هناك أنماط عديدة للانفصال عن الواقع عند الإنسان، من بينها الانفصال الأيديولوجي، وهو مرض يصيب بعض المثقفين المصريين الذين يدخلون في جدالات بيزنطية عن الهوية المصرية وأهميتها، متجاهلين تمامًا الكوارث الاجتماعية الكبرى التي أصابت المجتمع، وأدخلت المصريين في صراعات وجودية.
هؤلاء المفكرون عندما يُقدمون إنتاجًا فكريًا يعالج هذه المواضيع، يؤكدون أنهم بعيدون عن المجتمع في غرفٍ مغلقة، ومن أمثلة هذه الإنتاجات، مقال الدكتور عمار علي حسن في المنصة مسخ الهوية.. هل صار مرضًا مصريًا مزمنًا؟
هل من المهم حقًا طرح أسئلة "الهوية المصرية" في بلد زادت فيه معدلات الفقر والبؤس الاجتماعي وانغلاق الأفق؟ هل أصبح تهافت المثقفين مرضًا مصريًا مزمنًا؟
جدل الهوية والمفارقة التاريخية
يبدو نقاش الهويات خارجًا عن التاريخ وتحولاته وتغيراته، وأقرب إلى جدال مثقفين في برجٍ عاجي عن ماضٍ لم يحدث إلا في مخيلتهم لخدمة أفكار سياسية بعينها.
فعندما يقول الدكتور عمار في مقاله "رغم أنَّ هوية مصر معروفة لكلِّ منصف، وفق طبقاتها الحضارية الثلاث: الفرعونية والمسيحية القبطية والعربية الإسلامية، سبيكة واحدة بشرائحها المتتابعة في هذه الحقب الثلاث"، فهو يبتعد عن التاريخ وعلم الاجتماع في جملة واحدة، ويرتكب مغالطة تاريخية بإسقاط مفاهيم زمننا الحداثية على سياق زمني آخر، لم تكن هذه المفاهيم تشكلت فيه، مثل أيِّ مثقف يبحث عن فكرة الوطن في العصور الوسطى أو ما سبقها، بينما جدل الهوية نفسه لم يبدأ إلا مع تبلور وصعود الدولة القومية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. قبل ذلك، لم يكن مفهوم "الوطن" بالشكل الذي نعرفه اليوم موجود بعد.
إن الجدلَ بشأن الوطن والهويات جدلٌ معاصر ظهر مع صعود الدولة القومية نفسها
فمثلًا في العصور القديمة والوسطى، كانت كلمة وطن تعني شيئًا مختلفًا عمَّا نعرفه اليوم، إذ كانت تدل على الأرض الصغيرة التي وُلدَ فيها الإنسان، ويعرفها أبناؤه وأحفاده وجيرانه بأنفسهم دون وساطة، ولا تعني المساحة الواسعة التي تضم ملايين من البشر كما نعرفها الآن.
يذهب الكاتب الإسرائيلي اليساري المعادي للصهيونية شلومو ساند، في كتابه اختراع أرض إسرائيل، إلى أن الأرض كانت "أساس حضارات أنتجت بعد ذلك إمبراطوريات كبرى. هذه الممالك القديمة، مثل بلاد ما بين النهرين أو مصر أو الصين، لم تؤدِّ إلى تطور وعي إقليمي جماعي مشترك بين جميع الأشخاص الذين يزرعون الأرض".
ويواصل "كان تقديس قطعة الأرض التي استوطنت عليها القبيلة أو القرية عادة منتشرة على نطاق واسع، تبنتها العديد من المجتمعات في مختلف القارات، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مساوية للوطنية الحديثة. لقد اعتُبرت الأرض دائمًا تراثًا إلهيًا، وليست ملكًا للبشر. رأى الرجال في العصور القديمة أنفسهم كمزارعين، أو موظفين، يرون أنفسهم كمستخدمين مؤقتين للأرض، وليس كأصحابها".
إن الجدلَ بشأن الوطن والهويات جدلٌ معاصر، ظهر مع صعود الدولة القومية نفسها، ولكنه لم يكن يعني شيئًا حقيقيًا في العصور السابقة، ولكنَّ الكثير من المثقفين والسياسيين يسقطون في فخ المقارنة التاريخية، لأنهم يتجاهلون، بوعي أو بغير وعي، العمليات التاريخية والرؤى التي سادت في المجتمعات عن نفسها في عصرها.
لذلك، فإنَّ حديث الدكتور عمار عن الهويات الفرعونية والمسيحية القبطية والعربية الإسلامية لمصر، يتجاهل وجود ثقافات أخرى متشابكة أثرت في الثقافة المصرية، مثل الثقافة الإفريقية وثقافة البحر المتوسط كما اقترح طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر.
ومن ثم ينكر عمار علي حسن علم الاجتماع ويصور التاريخ وكأنه كتلة واحدة، فيما يشبه نفي تعقيد العملية التاريخية، وهذا من أجل تأجيج جدل المثقفين المعاصرين حول تصورات سياسية معاصرة تختلف جذريًا عن تصورات السابقين عن ذواتهم.
إذًا، يؤدي موضوع الهوية الوطنية في حد ذاته إلى المفارقة التاريخية. وهذا هو حال إيريك زمور مثلًا، الزعيم اليميني المتطرف والمدافع المتحمس عن "الهوية الفرنسية"، الذي يريد إثبات رؤيته عن الهوية الفرنسية بأي شكل من الأشكال. يصف مثلًا زمور في كتابه مصير فرنسي، بطلًا شعبيًا فرنسيًا من العصور الوسطى بأنه بطل قومي. لكننا نرى هنا خطأ زمور التي وقع فيه الدكتور علي حسن، حيث يريد إسقاط تصوراته السياسية الحداثية عن الوطنية والقومية، على واقع اجتماعي وسياسي مختلف تمامًا.
جدالات الهوية وسياسة النعامة
يتحسر الأستاذ عمار في مقاله على انتشار اللغة الإنجليزية في مصر كدليل على "ضياع الهوية" و"مسخها". لكنه في الواقع يخلط بين العواقب والأسباب، لأنَّ انتشار اللغة الإنجليزية جاء بفعل العولمة تحت قيادة الإمبراطورية الرأسمالية الأمريكية، وقبلها الإمبراطورية البريطانية.
بدلًا من إيجاد حلول مادية للبؤس الاجتماعي المصري يجادل المثقفون أنفسهم عن "هوية" مصر
إن الإنجليزية هي الـlingua franca/لغة التواصل المشترك العالمية الآن، كما كانت اللغة الرومانية قبل ذلك، وانتشارها بالتالي من عواقب الهيمنة الثقافية الأمريكية. فاللغة الإنجليزية تداخلت مؤخرًا وبشدة في اللغة الفرنسية مثلًا. هذا حال كل لغات العالم في كل العصور، والأمثلة لا تعد ولا تحصى، لأن اللغات لها عمليتها وتحولاتها السياسية والاجتماعية والطبقية. كانت اللغة العربية مثلًا دخيلة على المجتمع المصري في وقت من الأوقات، وأتت تلك اللغة بالسيف رغم افتخار الدكتور عمار بها واعتبارها جزءًا من هويته الآن.
يطبق الدكتور عمار في مقاله سياسة النعامة، مثل جميع المتشبثين بالهوية، سواء كانت فرعونية أو إسلامية أو قبطية، إلخ، عندما يتحسر على الأسماء الإنجليزية للكومباوندات وليس على وجود الكمباوندات نفسها، التي تدل على التمييز الطبقي الشرس في مصر.
الطبقات الغنية التي تتكلم الإنجليزية في مصر لا تدمر "هوية مصر"، لكنها تمارس العنف الرمزي ضد الطبقات الفقيرة لأنها تخلق تفرقة اجتماعية وثقافية عن طريق اللغة، بل يمكن أن نجزم أيضًا أنهم يتكلمون اللغة الإنجليزية مع بعضهم البعض لأنهم يعيشون فيما يسميه علم الاجتماع بـclose-knit group، وهو الوضع الاجتماعي الذي لا يجد فيه المرء نفسه إلا مع أقرانه، ما ينتج شعورًا بالأمان واستقرار الهوية الاجتماعية، ويرسخ الاستبعاد الطبقي الشرس في مصر.
إن الرد المناسب على سؤال هوية مصر يكون بسؤال آخر: هل إيجاد "هوية مصر" الحقيقية سيحل المشاكل الواقعية للمجتمع؟ ماذا تغير عندما تأكدنا واتفقنا أن هوية مصر إسلامية أو فرعونية؟ هل قلَّ الفقر والتفرقة الطبقية أو الاستغلال في مصر؟
جدال الهويات جدال فارغ من الأصل، لأنه ينفي الواقع التاريخي الطبقي للمجتمع، وينفي حاضره. وأيضًا لأنه يقتل فكرة علم الاجتماع من الأساس، فعندما يقول الدكتور عمار في مقاله "لكنَّ ذلك كله ذاب في الثقافة المصرية، القادرة دومًا على الصهر والاستيعاب"، فهو يطرح فكرة الصلابة والجمود في المجتمع وبين الطبقات وفي التاريخ عمومًا، لكن كما يقول الكاتب فرنسوا بيجودو، فإن "الصيرورة هي القدرة على الحركة، والبقاء دائمًا في حالة تحول. إن الهوية، إذا كان لهذه الكلمة أي معنى، تطرح فكرة أنها نفس الشيء دائمًا وطوال الوقت، وهذا ما يدعيه نشطاء الهوية. فعندما يتكلمون عن الهوية الفرنسية، والهوية الأوروبية، والعرق الأبيض، والهوية المسيحية، هم من أجل ثبات الأشياء ودوامها".
هذا الجدال الهوياتي هو ذروة "سياسة النعامة" لأنه يبعد الجدال عن المشاكل الاجتماعية. فبدلًا من إيجاد حلول مادية للبؤس الاجتماعي المصري الواضح للجميع، والذي يزيد يومًا بعد يوم، يجادل المثقفون أنفسهم عن "هوية" مصر، فيما يشبه الهروب من الواقع المادي الاجتماعي لصالح جدال عن أشياء غير مهمة.
وبينما ينغمس المثقفون في هذا الجدال، تبقى المشكلة الأساسية متعلقة بعلاقات الإنتاج، فكما يقول مرة أخرى فرنسوا بيجودو "إن موقفنا في سوق العمل هو الذي يحدد حياتنا الاجتماعية وبالتالي حياتنا كمواطنين. مهما كان وضعك، حتى عندما تكون عاطلًا عن العمل، فالشخص العاطل عن العمل يفكر طوال اليوم في الوظيفة التي لا يشغلها أو التي يمكن أن يشغلها. إن العمل هو ما يحدد الأجر، وهذا يحدد جزءًا كبيرًا من الحياة الاجتماعية، المشروطة بمقدار ما يكسبه. يبدو شيئًا مختزلًا للغاية ولكن يجب التأكيد عليه. هذا لا يمنعنا من الاهتمام بقضايا أخرى مثل أشكال التحرر، والعنصرية، التعليم. لكن قيمتنا الاجتماعية اليوم مرتبطة بقيمتنا السوقية، وهذه هي الكارثة العظيمة. نحن مجبرون على تسليع أنفسنا. لذلك، علينا تأكيد أن ما يجعلني آكل يجب أن يهمني سياسيًا، وهذا هو التحرر الحقيقي".