كان القمص يعدو، ووراءه رجل يحمل سكينًا طويلًا. ينحرف القمص داخلًا إلى مكان ما، وقبل أن يغيب جسده تماما عن أنظارنا، نجد الرجل يغمد سكينه في ظهره.
"مختل عقليًا"، قالت السلطات، عن القاتل بالطبع، لا عن القمص، الذي تبدو صفة الاختلال العقلي مناسبة له، لأنه ببساطة أحب أن يعيش في وطنه، لا أن يهاجر إلى أمريكا أو كندا.
يوم آخر أو يومان، ونجد فيديوهات أخرى للقمص عازفًا الناي. صورة له مع ابنته، الاثنان مبتسمان.
يوم آخر أو يومان، وسننسى.
مختلون، مسيحيون، وحدة وطنية، عاش الهلال مع الصليب. عاش الهلال مع الصليب.عاش الهلال مع الصليب.
طبعًا، عاش الهلال مع الصليب. ولكن، ماذا عن الناي الذي قابله سكين؟ مختلون، طبعا.
دوامة معتادة. وربما ستصبح زيارات السيسي إلى الكاتدرائية —اللافتة والجديدة في وقتها— إحدى مساراتها أيضًا. لا يمكنك الاستغراب، فالسيسي نفسه كان رئيس الاستخبارات العسكرية، التي كانت تتحكم في ماسبيرو ساعة مذبحة الأقباط في العام 2011.
وماسبيرو هو من أطلق علينا مذيعته، رشا مجدي، لتمارس كل أنواع القذارة الطائفية تجاه مصريين يعتنقون المسيحية. كان السيسي مسؤولا عن إشاعات سرقة المدرعة فهد، التي سحقت أجساد الأقباط عند كورنيش ماسبيرو. وكان مسؤولا عن كل كذبة أطلقها المجلس العسكري من أجل أن ينقذ حكمه، ولو بإشعال فتنة طائفية، يتدخل هو نفسه لحلها، فيصير الخصم حكمًا.
ولكنهم فعلوها في العام 2013. أليس كذلك؟
عشرات الكنائس قد أحرقت في الصعيد آنذاك. كارثية الأمر لا تتعلق بانتماء المعتدين للإخوان المسلمين —لو كان الأمر كذلك لكان عقابهم ناجعًا— ولكنها تتعلق بكونهم من (الجماهير الغاضبة). وهو الأقرب للتصديق.
كيف يمكن معالجة ذلك؟
ولكن، لِمَ قد يفكر المارشال في حل أزمة تعزز جدوى وجوده؟ كيف يمكنه حل أزمة، وهو يختطف قرابة العشرة بالمائة من المصريين (أو اكثر)، من معتنقي المسيحية، يؤمن غالبيتهم أن حكمه العضوض، وحكم الدولة العضوض، هو السد الوحيد الذي سوف يحميهم من الإسلاميين إن تمكنوا من البلاد؟ ويمكنك إضافة تهمة (مساندة الانقلاب)، التي تشعل غضب الإسلاميين، أو البسطاء الذين بلغت جهالتهم حد إشعال النار في الكنائس إبان الانقلاب.
لِمَ قد يفكر السيسي في حل هذا؟
قبل سنتين، تكلم السيسي، فيما يمكن اعتباره شجاعة نادرة، عن "الثورة الدينية" التي يجب إتمامها في الأزهر الشريف، وكيف أن "شكل المسلمين" بكليتهم مصدر رعب للعالم. بدت هذه العبارة الأخيرة، رغم ذلك، شديدة اليمينية وكأنها خرجت من قاموس ترامب وحفلات الشاي. بدا وكأنه زنجي المنزل على حد وصف مالكوم إكس: الأسود الذي يعتنق أخلاق البيض، ويحبهم أكثر مما يحبون هم أنفسهم. ورغم ذلك، فإن معنى عباراته عد سبقًا في خطاب الدولة المصرية. وعلى الأقل فقد فتح ذلك بُعدًا للتفكير: هل الأنسب دفع الدين لكي يتغير من طرف الحكام، كما فعل حكام اوروبا باللوثرية مثلا، أم أن الأمر متعلق بإعلان الدولة العلمانية، التي لا تأبه بالدين أساسا، لا حبًا ولا كراهية؟ أم هما الأمران معًا؟ نعم، ما تزال الكنيسة الكاثوليكية على منهاجها المعتاد رغم صياغة عباراتها الرقيقة مؤخرًا، لكن دعوات إصلاحها لم تنقطع من ناحية، ومن ناحية أخرى تعيش غالبية معتنقيها في دول علمانية، بشكل أو بآخر.
أين السيسي ودولته من الأمرين؟
من باب الإنصاف، فإن الدولة المصرية قد بذلت جهدًا وافرًا في مسألة الخطاب الديني، منذ محمد علي نفسه. لكن هذه الدولة ذاتها هي من تقف موقفًا شديد الانتهازية من استخدام الدين في السياسة. هي نفس الدولة التي تخاف، بل وقد ترفض، تقديم مشروع دولة علمانية للشعب. هذه الدولة نفسها التي ترفض الحرية والديموقراطية تحت مبرر حماية المجتمع من الإسلاميين. هي ذاتها التي تعزز أجواء ينمو فيها القمع والتطرف.
من أجل أن اكون واضحًا، أنا لا أطلب من الدولة أن تحل شيئًا بيدها. في موضوع يبدو وكأنه مرتبط بالإرادة السياسية بأكثر مما يرتبط بحرية مجتمعها، يطالب الكثيرون الدولة بكذا وبكذا، ولكن كل ما أؤمن به، من قبل العام 2011، هو أن يتحرر المجتمع ليواجه كوابيسه، أن نواجه نحن أشباحنا، بدلا من أن نعزي أنفسنا بدبابة لا تخدم إلا نفسها.
من العام 2011 إلى 2013 -ونحن نعرف جيدًا أنها سنوات لم يكن فيها بوليس أو جيش- لا أتذكر فتنة طائفية حقيقية. لا أتذكر حادثة إرهابية. لا أتذكر خطرًا حقيقيًا قد حاق بمصر. دعوني أذكركم: في أكتوبر من العام 2011، حينما، بالفعل، لم يكن هناك شرطي واحد في الشوارع، بينما المدرعات تدهس المسيحيين، لم يمسك المصريون بخناق بعضهم البعض على أساس ديني، كما تمنى البعض.
"اليوم غير الأمس،" قد يجادل بعضهم. صحيح. لكن كل يوم يمر يزداد صعوبة.
منذ أيام كنت على التليفون مع فاروق مردم بك، الناشر والمثقف السوري الكبير، والصديق العزيز. هنأني على صعود مصر لكأس العالم، وقال لي، إن أعظم الأشياء في مصر اليوم هي شعور المصريين بالوحدة، شعورهم بالفرحة، جميعًا، لفريق بلدهم. قال لي، بنبرة حزن، إن منتخب سوريا اليوم يعتبر فريق بشار. نعم، المصريون ما يزالون مصريين، مسلمون ومسيحيون، إسلاميون وعلمانيون، نوبيون وبدو. لكن، تحت حكم هذه الدولة، إلى متى سيستمر ذلك؟ إلى متي سنستمر نحن في الثقة بذلك؟
منذ مائتين من السنوات تقريبا، أمر محمد على بإعدام مسلم قتل مسيحيًا، وعندما تكاسل المكلف بالعقاب استدعاه، وسأله عن سبب تأخيره، رد بأن ذلك حرام، "لا يؤخذ مسلم بكافر.” قال محمد على، ببساطة، أن الحرام هو عدم تنفيذ أوامره. ومنذ يومين، بعد مائتين من السنين تقريبا، أجد احد الشيوخ يجادل ثانية بألا يؤخذ مؤمن بكافر.
هل هذا هو الإسلام؟ أم هو نسخة متعصبة منه؟ هل نتركه في حاله، فهو شأن المؤمنين بهذا التعصب، ما لم يأتوا بجريمة؟ طبعا. لكن، أين العلمانية؟
يبدو أننا سنظل ندور في هذه الحلقة المفرغة، سكين يلتقي بناي، حتى يلتقي السكين بسكين. وحتى ساعتها، ستبدو البندقية راضية.