تصميم: هشام عبد الحميد- المنصة

"لا أزال هنا".. هجائية برازيلية للديكتاتورية تصل القاهرة في موعدها

منشور الأربعاء 20 نوفمبر 2024

سوف نتعافى، بعد حين، وننتج أفلامًا تنجو من الوقوع في أسر مرارات هذه المرحلة، وتنحاز إلى جماليات الإبداع. اختبارٌ صعبٌ فشلنا فيه في السبعينيات مع موجة أفلام "الكرنكة". باستثناء ريادة فيلم الكرنك من يذكر الآن أعمالًا استهدفت الانتقام من رمزية جمال عبد الناصر؟!

في الفخ نفسه، وقعت أفلام سنوات الرصاص عن ضحايا المعتقلات المغربية في عهد الحسن الثاني. طموح الارتقاء بالمنشور السياسي إلى العمل الفني حققته أعمال قليلة، منها الفيلم الإسباني الخندق الأبدي الذي أخرجه خوسيه ماري جويناجا وإيتور أريجي وجون جارانيو، عن جانب من جرائم الجنرال فرانكو، مع تفادي ذكر اسمه إلا بإشارة واحدة.

ضمن هذا الطموح الفني، يندرج الفيلم البرازيلي لا أزال هنا الذي عرضه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الحالية خارج المسابقة الرسمية. مرَّ العرض من دون دعاية في قاعة صغيرة هي مسرح الهناجر، ثم في سينما الزمالك. خيرًا فعلت الإدارة الذكية للمهرجان، على أي حال. لا نطالب بما حظي به فيلم ليلة الاثني عشر عامًا للمخرج الأورجواياني ألبارو بريشنر، الفائز بجائزة الهرم الذهبي في الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة عام 2018. كان عرضه الثاني ليلة الختام، واستغنيتُ عن الحفل، وفضّلت مشاهدة الفيلم في سينما كريم وقت الإعلان عن فوزه، والقاعة تصفق، والبعض يبكي يأسًا مؤقتًا، وحزنًا على ليلنا الطويل.

في ليلة الاثني عشر عامًا، تستند أمّ المعتقل خوسيه موخيكا إلى إفادة من المحكمة بوجود ابنها في معسكر للجيش. تذهب للسؤال عنه فينكرونه، ويستمر اختفاؤه القسري بين عامي 1973 و1985. وينطوي ليل أوروجواي العسكري، ويصير موخيكا عام 2010 رئيسًا لأوروجواي.

أما النائب البرازيلي اليساري السابق روبنز بايفا فاختفى في معتقلات الجيش عام 1971، وظلوا ينكرون وجوده، ولا تعلم أسرته شيئًا عن حياته أو موته، ولم يتسلموا جثته قطّ، ولا يعرفون أين دفن. وبعد 25 عامًا، تمكنوا من استخراج شهادة وفاته. تلك المأساة كتبها الابن مارسيلو روبنز بايفا، ونشرها عام 2015 بعنوان "لا أزال هنا".

المخرج البرازيلي والتر ساليس في فيلم "لا أزال هنا" يمسّ عصبًا عاريًا، فشظايا الاستبداد العسكري تؤذي الجميع بدرجات متفاوتة، وقلما ينجو منها أحد، حتى لو اعتزل العمل السياسي، واكتفى بالاهتمام بشؤون أسرته مثل المهندس روبنز بايفا. يعتقد "العقلاء" ألَّا جدوى من مواجهة الدبابة، الجنازير والمجنزرات والمصفحات تحتكرها السلطة العسكرية القابضة، ولا تتحاور مع مسيرة سلمية، فتكون السلامة الشخصية والعائلية خيارًا مرحليًا، حتى تمرّ العاصفة بأثمانها الباهظة، وتتآكل مخالب الديكتاتورية التي يهجوها هذا الفيلم. إنه هجاءٌ آمنٌ، بعد أن صارت الديكتاتورية العسكرية في البرازيل مجرد تاريخ، ذكرى ثقيلة على الذاكرة، ولا تطيب الجراح إلا بالاستعادة والتذكّر والتوثيق، وإعادة الاعتبار إلى الضحايا.

في وقته تمامًا يأتينا هذا الفيلم. لا أحد يتعلم من التاريخ. كلُّ تجربةٍ في الاستبداد العسكري نسخةٌ من سابقاتها، نسخة مزيدة غير منقّحة. لا يختلف المستبدون إلا في نهايات تنتمي إلى نوع واحد، ولا يأخذون العبرة من أسلافهم.

المأساة تدمِّر الأسرة، ولا تخص المعتقل المختفي وحده. البيت نفسه يحتله حرسٌ مسلحون، يقيمون مع الأسرة، ويصادرون أصوات أفرادها، ثم يأخذون الابنة والأم أونيس إلى المعتقل. تحت التعذيب لا تعترفان، فلا علم لهما بشيء، والمحققون يصرّون على أن الزوج يساعد أعداء النظام. وتنقلب حياة الأسرة: الاستقرار والسعادة والضحك، في بيت يضم أبوين وخمسة أبناء، والتفاؤل بسفر الابنة الكبرى إلى لندن للدراسة، كل هذا ماضٍ تنسفه حالة التقشّف، وما يشبه الحداد.

من الانتظام في المدارس، ولعب الابن مع أصدقائه، والاستمتاع باللهو على الشاطئ، وتفنن الأم في إعداد الطعام، إلى الاستغناء عن الشغّالة لعدم القدرة على دفع راتبها، وتغادر الأسرة ريو دي جانيرو إلى ساو باولو. الأم باعت البيت الذي سيتحول إلى مطعم، والأبناء الغاضبون يستسلمون للأمر الواقع، ويفارقون أصدقاءهم، ويُنتزعون من ذكرياتهم.

يأتي الفيلم إلى مهرجان القاهرة السينمائي في موعده فما أشبه اليوم بالأمس البرازيلي

وقع الانقلاب العسكري عام 1964، واستمر أكثر من عشرين عامًا. حتى وقت اعتقال الزوج عام 1971 لا شيء يدلّ على وجود أنشطة لحركات معارضة، أو تحدٍّ للسلطة القائمة. النظام العسكري، الذي سطا على السلطة، صادر السياسة واحتكر الحكم. وافتقاد الشرعية يزعج اللصوص.

والآفة العسكرية الكامنة في لا وعي شخص أو طبقة أو مؤسسة، في البرازيل بالطبع لكي لا يُساء الفهم، تتقصّى حتى السياسيين المعتزلين، تخلق أعداءً وهميين، فلم نرَ في الفيلم إرهابيين لكي يساعدهم الزوج أو يتجاهلهم. لكن استمرار الاستبداد يلزمه وقود من الأوهام، واختلاق أعداء، مثل اتهام الزوج بأن له علاقة بالإرهابيين. ولا يتيحون له فرصة للدفاع عن نفسه، ويمارسون على الأسرة قهرًا يدفع الزوجة إلى الجنون.

فالزوجة تعلم، بشكل غير رسمي، أن زوجها مات، وأنهم يتخلصون من الجثث في مدافن جماعية في الغابات، أو يلقونهم من المروحيات في البحر. ولا تستطيع اللجوء إلى المحكمة بدعوى اختفاء الزوج قسريًا في معتقل مجهول، فليس لديها دليل على اعتقاله.

ويقترح عليها المحامي أن تتجاهل معرفتها بموته، وأن يقدم إلى المحكمة التماسًا للتحقيق في اختفائه، والمطالبة بالإفراج عنه أو محاكمته، فتصرخ الزوجة وترى أن من الحكمة الاعتراف بموته، لكي تتخلص من الذين يرابطون أمام البيت لمراقبتها. الإقرار بالموت ينهي هذا التضييق، ويحررهم بعيدًا عن ريو دي جانيرو. قسوة البطش دفعتهم إلى التصالح مع قتل الزوج، والصمت على الجريمة.

الأزمة فجّرت طاقات الزوجة التي قامت بمهام الأم والأب معًا، وإن طغى الشعور بالكآبة واختفاء الصخب المصاحب لاجتماعهم على المائدة، أو خروجهم من البيت.

النصف الثاني من الفيلم تغلب عليه المشاهد الليلية والقتامة والصمت والتوجس ودفن الذكريات بما فيها الكلب الذي قتلته سيارة جنود المراقبة. ومن سيارة المغادرة تصور الابنة بكاميرا غير احترافية البيوت والشوارع الصامتة، من صمت إلى صمت يذهبون، والأم تواصل نشاطها في مجال حقوق الإنسان، ولا يهدأ بالها حتى تطوي ملف الزوج وما نشرته الصحف عن قضيته، وآخر ورقة في الملف هي وثيقة الوفاة، بعد موته بربع القرن.

ينتصر المخرج والتر ساليس في "لا أزال هنا" لآدمية الإنسان، ويراهن على زوال ما ليس طبيعيًا. وكل ما ينزع عن الإنسان آدميته ليس طبيعيًا.

يأتي الفيلم إلى مهرجان القاهرة السينمائي في موعده، فما أشبه اليوم بالأمس البرازيلي. وبعد حين، سوف ينجز الطموحون أفلامًا عن مآسٍ جارية، الكثير منها سرّي تعرفه فقط الدوائر القريبة من أصحابه. سوف نشاهد هذه الأفلام، ونبكي من الألم والفرح، لأننا "لا نزال هنا"، باقين، نتذكّر، وسوف نهجو.