابل، يقدّم مشعل نفسه بصفته ممثل المدرسة السياسية البراجماتية التي تعتمد على إعادة التموضع الخارجي مع رؤية أكثر انفتاحًا على التسويات المرحلية وإعادة بناء العلاقات الإقليمية، خصوصًا مع دول الخليج والمحور السني والولايات المتحدة، مع الحفاظ على الارتباط بإيران.

ويتسم خطاب مشعل بالعقلانية والسعي لتحسين موقع الحركة دوليًا دون تقديم تنازلات مباشرة، غير أنه يواجه اتهامات من التيار الغزّي بمحاولته نقل مركز الثقل من الداخل إلى الخارج.

وقد عكس الظهور الإعلامي الأخير لكل من مشعل والحية التباين الواضح؛ إذ ظهر مشعل في مقابلة تليفزيونية عبر قناة الجزيرة مقدّمًا رؤيته للمرحلة المقبلة، بينما ظهر الحية في اليوم التالي مباشرة في كلمة مسجّلة وُزّعت عبر منصات الحركة، ليعرض خطابًا مختلفًا في اللغة والأولويات. وكأن كلًا منهما يعرض برنامجه الانتخابي.

من خلال تحليل الخطابين يتضح أن المنافسة بين رجل السياسة والعلاقات الدولية؛ مشعل، ورجل الميدان ومحور المقاومة الإقليمي؛ الحية، تنعكس في أربعة محاور أساسية:

سلاح المقاومة

يميل مشعل إلى طرح هدنة طويلة الأمد، من سبع لعشر سنوات، و"تجميد السلاح" أو "إخفائه وظيفيًا" ضمانة لعدم استخدامه، في مقابل إعادة الإعمار. مع رفضه نزع السلاح بشكل كامل، حيث وصف نزع السلاح عند الفلسطيني بأنه "نزع للروح". 

أما الحية فأكثر تشددًا، حيث يركز على أن السلاح "حق مشروع كفلته القوانين الدولية" ما دام الاحتلال موجودًا. ورغم إبدائه الانفتاح على "دراسة مقترحات"، فإنه يربط السلاح بقيام الدولة وتقرير المصير، ولا يتحدث بلغة "التجميد والإخفاء" التي يستخدمها مشعل، بل بلغة "الحق والاستعداد".

التحالفات الإقليمية

يحاول مشعل فك الارتباط بين الحركة ومحور إيران، مؤكدًا أن الحركة لا تتموضع في محور ضد آخر، وأنها منفتحة على الفضاء العربي السني، وقد برز ذلك في احتفائه بسيناريو "سوريا الجديدة".

بينما يظل خطاب الحية وفيًّا لسردية "وحدة الساحات"، مع إبراز الامتنان والتلاحم مع حلفاء المحور، وفي مقدمتهم حزب الله وإيران، وتأكيد امتزاج الدماء ووحدة المصير.

إدارة غزة واليوم التالي

يتحدث مشعل عن "حكومة تكنوقراط" طويلة الأمد لفصل الحكم عن الحركة والتفرغ للمشروع الوطني، مع قبول قوات دولية على الحدود لحماية الهدنة.

أما الحية فيوافق على صيغة "لجنة إدارية مستقلة"، لكنه يطرحها بصيغة التحدي، ويدعو للإسراع بتسليم غزة فورًا على سبيل التعجيز، مع التركيز على رفض الوصاية الخارجية ومجلس السلام المقترح من ترامب، وتقديم الإغاثة ورفع المعاناة كأولوية عاجلة.

الخطاب الموجّه

يوجّه مشعل خطابه إلى المجتمع الدولي والرأي العام الغربي والدوائر الأكاديمية والإعلامية، مستحضرًا لغة القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ساعيًا إلى تقديم الحركة فاعلًا سياسيًّا يمكن التفاهم معه.

بينما يخاطب الحية العاطفة والقاعدة التنظيمية وأهالي الشهداء، مستندًا إلى لغة دينية ثورية، تعززها شرعية الصمود والميدان.

وبهذا يطرح مشعل نفسه قائدًا قادرًا على إنهاء عزلة الحركة عبر تنازلات تكتيكية محسوبة تفتح الطريق للإعمار والانفتاح العربي السني، بينما يقدّم الحية نفسه بوصفه حامل إرث السنوار وامتدادًا لمحور المقاومة، حيث تُستمد الشرعية، وفق رؤيته، من البندقية والصمود الميداني، لا من المناورة السياسية.

مرشّح الوسط

وبينما تنحصر المنافسة، في صيغتها الراهنة، بين جناحين متقابلين يقودهما مشعل والحية، يبرز موسى أبو مرزوق بوصفه ممثل مساحة وسيطة بين قطبين، وإن بدت حظوظه الواقعية في السباق محدودة.

يُعدُّ أبو مرزوق لاعبًا تاريخيًا في البنية التنظيمية للحركة؛ فهو أول رئيس للمكتب السياسي لحماس، وصاحب الدور الأبرز في إعادة تشكيل كياناتها في غزة والضفة عقب اعتقال الشيخ أحمد ياسين عام 1989، حيث دخل غزة سرًّا آنذاك، وأسهم، إلى جانب مؤسسي الحركة، في وضع اللبنة الأساسية لتشكيلاتها المدنية والعسكرية.

اعتُقل أبو مرزوق خلال زيارته الولايات المتحدة عام 1995 لمدة تقارب العامين، وتضمّن قرار الاتهام الأمريكي أنه عمل على تنسيق وتمويل نشاطات حماس داخل الولايات المتحدة وخارجها. الأمر الذي دفع الحركة إلى انتخاب مشعل رئيسًا للمكتب السياسي خلفًا له عام 1996. وهو قرار راكم غضاضات بينه وبين مشعل وبعض القيادات، إذ رأي أبو مرزوق أنه لم يكن ينبغي انتخاب قائد جديد خلال فترة اعتقاله.

ورغم انتمائه مؤسسيًا إلى جناح "الخارج"، فإن تجربة أبو مرزوق الحياتية داخل غزة خلال سنوات شبابه، ودوره في مساندة الشيخ ياسين وإدارة شؤون الحركة في غزة والضفة، منحته موقعًا وسطيًا ورؤية سياسية أقرب إلى الاعتدال. فهو يرى في سلاح المقاومة إحدى أدوات الحركة السياسية إلى جانب أدوات أخرى.

أما فيما يتصل بعلاقة حماس بإيران، فهو يرفض ما يصفه بأجندة طهران للهيمنة على المنطقة، لكنه في الوقت ذاته يقدّر دورها في دعم المقاومة عسكريًا قبل 2012 وماليًا حتى اليوم. دون أن يعني ذلك، حسب رؤيته، ارتهان قرار الحركة لها.

غير أن هذه المساحة الوسطية، وفق تصريحات عضو مجلس شورى الحركة لـ المنصة، لا تمنحه أصواتًا كافية تجعله منافسًا ثالثًا مؤثرًا في هذه المعركة.

الدور الإيراني

على مدى السنوات الماضية، تصاعدت الاتهامات الموجَّهة إلى حماس بشأن تبعيتها لإيران، ومدى تأثير طهران في دوائر القرار السياسي والعسكري للحركة. فخصوم حماس، خصوصًا داخل الإقليم وفي بعض الأوساط الفلسطينية، يرون أن علاقتها بإيران تجاوزت التحالف السياسي والدعم المالي والعسكري، إلى ما يشبه الارتباط البنيوي بمحور إقليمي تقوده طهران، بما يقيّد استقلالية الحركة ويجعل حساباتها الميدانية والسياسية جزءًا من شبكة أوسع لإدارة النفوذ الإيراني في المنطقة.

في المقابل، تؤكد قيادات حمساوية أن العلاقة مع إيران تقوم على "التقاطع في دعم المقاومة" دون ارتهان تنظيمي أو عقائدي، وأن الحركة تظل، وفق هذا الخطاب، فاعلًا فلسطينيًا مستقلًا تحكمه الأولويات الداخلية قبل أي اعتبارات خارجية.

غير أن شهادات المصادر تشير إلى أن الدور الإيراني يمثّل في جوهره أحد محاور الخلاف بين الجناحين المتنافسين على القيادة. وحسب مصدرين تطابقت أقوالهما، أولهما عضو في المكتب السياسي للحركة، والآخر مقرب من عضو آخر بالمكتب، فإن الحركة خضعت، خلال السنوات التي سبقت طوفان الأقصى، لضغوط وتدخلات إيرانية متزايدة، حيث تعاظم نفوذ الضابط في "فيلق القدس" محمد سعيد إيزدي، المعروف باسم "الحاج رمضان"، داخل دوائر اتخاذ القرار في الحركة. حتى بات رمضان، وفق المصدرين، على تواصل مباشر مع قيادات كتائب القسام في الداخل والخارج، وهو ما كان يعد خطًا أحمر خلال رئاسة مشعل للحركة، التي انتهت عام 2017.

ويذكر المصدر المقرب من عضو المكتب السياسي أن الحاج رمضان طلب من قيادة القسام تنحية سمير فندي (أبو عامر)، المسؤول عن عمليات القسام في لبنان، الذي اغتالته إسرائيل لاحقًا إلى جانب صالح العاروري في الهجوم الصاروخي الذي استهدف الضاحية الجنوبية لبيروت في يناير 2024، وذلك باعتباره، وفق توصيفه، محسوبًا على تيار قريب من خالد مشعل.

كما تشير الوثائق التي تزعم إسرائيل إنها عثرت عليها بحوزة قيادات الحركة خلال الحرب، والتي امتنعت حماس عن التعليق على مضمونها، إلى توسّع غير مسبوق في النفوذ الإيراني داخل دوائر اتخاذ القرار، ليس فقط عبر الدعم العسكري واللوجستي، بل عبر السيطرة على مسارات التمويل بوصفها أداة ضغط سياسية وتنظيمية.

وتكشف إحدى تلك الوثائق، المؤرخة في 30 يوليو/تموز 2020، أن إيران حوّلت أكثر من 154 مليون دولار إلى الجناح العسكري للحركة خلال الفترة من 2014 إلى 2020، وأن جزءًا من هذه الأموال كان يُسلَّم مباشرة إلى السنوار داخل غزة، على خلاف النمط المالي السابق الذي كان يمرُّ عبر القيادة السياسية في الخارج.

ويعزِّز هذا ما ورد، وفق الوثائق ذاتها، في مراسلات لاحقة، تفيد بأن طهران أنشأت قناة تمويل موازية تديرها شخصية في فيلق القدس تُعرف باسم "الحاج رمضان"، تُرسل الأموال مباشرة إلى غزة دون علم القيادة السياسية بالخارج.

وفي رسالة منسوبة لإسماعيل هنية موجهة إلى السنوار بتاريخ 24 سبتمبر 2022، يقرّ بأن الإيرانيين أوقفوا عنه التمويل عدة أشهر، وأن ما يصل إلى غزة يأتي عبر تحويلات مباشرة من الحاج رمضان، طالبًا، وفق النص المسرّب، "التعاون لدعم القسام مما يرسله الحاج رمضان مباشرة"، في إشارة لوجود خط تمويل منفصل يتجاوز المكتب السياسي.

بينما تشير وثيقة أخرى إلى أن جزءًا من الأموال الإيرانية كان يُحوَّل إلى غزة عبر دفعات نقدية خاصة، بينما كانت دفعات أخرى تُدار عبر قنوات خارجية يشرف عليها هنية، وهو ما أدى، حسب المزاعم الإسرائيلية، إلى ازدواجية مالية داخل الحركة، وكشف خلافات حول توزيع الموارد والجهة التي تملك شرعية القرار المالي والتنظيمي.

وبصورة عامة، تفيد هذه الوثائق، وفق الرواية الإسرائيلية، بأن طهران لم تعد مجرد داعم للحركة، بل أصبحت طرفًا قادرًا على ترجيح كفة مركز القرار الميداني. وهو ما شكّل، إن صحَّت الوثائق، نقطة تحوّل في ميزان السلطة داخل الحركة خلال السنوات التي سبقت طوفان الأقصى.

تلتزم حماس الصمت حيال كل تلك التسريبات، ويبقى التعامل معها محاطًا بالشكوك حول دوافع نشرها الانتقائي وتوقيته، مما يرجح فرضية استخدامها ذخيرةً إعلاميةً ضمن أدوات الحرب، لصرف الأنظار عن التكلفة الإنسانية الباهظة، وتقديم ذرائع استخباراتية تُشرعن استمرار آلة القتل.

اتصال إيراني ومراجعة الحسابات

ورغم التاريخ المتوتر للعلاقة بين طهران ومشعل، إثر قراره مغادرة سوريا عام 2012 ورفضه الانتهاكات التي ارتكبها نظام الأسد بحق السوريين، أفاد المصدر المقرب من عضو المكتب السياسي بأن الإيرانيين باتوا يدركون حجم الأخطاء التي وقعت خلال السنوات الماضية، ولا سيما ما يتعلق باعتمادهم المباشر على الحاج رمضان في غزة، وتجاوز القيادة السياسية.

وحسب المصدر ذاته، تسعى طهران حاليًا إلى فتح قنوات تواصل جديدة مع مشعل، في خطوة تتسق، وفق تقديره، مع رؤيتها الإقليمية المستجدّة، التي تميل إلى النأي بالنفس عن لهيب الحرب، وبناء علاقات أكثر انفتاحًا مع المنطقة العربية ودول الخليج.

فيما قال عضو المكتب السياسي للحركة إن نقاشًا فُتح مؤخرًا مع الفريق الإيراني الذي تولّى التواصل مع حماس خلفًا للحاج رمضان، مؤكّدًا أن هذا الفريق يتعامل مع الحركة بغضّ النظر عن اسم قائدها، وأن من جانبهم "لا يوجد فيتو ضد خالد مشعل"، خلافًا، حسب المصدر، للمواقف التي عُرفت عن الحاج رمضان في السابق.

واتفق عضو مجلس شورى الحركة قائلًا إن الدول تتعامل مع حماس وفق مصالحها أولًا، ثم وفق قوة تأثير الحركة في الملف الفلسطيني، وعليه فإن الدول لا تغير مواقفها بناء على اسم رئيس الحركة.

عمليًا، يعني هذا التحول الإيراني سحب الغطاء الحصري عن "تيار غزة" المتشدد، ويمنح "تيار الخارج" فرصة لم تكن في الحسبان.

مخاض يناير 2026 

في ضوء هذه المتغيرات المتسارعة، سواء في الميدان أو دهاليز السياسة الإقليمية، لا يبدو اجتماع مجلس الشورى المرتقب في مطلع 2026 مجرد استحقاق انتخابي، بل هو المحطة الأخطر في تاريخ حركة حماس الذي سيحدد هويتها السياسية والعسكرية للعقد المقبل.

فالحركة اليوم لا تختار بين اسمين؛ مشعل أو الحية. بل تفاضل بين مشروعين متناقضين بات لكل منهما ظهير ودافع: "إعادة التموضع" وبناء الجسور لضمان البقاء السياسي، مقابل "التمترس الميداني" الذي يرى في استمرار الاشتباك خيارًا وجوديًا لا رجعة عنه.

وبين الضغوط الداخلية والتحولات الإقليمية، يبقى السؤال: هل تنجح براجماتية الخارج، التي صارت مدعومة بمرونة إقليمية مستجدة، في إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ أم تفرض شرعية البندقية كلمتها من تحت أنقاض غزة؟