الخفة التي نحتاجها.. للأسف
قبل ساعات من بدء الاقتراع في انتخابات رئاسة الحكومة الإيطالية الأخيرة، ظهرت مرشحة اليمين المتطرف جورجا ميلوني التي ستنال المنصب لاحقًا، في فيديو تيكتوك، لتربط بين مسألتين؛ الحجم الكبير لصدرها، ولقبها "ميلوني"، الذي هو اسم الجمع لفاكهة الكنتالوب/البطيخ الأصفر. حملت بيديها ثمرتي كنتالوب، أمام ثدييها، غامزة بعينيها لمشاهديها، مذكرةً إياهم بتاريخ الاقتراع، 25 سبتمبر/أيلول 2022، مضيفةً جملةً واحدةً "هكذا قلت كل شيء". فكان المعنى الضمني للفيديو هو "انتخبوا صاحبة الثديين المثيرين للاهتمام".
لم تكن المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا النوع من الفيديوهات في سياق عملية تفريغ الخطاب السياسي من محتواه؛ الأفكار والبرامج، لصالح استعراضية تافهة. فموجة صعود اليمين المتطرف عالميًا اعتمدت بالأساس على هذا النوع من "صناعة المحتوى"، مضافًا إليها احتفالية مصطنعة، والكثير من الأكاذيب والشائعات، وبذاءة واتهامات غير موثقة موجهة للخصوم.
استخدم الأدوات نفسها قبل ميلوني دونالد ترامب والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، وسيستخدمها بعدها آخرون. لكن فيديو التيكتوك ذاك كان علامة في مسار الخطابات الجديدة للسياسيين.
ابتسم دائمًا
صناعة المحتوى التافه، ومخاطبة الغرائز والمشاعر الأكثر سهولة في الإثارة، وصولًا لتباهي السياسي/السياسية بالسطحية أو الجهل، اعتمدها منذ اللحظة الأولى اليمين الفاشي الأوروبي والأمريكي واللاتيني أدواتٍ أساسيةً للوصول للسلطة، أو استعادتها. بالذات بعد موجة التغيير الواسعة، يسارية الهوى، بداية العقد الثاني من الألفية، ممثلة في حركات مثل 15 مايو الإسبانية، واحتلال وول ستريت، وغيرها.
الموجة التي اعتمدت على محاولة تبسيط الخطابات اليسارية التقليدية، واللجوء أحيانًا لخطابات بها بعض الشعبوية، واستخدام لغة جديدة لم تعتدها "الجماهير" العابرة للطبقات والأجيال، الموجه إليها الخطاب اليساري الجديد. لكن، بوجوه غاضبة، وصوت زاعق.
قبل أكثر من عشرة أعوام، كان بابلو إجليسياس، مؤسس وزعيم حركة نستطيع، الذي وصل بحركته للبرلمان، وتمكن من أن يصبح أول شيوعي يشغل منصب نائب رئيس الحكومة الإسبانية، من أبرز الوجوه المعبرة عن هذا الموديل اليساري الغاضب، المشخصن للصراع السياسي، والمعتمد على ما نسميه الآن بصناعة المحتوى.
الغضب الدائم لموديل إجليسياس، مع اختلاف الأسماء والجنسيات والهويات الجندرية بعد تحوله لموديل عالمي، وطريقته في خلق صورة للشيوعي الجذري، العبقري، ومهاجمة الخصوم بحدة ووضوح، لدرجة أن يبدو أحيانًا وكأنه يوبخ مشاهديه ومستمعيه، وليس فقط خصومه وأعداءه السياسيين، لم يعد مناسبًا أمام كانتالوب ميلوني، والرقصات المبتذلة لترامب وتباهيه كذكر، والصرخات الهستيرية لرئيس الأرجنتين ميلاي، وتنكره الرديء في صورة مغني روك آند رول، مقدمًا فوق خشبة المسرح استعراضاته، حاملًا منشارًا كهربائيًا لتمزيق خصومه، وتدمير كل السياسات ذات الصبغة الاجتماعية.
يبدو، وأغامر بهذا التصور، ولذلك أضع تعبير "يبدو" في بداية الفقرة، أن تفاهة اليمين، واستعراضاته، وكرنفاليته، وفيديوهاته المعبئة بابتسامات وضحكات في أغلبها مفتعلة، وقدرته على جذب وتحريك قطاعات واسعة من الشباب، ألهمت قطاعات من اليسار لاستخدام أدوات شبيهة، منزوع عنها غضب نماذج بابلو إجليسياس من رجال ونساء. لتصبح جاذبية المحتوى المقدم في الفيديوهات، ودرجة "فرقعتها"، ونزوعها لخطابات شديدة التبسيط، وأحيانًا السطحية، أهم من المضامين في مخاطبة "جماهير" تبحث عن بطل، وتكره في أغلبيتها الكاسحة القراءة، والتفكير، والتأمل، وتربطها بالملل.
إنها الأدوات التي نجد ظلالًا منها في مسيرة زهران ممداني خلال الشهور الأخيرة، كإنفلونسر بالأساس؛ الكثير من الاستعراض، والابتسامات، والضحكات، والمواقف الطريفة، والسخرية من نفسه في فيديوهات قصيرة، تصل ربما لدائرة المديوكر، مع لمسات جذابة بصريًا من صنع زوجته الفنانة التشكيلية، والمتخصصة في التصميم والدعاية، راما دوجي. وهو الخليط الذي تمكن من لفت انتباه جمهوره من الناخبين ووسائل الإعلام، المرعوبين من درجة قمعية وفساد اليمين المتطرف، والباحثين عن بديل عاجل له.
الفرادة، أو طرافة المواقف التي تسجلها الصور والفيديوهات، تلفت الانتباه، فيعاد إنتاجها إعلاميًا، فتصل لقطاعات جديدة من هذا الجمهور الواسع. إنها الكلمة السحرية لعالمنا الحالي؛ "لفت الانتباه". فالصحافة نفسها، بكل أنواعها، ومنذ أعوام، تبحث عن الفرقعة، عن هذه الجملة التي تلفت الانتباه، تبروزها، تُلَمِّعهَا، لتعيد إطلاقها. إنه أحد العوامل التي تفسر انتشار فيديوهات صناعة المحتوى على اليوتيوب أو أي تطبيق آخر، في عالم محكوم بالإنترنت. فلماذا لا أقوم أنا، بخفة دمي، والجمل الفريدة التي أطلقها بتلقائية، في الحديث مباشرة مع جمهوري القليل، والعمل على توسيعه، لصالحي؟ فستلتقطني وسائل الإعلام الكبرى، وتعيد إنتاجي وتسويقي.
خفة اليمين الضيقة وخفة اليسار المتسعة
سياسيو اليسار الجديد، من أصحاب "الكارير السياسي"، أو الطامحين في سلطة ما، لم يصلوا لصيغة "الخفة" بمجرد تأمل سياسيي اليمين وهوس الصحافة بالبحث عن المانشيتات الجاذبة والغريبة. بل وصلوا لهذه الصيغة بالتوازي والتفاعل مع من يُفترض فيهم أنهم مناضلون، من نفس المعسكر السياسي، اليسار. على النحو الذي أشرت إليه في مقال سابق، وكيف أن حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض دولة إسرائيل تضمنت الكثير من الكرنفالية/الاحتفالية، والاستعراضية، وبعض التفاهة والخطابات المبسطة. وكان كل ذلك ضمن عوامل انتشارها ووصولها لقطاعات جديدة، من دون نفي عامل الغضب.
المديوكر بالتعريف هو الشخص متوسط المستوى، ما يفعله ليس رديئًا تمامًا، وليس جيدًا تمامًا. ما لا تقوله التعريفات المتاحة لكلمة مديوكر أن الخطاب النضالي والسياسي المديوكر/الخفيف هو الأقدر الآن على الوصول للمتلقين المحتملين، للجمهور الطبيعي، في عالم ينفر من بذل الجهد في التفكير والبحث والتأمل.
تكفي بعض الحقائق البسيطة، الملقاة بسرعة وطرافة للجمهور، مضافة إليها ملامح أيديولوجية أو محددات عامة للمعسكر الفكري، اليساري في هذه الحالة، مع جاذبية شخصية، جسدية بالأساس، ليتحقق القبول، بالتالي الانتشار.
لا يعني استخدام الكرنفالية/الاحتفالية سواء من قبل اليمين أو اليسار موت الأيديولوجيا بقدر ما يعني الموت المؤقت لصراع الخطابات السياسية القديم والتقليدي
تأمل مسار ممداني خلال الشهور الماضية، ومن دون وصفه بالمديوكر، لأننا لا نعرف بعد إن كان مديوكر أم لا، يكشف عن وعيه بهذه المسألة. فلم يستخدم أبدًا الوجه الغاضب، ولم يتحدث عن أفكار كبرى، حتى وهو يعلن أنه سيسجن نتنياهو إن دخل مدينته. استبدل الوجه الغاضب بالابتسام والضحكات والقفشات والمفارقات والعبارات اللافتة والساخرة التي ستثبت في ذاكرة المتلقيين، من نوعية "سيد ترامب ارفع الصوت قليلًا".
يدرك ممداني أن جمهوره سيبحث عن صورته مع زوجته، وبأنه سيضعها في ميزان التدقيق والاختبار على مستوى الجاذبية والجمال والأناقة. فيسهل لهم أن يجدوا هذه الصور، ليستهلكوها في سياق لا يُبعد السياسة عن الشخصانية، مستهلكين معها بعض الكبسولات السياسية والفكرية السريعة، في مواجهة الطرف الآخر، المرعب، المتمثل في اليمين المتطرف المتحالف مع أكثر أنواع الليبرالية الاقتصادية توحشًا.
لا يعني استخدام الكرنفالية/الاحتفالية، سواء من قبل اليمين أو اليسار، واللجوء لنغمة التنمية البشرية أحيانًا، السطحية بامتياز، موت الأيديولوجيا، بقدر ما يعني الموت المؤقت، أو النهائي، لا أعلم، لصراع الخطابات السياسية القديم والتقليدي، لصالح صراعات أيديولوجية مخففة/لايت، سهلة وسريعة الهضم.
لا يحتاج اليمين لأكثر من ذلك، فهو معادٍ بحكم طبيعته ومصالحه للتفكير المستقل. لا يحتاج من المواطن إلا أن يضع ورقته الانتخابية في الصندوق ليمكنه من الوصول للسلطة، ليعود بعد التصويت لواقع الاستعباد والنوم الذهني. لكن اليسار إن أراد تغيير العالم، وإن أراد القضاء على أنظمة الاستغلال، وإن أراد القضاء على الصهيونية، يحتاج لتمرد هذا المواطن، يحتاج أن يتحرك، أن يفكر، أن يرفض، أن يقلب الأوضاع، لا أن يجعلها مستقرة.
في أحد مؤتمرات اليمين المتطرف الأوروبي الحاشدة لخصت جورجا ميلوني ذاتها، وبالتالي هويتها وتوجهاتها، قائلة: "أنا جورجا، أنا امرأة، أنا أم، أنا إيطالية، أنا مسيحية، ولا يمكنهم أن يخلعوا عني هذه الأشياء".
بعد هذا الخطاب بعامين، في ليلة انتصاره الانتخابي، قال ممداني "أنا شاب، رغم كل ما بذلته كي أبدو أكبر سنًا، أنا مسلم، أنا اشتراكي ديمقراطي. والأهم من ذلك كله أنني أرفض الاعتذار عن ذلك".
إنها مجرد مفارقة، لا يجب أن تُحمل بأكبر من معانيها بحيث تعني التقاء الطرفين، فهذا غير صحيح. تعني فقط التقاءهم في اللجوء للملخصات الهوياتية، من ناحيتين نقيضتين. فجورجا ميلوني تكرس الأحاديات، حتى وإن طرحت لأنها امرأة لا تتورط في هوية نسوية، بل على العكس تربط بالضرورة بين أن تكون امرأة وأمًأ. وتضيق هذه الأحاديات بأنها إيطالية ومسيحية، فهذا المكان لها ولمن هم مثلها، وفقط. في إعلاء لقيم الوطن والدين كمحددات أساسية، فاشية بامتياز.
على عكس ممداني في خفة تلخيصاته، ممجدًا للتعدد. وتعريفه لنفسه بأنه مسلم في هذا السياق لا يعني طرحه للإسلام كهوية سياسية أو فكرية، مثلما ترى ميلوني مسيحيتها، بل إشهار لطموح أن هذه المدينة التي بناها المهاجرون والأغراب، سيسترد السلطة فيها المهاجرون والأغراب من كل الأجناس والثقافات والمعتقدات.
لا بد من الاعتراف بأن الأجيال الأقدم من جيلي الألفية وزد؛ الأجيال التي اعتادت على القراءة والنضال السياسي المباشر، يصعب عليها فهم حالة "الخفة اليسارية". في الحقيقة نرتاب منها. لكن في مواجهة الفاشية والنيوليبرالية المتوحشة، لا نملك إلا محاولة فهمها، لا إدانتها، تطويرها إن أمكن، دعمها من دون التخلي عن طرح الأسئلة المقلقة حولها.
الأسئلة التي لا يعرف أحد إجابتها الآن؛ هل تكفي الكبسولات الاحتفالية ذات الطابع الخفيف/السطحي للانتقال لواقع جديد لتجاوز زمن الفاشية؟ أم ستفتح الطريق لخطابات وصراعات سياسية واجتماعية حقيقية حين تحين لحظة التحول الحاسمة؛ مواجهة الفاشية في الشوارع والجامعات ومواقع العمل، وليس أمام ميكروفون مثبت فوق منصة أنيقة؟
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.

