
كارثة طريق الواحات.. الأضرار ليست جانبية
لا عزاء إلا في حل سياسي حاسم ومشروع قومي عاجل لتأمين شوارع مصر
قبل نصف ساعة من انفجار خط الغاز بطريق الواحات كنت هناك. ومن وقتها لا أستطيع كبح القلق، فماذا لو أنني مررت متأخرًا في لحظة الحادث؟ وهل كان بإمكاني فعل أي شيء للنجاة أو لإنقاذ الآخرين؟
لا يقبل عاقلٌ تصنيف الكارثة التي وقعت في 30 أبريل/نيسان الماضي على أنها مجرد "قضاء وقدر" ونحن في منتصف القرن الثالث من عمر مصر الحديثة، فمئات المناطق معرضة لتكرار المأساة، ويصعب تخيُّل عدد الضحايا إذا حدث الانفجار في منطقة مكتظة بالسكان.
بحث سريع في أخبار الحوادث والمحليات بالمواقع الصحفية خلال العامين الحالي والمنصرم، يوضح أن المصائب "بالكوم" وإن كان عدد الضحايا في بعضها قليلًا، وبعضها الآخر وقع في مناطق مهمشة فخبا الحديث عنها سريعًا. نجد أنفسنا أمام "تشكيلة" من انفجارات وحرائق خطوط الغاز وتسرب المواد البترولية، وقع آخرها في مناطق المرج الجديدة والخانكة والصف. أما السبب فواحد تقريبًا: كسر أثناء الأعمال.
لم يكن حادث طريق الواحات استثنائيًا، وإن كان الأسوأ. باغت الانفجار الضحايا الأبرياء بحريق هائل زاد وقود السيارات من انتشاره، لتحترق الأجساد وتتفحم في لمح البصر، مخلّفة خسارات مفجعة وآمالًا محطمة وحكايات لم تُروَ بعد. وما زالت حصيلة الكارثة قابلة للزيادة بعد ارتفاع عدد الضحايا حتى الآن إلى ستة متوفين وعشرة مصابين، بعضهم يصارع الموت في أقسام الحروق المتقدمة.
كم هي قاسية حقيقة أن الكارثة قابلة للتكرار، وربما أقرب من تصوراتنا، زمنًا ومكانًا، لأن الأسباب ببساطة ما زالت قائمة وستبقى، طالما ظللنا نرى الضحايا في كل مرة "أضرارًا جانبية" لحادث "قدَري"، وظلت السلطتان التنفيذية والقضائية تُكِّيفان هذا التقصير المروع باعتباره "إهمالًا" أو "تُسببًا في القتل عن طريق الخطأ".
أمامنا حقائق مخزية، تواترت مع تصريحات وزارة البترول وشهادات أهالي المنطقة، والمعلومات التي نشرها مصراوي من تحقيقات النيابة العامة، ثم البيان الذي أصدرته النقابة الفرعية للمهندسين بالجيزة: شكاوى في اليوم السابق للانفجار من رائحة غاز، وأعمال مقاولات جرت في الموقع بمعرفة شركة المقاولات الخاصة "م" تحت إشراف جهاز المدينة، ولم يتم التنسيق بشأنها مع شركة الغاز صاحبة الولاية والإشراف على الخط، في غياب كامل للعلامات التحذيرية أو الإرشادية، وبعد حدوث الكسر رُدم الطريق فوقه بصورة بدائية.
لا يمكن القبول بأن الانفجار ناجم عن خطأ فردي لسائق اللودر الذي كسر الأنبوب، أو المقاول المشرف عليه الذي قرر ردم الخط بهذه الطريقة. نحن أمام منظومة مهترئة بالكامل، تعجز عن التعامل السريع مع الشكاوى، وتفتقر إلى أدنى درجات التنسيق بين الأجهزة الحكومية، وتترك الشارع مرتعًا للعبث من كل صنف، فيصبح الإنسان المصري ضحية لكل هذا، مجرد ضرر جانبي لمنظومة تتمسك بالفشل!!
من يحمي أرواح المصريين؟
أيُّ سياسة عامة أو آلية حكومية لا تكترث بأرواح البشر أو تفشل حمايتها لا يُعوّل عليها.
والحاصل أن مصر تخلفت طويلًا عن الركب العالمي في وضع خرائط بيانية كاملة للشبكات على مستوى الجمهورية، وإتاحتها وتعميمها وإكسابها صفة الإلزام، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: منع وقوع حوادث تُعرِّض المواطنين للأخطار وتصيب المنشآت بأضرار جسيمة، وحماية مرافق الدولة المختلفة المدفونة في باطن الأرض وتُمثِّل أموالًا عامة استُثمرت ونمت على مدى عقود، وتيسير أعمال التوسع في إنشاء مرافق جديدة تحت سطح الأرض وفوقها مثل شبكات المواصلات والغاز والكهرباء.
في الثمانينيات، دقَّت تجربة إنشاء الخط الأول لمترو الأنفاق ناقوس خطر، إذ تكررت مشاكل كسر الخطوط والاحتياج لنقلها واستبدالها بسبب عدم وجود خرائط أو بيانات دقيقة لشبكات المرافق المدفونة، مما دفع لإنشاء أول مركز معلومات للشبكات في محافظة القاهرة بمنحة فنلندية عام 1988، وكان المأمول أن يكون هذا المركز قاطرةً لإنشاء مراكز أخرى في مختلف المحافظات. لكن ما زالت 15 محافظة مصرية تفتقر إلى هذه المراكز رغم أهميتها.
والمفاجأة أن انفجارات الخطوط تكررت مؤخرًا في الجيزة والقليوبية؛ رغم وجود مركز معلومات في كلٍّ منهما منذ فترة طويلة، ويلعب دورًا أساسيًا في أعمال خطوط المترو والإنشاءات الحكومية الأخرى، لكن العديد من الأنشطة تُمارس دون أدنى رقابة أو تحقق من سلامة الإجراءات.
يتبع المركز المحافظة مباشرة، ويجب أن يوفر لجميع الأجهزة التنفيذية الأخرى التي تزاول البناء وأعمال المقاولات، وللمواطنين أيضًا، خرائط كاملة لموقع العمل أيًا كان نوعه، تظهر جميع الخطوط والمرافق التي تمر به، وذلك بعد النزول على الطبيعة بطاقم عمل ميداني لمراجعة البنية الأساسية والمرافق من ثوابت ومتغيرات، ورفع كل ما يستجد على الأرض، وتسجيل تاريخ آخر تحديثات لموقع العمل.
معلومات شبكات المرافق.. ليست رفاهية
يدمج كل مركز بين اختصاصات المساحة والطبوغرافيا وتكنولوجيا المرافق والشبكات، ومن خلال الاستشعار عن بعد، ويجمعها بتقنية GIS/نظام المعلومات الجغرافية، لاستخدامها في الأغراض المدنية والإنشائية.
من البديهي أن استخدام هذه التقنية لم يعُد رفاهية ويتوجب تعميمها وتشديد الإلزام بها، خصوصًا مع اتجاه الدولة إلى توصيل الغاز الطبيعي للمنازل في معظم مناطق الجمهورية، ثم التوجه لدفن خطوط الضغط العالي للكهرباء في القاهرة الكبرى، وفي ظل زيادة أعمال شق طرق جديدة وتوسيع الطرق والشوارع القائمة بالقاهرة الكبرى والإسكندرية وعواصم المحافظات.
الشارع متروك لأعمال فوضوية من الجهات والأفراد تحت شعار: ربك يسترها
مسؤول حكومي في وزارة الإسكان، أكد لي أن هناك صعوبةً كبيرةً ودائمةً في الحصول على الخرائط الخاصة بالمرافق، نظرًا لاستئثار كل جهة بالمعلومات التي تملكها. ومع قلة العناصر العاملة في مراكز معلومات الشبكات بالمحافظات يصعب الحصول على البيانات بصورة مركزية وشاملة لمعظم المناطق.
توجيهات الحكومة.. حبر على ورق
المفاجأة الأخرى أن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أصدر عام 2018 قرارًا "بإلزام جميع الجهات العاملة في مجال البنية التحتية، بالحصول على الموافقة الفنية للحفر من مركز معلومات شبكات مرافق المحافظة الواقع في دائرتها أعمال الحفر، وذلك قبل البدء في هذه الأعمال، وسواء كان التنفيذ بمعرفتها أو بواسطة غيرها. مع إلزام الوزراء والمحافظين بتنفيذ القرار واتخاذ الإجراءات اللازمة".
هنا واجبنا أن نسأل: كم نسبة الأعمال التي تصدر بها الموافقة الفنية من مراكز المعلومات؟ وما الحل في المحافظات التي لا توجد بها تلك المراكز؟ وهل التزمت الأجهزة المعنية في حادث طريق الواحات بهذا القرار وصدرت لها الموافقة الفنية؟
الإجابة تحملها الحياة اليومية في كثير من الأحياء بالقاهرة الكبرى والأقاليم، إذ لم يجد قرار رئيس الوزراء طريقه للنفاذ على الأرض. فالشارع متروك لأعمال فوضوية من الجهات والأفراد تحت شعار "ربك يسترها". أما إذا حاولت معرفة خط سير أنبوب غاز أو ماسورة مياه فالمهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة، مما يتسبب بالطبع في العديد من الحوادث والانقطاعات وتعطيل المرافق العامة. ولو أن هذا القرار نُفّذ على نحو أمين، لما وقعت كل تلك الحوادث!
لم يُرتِّب قرار رئيس الوزراء أي مسؤولية أو عقوبة بعينها من الواردة في القوانين ذات الصلة على مخالفي تلك التعليمات. فضلًا عن أن تراجع عدد موظفي المحليات بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة أثرَّ سلبًا على المتابعة ورصد المخالفات حال حدوثها، ومن ثم تتلاشى إمكانية المساءلة التأديبية أو الجنائية في معظم الأحوال.
القضية قومية والحل سياسي
كارثة الواحات إذن ليست مسؤولية جهاز أكتوبر فقط، ولا هي مسؤوليته بالشراكة مع هيئة المجتمعات العمرانية ووزارتي الإسكان والبترول فحسب، وهي قطعًا أكبر من سائق مُهمِل أو مقاول غير ملتزم مطمئنين من انعدام المحاسبة. إننا نحصد ثمار مزج "الفتوَنة" بـ"الفهلوة"، في ظل تراخٍ إداري وغياب للرقابة، يلخّصان سياسةً جوهرها ازدراء المواطن.
هذه قضية قومية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن غير المعقول أن يدخل إنشاء مركز معلومات شبكة المرافق بالغردقة في عداد المشروعات ذات الأولوية منذ عدة سنوات، دون أن يكون تعميم هذه المراكز بصورة فورية ونافذة في جميع المحافظات والمناطق مشروعًا قوميًا قائمًا بذاته، وضرورةً حتميةً لإنقاذ أرواح المواطنين وممتلكاتهم وأموالهم، وأيضًا لحماية المال العام واستثمارات الدولة في البنية التحتية.
شاهدت عبر المصري اليوم رجلًا مسنًا فقد شريكة حياته في الحادث، بينما ترقد حفيدتهما بين العجز والموت في مستشفى للحروق، يناشد قيادات الدولة التدخل لمحاسبة المخطئين، بينما عيناه الزائغتان تصرخان، فلا قوانين تمحو ألم الفراق، ولا شيء سيعيد ما راح.
ربما يكون العزاء الوحيد لهذا الرجل المكلوم وغيره من ذوي الضحايا هو وقف التعامل مع تلك الكوارث بضيق أفق، لتنتهي بجزاء عقابي أو تأديبي.
المطلوب الآن تدخلٌ سياسيٌّ على أعلى مستوى لمحاسبة حاسمة لكل مسؤول أهمل في منظومة التنسيق والمتابعة والشكاوى، وفي تنفيذ قرار رئيس الوزراء بشأن متطلبات الحفر، حتى وإن ضمت قائمة المهملين وزراء ومحافظين وعشرات الموظفين الكبار والصغار الذين حوّلوا شوارعنا إلى جحيم.