من الفسطاط إلى القاهرة.. الامتداد الزمني لـ"السور واللي بانيه"
في يومه العادي، يمر المواطن القاهري غالبًا بأسوار كثيرة أثناء عبوره المدينة من شرقها إلى غربها. وقد يُضطر لعبور أحدها أحيانًا؛ وهو يزور أحد معارفه يعيش في كمباوند، أو إذا توجّه إلى هناك لأسباب مهنية. هذا العبور ليس بالأمر الهيّن؛ مع الإجراءات التي سيُطالَب بها عند كل بوابة من إبراز بطاقة الهوية، أو إجراء مكالمة مع شخص يمتلك امتيازًا لا يملكه، مثل مالك العقار أو ساكنه، ليُسمح له بالدخول.
هذه الطقوس الأمنية لم تعد شيئًا استثنائيًا يلفت الانتباه أو يدعو للتوقف والتساؤل؛ مع امتدادها من الكمباوند إلى الجامعات والمستشفيات والمصالح الحكومية، وحتى الحدائق "العامة". أصبحت البطاقة الشخصية أو الكارنيه أو المكالمة الهاتفية شروطًا أساسيةً لعبور مواطن قاهري عادي إلى فضاءات يُفترض أن تكون متاحة للجميع. وكلما ارتفعت المكانة الطبقية خفّت الأسئلة، وكلما انخفضت اشتدّ الشكّ وتضاعفت الحواجز.
هكذا تحوّلت أجزاء المدينة بالأخص في امتداداتها خلال العقود الأخيرة إلى شبكات من المستعمرات العمرانية المغلقة التي لا تحاول إخفاء ذلك، مع ترجمة أسمائها رسميًا إلى settlements، ليذوب الفارق بين مناطق المعيشة ومستوطنات الاحتلال في الوعي اللغوي والعمراني معًا.
وبينما تعكس هذه الفضاءات بشكل صارخ عمق الصراع الطبقي وإعادة إنتاج الامتياز في صورة عمرانية جديدة؛ اتجه باحثون عمرانيون إلى تأصيل ظاهرة الأسوار تاريخيًا بصورة مُغايرة؛ باعتبارها امتدادًا لظاهرة التسوير التي عرفتها مصر منذ قرون؛ من سور القاهرة الفاطمية إلى أسوار القلاع والقصور.
لكن هذا التفسير "التاريخي" هو تفسير شكلي يغفل السؤال الأهم: هل يمكن أصلًا مقارنة سور الكمباوند الحديث، بوصفه نتاجًا لعلاقات إنتاج رأسمالية متأخرة، بأسوار مدن ودول قامت في سياقات سياسية واقتصادية مختلفة كليًا؟
من الضبط إلى السيادة
في نظريته عن إنتاج الفراغ الاجتماعي، يرى هنري لوفيفر أن هذا الفراغ "ليس وعاءً محايدًا يحتوي النشاط الاجتماعي، بل هو منتَج اجتماعي في ذاته". أي أن الفضاء لا يُفهم إلا من خلال العلاقات التي تولده، كونه يرث علاقات السلطة، والاقتصاد، والسياسة، والصراعات الاجتماعية في السياق الذي أنتج فيه. فـ"الفراغ بطبيعته اجتماعي"، كما يوضح لوفيفر، والعمارة ليست انعكاسًا لهذه العلاقات بل إحدى أدوات إنتاجها.
ومن هذا المنطلق، يصبح من العبث أن نقارن سورين لمجرد أنهما جداران من الحجر؛ فالسياق الذي يُنتِج السور هو ما يمنحه معناه ووظيفته. لأن كل سور هو نتاج لسياقه الاجتماعي والسياسي، حتى أن السور نفسه تتحول وظيفته من عصر إلى آخر بطبيعة الحال مع تغير الصراعات الاجتماعية والسياسية، وبالتالي فالتأصيل السياسي هنا، إذا أغفل التحليل المادي للتاريخ الاجتماعي، هو محاولة للتأصيل لوجهة نظر تُطبِّع في النهاية مع أسوار الكمباوندات.
سور السيادة: القاهرة الفاطمية
لم تكن القاهرة الفاطمية عند تأسيسها في القرن العاشر الميلادي امتدادًا طبيعيًا للفسطاط، بل جاءت كنقيض واعٍ لها. فالفسطاط مع بنائها في القرن السابع كانت مدينة مفتوحة تدور حول التجارة وتقوم على بنية اجتماعية مدنية ومتعددة. لكنَّ مكانتها السياسية تراجعت مع الزمن، إلى أن جاءت اللحظة الفاصلة سنة 1168 حين أُحرقت بأمر الوزير الفاطمي شاور أثناء الحملة الصليبية الثانية كي لا تقع في أيدي الغزاة، فكانت تلك القطيعة التي مهّدت لانتقال مركز الثقل إلى القاهرة الفاطمية.
وتوضح الباحثة سمية حمداني في كتابها Between Revolution and State/بين الثورة والدولة أن تأسيس القاهرة لم يكن توسعًا عمرانيًا وإنما فعلٌ سياسيٌّ تأسيسيٌّ؛ إذ أراد الفاطميون إعلان ميلاد دولة إسماعيلية مستقلة عن العباسيين. وجاء السور المحيط بالمدينة جزءًا من هذا المشروع الرمزي، تجسيدًا ماديًا لفكرة السيادة وحدود الشرعية، لا مجرد تحصين عسكري.
النظر إلى أسوار القاهرة الفاطمية وبواباتها الكبرى مثل باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة يكشف منظومة دفاعية دقيقة: أبراج شاهقة للمراقبة، فتحات لرمي السهام، ممرات داخلية لحركة الجنود، وفتحات لدلق الزيت المغلي على المهاجمين. هذه ليست مجرد تفاصيل معمارية هامشية، لكنْ جزء من عقلية سياسية تدرك أن الدولة الوليدة تحتاج قدرة على الحماية بقدر حاجتها إلى الشرعية الرمزية.
ضخامة السور ودقة تصميمه الدفاعي تعكسان وعي الدولة الفاطمية بأنها مشروع سياسي في طور التثبيت، يحتاج إلى إعلان مادي واضح عن وجوده. لم يكن السور الفاطمي أداةً للعزل الطبقي كما في أسوار الكمباوندات الحديثة، بل حدٌّ سياسيٌّ يؤسس لعالم الدولة مقابل عالم الرعية، وإعلانٌ ماديٌّ عن ميلاد سلطة جديدة قامت على أنقاض ما سبقها.
سور الضبط: القاهرة المملوكية
مع قيام الدولة المملوكية تغيّر معنى السور جذريًا؛ ليصبح جزءًا من جهاز ضبط اجتماعي وأمني يخدم طبقة عسكرية مغلقة. تشير الباحثة دوريس أبوسيف في كتابها Cairo of the Mamluks: A History of Architecture and its Culture/القاهرة المملوكية: تاريخ العمارة والفن، إلى إعادة تنظيم المدينة حول شبكة من القلاع والأبواب والحصون، تُغلق ليلًا وتُفتح نهارًا وفق نظام صارم يحدد حركة الناس.
عَكَس ذلك النظام هشاشة التوازن بين سلطة المماليك، بصفتهم فئة مقطوعة النسب ومملوكة الأصل، تلقّت تنشئة عسكرية منفصلة عن العامة، ووعيًا مبنيًا على الدور القتالي الذي جُلبوا من أجله، ما جعلهم أقسى وأكثر استعدادًا للانقلاب وسفك الدماء. وفرض هذا الواقع مساحة اجتماعية فاصلة بينهم وبين سكان المدينة الخاضعين للمراقبة المستمرة.
في البنية التي شكّلتها القاهرة المملوكية أصبح السور أداة لتنظيم المدينة حول الخوف من الداخل
لم يعد السور أداة دفاع ضد عدو خارجي؛ فهذا السياق جعل منه بنية داخلية للسيطرة "التأمينية" تُنتج الخوف والذعر في مواجهة احتمالات الانقلاب، وتعيد تشكيل علاقة الحاكم بالمحكوم. وهكذا بات السور في القاهرة المملوكية فضاءً أمنيًا يراقب الداخل أكثر مما يواجه الخارج، ويُعيد ترسيم المدينة كهرم اجتماعي محفور في الحجر.
ومع المماليك ترسّخ معنى السور في اتجاه أكثر صرامة. صار جهازًا للضبط يخدم طبقة عسكرية إدارية غريبة عن المجتمع، تم شراؤها من أسواق العبيد وتلقت تعليمًا منفصلًا عن العامة. وكانت تنشئتهم قائمة على الخيانة والانقلاب كوسائل للصعود، وهي سمات انعكست على عمران القاهرة، حيث غلب الطابع العسكري وتراجع البعد السياسي والمدني، باستثناء عهد الأشرف قايتباي الذي حقق توازنًا نادرًا فرض استقرارًا لقرابة ثلاثين عامًا.
في ظل هذه البنية، أصبح السور أداة لتنظيم المدينة حول الخوف من الداخل؛ حتى القصور نفسها تُسوّر تحوّطًا من الغدر، والمدينة كلها أعيد تخطيطها لخدمة منطق الحصار الداخلي، ليصبح السور أداة لإنتاج الذعر والفرز الاجتماعي وتجسيد السلطة في أكثر صورها مادية.
أسوار الحداثة المعنوية
مع دخول القرن التاسع عشر وبداية تشكُّل الحداثة الكولونيالية، اختفى السور المادي من القاهرة، لكن أثره الرمزي ظل حاضرًا داخل البنية الاجتماعية والعمرانية. فالمدينة الحديثة التي بدأت تتشكل ببطء مع بداية المشروع السياسي للأسرة العلوية وتوسعت بشدة، في عهد الخديو إسماعيل عن طريق التوسع في الاستدانة، لم تعد في حاجة إلى جدار من الحجر، لأن النظام الاجتماعي ذاته أصبح السور الجديد.
تُظهر أناليس دي فريز في كتابها Maadi: The Making and Unmaking of a Cairo Suburb/المعادي: تأسيس وتفكك ضاحية قاهرية، أن المعادي لم يتأسس باعتبارها مشروعًا عمرانيًّا معزولًا، بل كان ثمرة تحالف بين رأس المال الأجنبي والمحلي في ظل الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة، وهي البنية التي أرست الأساس الفعلي للرأسمالية المصرية المتصلة بالسياق العالمي لا المنفصلة عنه.
النموذج الذي ظهر في المعادي تكرّر أيضًا في مصر الجديدة وجاردن سيتي، مستندًا إلى نظرية المدينة الحدائقية التي طوّرها السير إبنيزر هوارد في نهاية القرن التاسع عشر. ورغم تقديمها بوصفها حلمًا طوباويًا لدمج الريف بالمدينة؛ اعتمد جوهرها على العزل الطبقي المنظّم عبر إنشاء مجتمعات مخططة تُوزّع فيها الفئات الاجتماعية داخل فضاءات مراقبة ومدروسة، تُفصل فيها الطبقات الوسطى والعليا عن المراكز المزدحمة. فالتخطيط والملكية والقانون حلّت محلّ الجدران الحجرية، وأصبح العمران نفسه آليةً لإنتاج الامتياز الاجتماعي.
وهنا تتضح حقيقة مهمّة غالبًا ما يجري تجاهلها: هذه المرحلة الحداثية مثّلت قطيعة تاريخية كاملة مع فكرة السور. فمنذ القرن التاسع عشر اختفى الجدار المحيط بالمدينة اختفاءً شبه تام، ولم تعد القاهرة تُدار بمنطق "المدينة المسوّرة" الذي حكم العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية. كانت تلك قطيعة عميقة غيّرت معنى العمران، وجعلت الفصل بين الفئات يتم بالقانون والعقار لا بالأسوار.
تجاهل هذا الانقطاع الهائل، وتأصيل سور الكمباوند وربطه بأسوار القاهرة التاريخية، يُقدِّم الجدار الحديث كامتداد لشيء لم يعد قائمًا أصلًا. فأسوار الكمباوند نتاجٌ رأسماليٌّ معاصرٌ، لا صلة له بمنطق الأسوار القديمة إلا على مستوى اللغة. اختفى السور العسكري بكل دلالاته، لكن عاد في صورة أخرى: سور غير مرئي يتجسّد في التخطيط، والملكية الخاصة، والفرز الطبقي، وصولًا إلى لحظة انفجار هذا التوتر في حريق القاهرة، كصدام عنيف بين الداخل المحمي والهامش المستبعد.
سور الامتياز: النيوليبرالية والعمران الجديد
في كتابه Egypt's Desert Dreams/أحلام الصحراء المصرية، يوضح ديفيد سيمز أن التوسع العمراني في الصحراء كان عملية مضاربة واسعة على الأرض بعد أن حولتها الدولة إلى أصل رأسمالي متداول قابل للتسليع، بأكثر مما حدث نتيجة حاجة اجتماعية أو رؤية تنموية حقيقية.
الصحراء لم تُفتح لتوسيع المجال الحيوي للمجتمع أو لحل أزمة السكن، بل لتوسيع مجال الاستثمار وخلق فرص جديدة لتراكم رأس المال العقاري. فصارت المدن الجديدة نتاج تحالف بين البيروقراطية الحكومية ورأس المال العقاري، تُبنى لتُباع ويُضارَب عليها لا لتُسكَن أو لتلبي احتياجات سكانية فعلية.
جُرّد المجتمع تدريجيًا من حقه في المدينة وفي تشكيل فضائه الحضري وصار مجرد مادة خام لتدوير رأس المال
ومع غياب أي تصور اجتماعي للمدينة أو رؤية تشاركية في التخطيط العمراني، تحولت الدولة من مخطِّط عمراني يستجيب لحاجات المجتمع إلى وسيط ييسر تراكم الثروة عبر العمران نفسه، وأصبح الفضاء العمراني نفسه أداةً مباشرةً لإنتاج الربح والريع.
بهذا المعنى، جُرّد المجتمع تدريجيًا من حقه في المدينة وفي تشكيل فضائه الحضري، وصار مجرد مادة خام لتدوير رأس المال وإعادة استثماره، وتحول السكن من حق اجتماعي إلى سلعة تخضع لمنطق السوق، وصار الأمان والخدمات خدمة تُشترى وتُباع بحسب القدرة الشرائية لا بحسب الحاجة أو الحق.
ومع صعود ظاهرة الكمباوندات والمشروعات السكنية المغلقة والمجتمعات المسوّرة، عاد السور في شكل جديد ومعاصر، لا يحمي مدينة بأكملها أو جيشًا كما كان في العصور الوسطى، وإنما يحفظ أسلوب حياة محددًا قائمًا على الاستهلاك المفرط والامتياز الطبقي والعزلة الاجتماعية المختارة، وحريات شخصية مزعومة ومقصورة على من داخل السور. الأسوار الجديدة لم تُبنَ للدفاع عن تهديد خارجي حقيقي، بل للفصل المكاني والرمزي بين داخل آمن ومرفّه ونظيف، وخارج مُستبعد ومُهمَّش ومُهدَّد بالفوضى.
وهنا تأتي نظرية نيل سميث في التنمية الجغرافية غير المتكافئة/uneven geographical development، كإطار مناسب للتحليل. فالنظام العمراني الرأسمالي لا ينتج التفاوت الاجتماعي والاقتصادي فقط على مستوى العلاقات الطبقية، بل يجسده ويثبته مكانيًا في الجغرافيا ذاتها، فيخلق عبر آليات الاستثمار والتطوير العقاري مناطق مزدهرة وحديثة ومخدومة بفعل تراكم رأس المال وتدفق الاستثمارات، في مقابل مناطق أخرى تُترك عمدًا للتدهور والإهمال والتهميش، لتصبح مستودعات لليد العاملة الرخيصة أو مناطق عازلة.
ما بعد السور: نحو عدالة عمرانية
من سور السيادة إلى سور الامتياز، لا تبدو القاهرة مدينةً ممتدةً عبر تاريخ واحد، بسبب سلسلة الانقطاعات التي أعادت فيها كل مرحلة إنتاج معنى السور ووظيفته، لتُقرأ أسوار الكمباوندات الحديثة باعتبارها إعادة اختراع لفكرة العزل في سياق مادي وتاريخي مختلفين تمامًا.
وهنا يتجلّى الوهم الليبرالي الحديث الذي يفصل بين الدولة والسوق والفراغ العمراني، كأنّ مصر تعمل بمعزل عن المنظومة الرأسمالية العالمية، وليست دولة تلعب دورًا واضحًا ومرسومًا في سلاسل إنتاج القيمة كدولة طرف في الجنوب العالمي.
في الواقع، النيوليبرالية ليست غياب الدولة، بل حضورها وتحالفها مع رأس المال، والخصخصة ليست انسحابًا، بل إعادة تموضع للسيطرة في شكل مختلف. المجال العام لم يُفقد بالصدفة، بل أُعيد تعريفه بوصفه سلعة، والعمران صار وسيلة لإدارة الامتياز لا لتقليصه.
لأن الأسوار المعاصرة شكل جديد لإنتاج الهيمنة في سياق رأسمالي عالمي تُمارس فيه السيطرة من خلال السوق والتخطيط بدل السيف والحجر؛ لا تبدأ إعادة تخيّل المدينة بهدم هذه الأسوار، بل بتفكيك البنية الاجتماعية والاقتصادية التي تجعلها ضرورية.
فحين يُستعاد المجال العام كحق لا امتيازًا، وتصبح العدالة المكانية هدفًا للتخطيط لا ضحيته، يمكن للمدينة أن تستعيد معناها الأول: فضاءً مشتركًا للحياة لا مسرحًا للعزل والامتياز. ومن هنا ينبع السؤال الحقيقي: كيف نقلل من الأسوار بيننا، لا كيف نبرر وجودها بتأطير تاريخي جامد، إنما كيف نكسر منطقها نفسه كي نعيد للمدينة معناها الإنساني والمشترك؟
عنوان هذا المقال مستوحى من أغنية السور، كلمات وليد طاهر، ألحان وغناء يسرا الهواري.


