رغم أنَّ هوية مصر معروفة لكلِّ منصف، وفق طبقاتها الحضارية الثلاث: الفرعونية والمسيحية القبطية والعربية الإسلامية، سبيكة واحدة بشرائحها المتتابعة في هذه الحقب الثلاث، فإنَّ كثيرًا من الأشياء والأسماء والرموز والظواهر في حياتنا المعاصرة تخاصم هذه الهوية، أو تتمرد عليها بطريقة سلبية، انزلقت لتصبح وجهًا من وجوه أمراضنا الاجتماعية المزمنة، التي لم تعد خافيةً علينا، بل تقتحم عيوننا أينما نظرنا، وترج آذاننا كلما أنصتنا.
يكفي أن نرفع عيوننا لنقرأ لافتات المحلات على اختلاف أنشطتها، لنرى كيف استحبَّ أصحابها أسماءً أجنبية، أو كتبوا لافتاتها بحروف إنجليزية، بما فيها من أسماء عربية أصيلة. ولم تنجُ من ذلك أنشطة تجارية في أحياء شعبية، وحارات وعطفات وأزقة معزولة، كثير من سكانها لا يتحدثون أيَّ لغة أجنبية، وحتى لا يجيدون العربية الفصحى.
لفت هذا عام 2007 انتباه المفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، فرفع دعوى قضائية لمواجهة هذه الظاهرة، يطالب فيها بتعريب أسماء الشوارع والمحلات واللوكاندات والفنادق المحلية. وتضامن معه في دعواه عدد من المثقفين، وحظي الموضوع بنقاش وقت إثارته، لكنه لم يلبث أن ترنح وخفت ومات، ولم تأخذ هذه الدعوى طريقها الاعتيادية في التقاضي، ولم ينبرِ لها "برلمان" ليصدر بها تشريعًا، وزاد الناس في استعمال اللغات والحروف الأجنبية لتسجيل وتقنين وإشهار مختلف الأنشطة التجارية والصناعية والمعمارية.
كان المسيري ومن معه يريدون أن يملأوا عيونهم ذات يوم بلافتات مستمدة أسماؤها من الهيروغليفية أو القبطية أو العربية، تُكتب باللغة الأخيرة، السائدة والمتداولة في مصر، لتعبر عما ينطق به أهل البلد، وتعطي مصر جزءًا من خصوصيتها أو شخصيتها أمام عيون الغرباء، وفي آذانهم، لكنَّ هذه الأمنية ذهبت سدى.
الإنجليزية في كل مكان
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اجتاحت حياتنا في السنوات الأخيرة ظاهرة مقلقة في ملاعب الكرة، حيث زاد استخدام لاعبي كرة في الدوري المصري لأسماء لاعبين أجانب، حتى صار ذلك حالة مألوفة، لا نجد لها مثيلًا في أي بلد آخر. ويبرر هؤلاء اللاعبون ومدربوهم هذا بأنهم يتيمنون بأولئك اللاعبين الكبار المشهورين، وبعضهم يعزو هذه الأسماء إلى التشابه في السمات الجسمانية أو طريقة اللعب، بدرجة أقل طبعًا، مع اللاعبين الأجانب. ولم يتحرك اتحاد الكرة ليوقف تمدد هذه الظاهرة، بل إنَّ المعلقين ومن خلفهم الجمهور بدأ يألفها، ويرددها كأنها حقائق دامغة.
وأمعن منشئو الكومبوندات في تسميتها بأسماء أجنبية، ويعتبرون هذا جزءًا مهمًا من قوة الجاذبية التي تحملها، تُسهِّل الدعاية لها، وتجذب أولئك الذين يحلو لهم أن يتيهوا على الآخرين بسُكنى أحياء لا يتهادى نطق أسمائها لبسطاء الناس في سهولة ويسر، بل يندهشون للوهلة الأولى حين يسمعون هذه الأسماء، ويدركون الحدود السميكة المرتفعة التي تفصلهم عنها.
وما يزيد الطين بلة، أنَّ مؤسسات عُرفت بين الناس بـ"الوطنية"، تطلق على أسماء منشآتها أسماءً أجنبية. فكثيرٌ من الفنادق والمدن التي أنشأتها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة المصرية، تحمل أسماء أجنبية، ولافتاتها لا تُكتب بحروف عربية، متساوقة في هذا مع الخطاب الموجه للطبقة المرفهة، التي تنظر إليها المؤسسة العسكرية على أنها القوة الاستهلاكية لمنشآتها ومختلف الخدمات التي تقدمها.
كانت مصر معروفة بالانفتاح على الأسماء الأجنبية لكنها لا تتركها على حالها بل تصهرها وتعيد سبكها
ومع انتشار التعليم الأجنبي باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، صارت الأسماء الأجنبية مألوفة للملتحقين به، خاصة بين أولئك الذين يستخدمون لغة أجنبية في أحاديثهم اليومية، أو يرصعون بمصطلحاتها لهجتهم المصرية، وبعضهم يعتبر ذلك وجاهة اجتماعية أو تمكُّنًا طبقيًا.
على التوازي، وُجدت طبقة لا تريد أن تقرأ باللغة العربية، حتى إنَّ بعض دور النشر المصرية تخصصت في تقديم ترجمات إنجليزية وفرنسية لبعض الروايات والكتب، ليست موجهة للأجانب، ولا يتم تسويقها وتوزيعها في الخارج، إنما في سوق القراءة المصرية. وبعض دور النشر المتخصصة في إصدار كتب عربية، في مختلف التخصصات، لجأت هي الأخرى إلى ترجمة بعض الأعمال الصادرة عنها لتكون في متناول شباب مصريين يفضلون القراء بلغة أجنبية، لا سيما أنهم باتوا القادرين على شراء الكتب، في ظلِّ ارتفاع أسعارها.
من قبل كنا نواجه هذه الظاهرة على استحياء ونتندَّر بها، كأن نجد واحة تُسمى "باريس"، ونعتبر هذا من قبيل الغرائب والطرائف في حياتنا، ونبحث عن سبب هذه التسمية، ونكتب في ذلك موضوعات صحفية.
وكان الناس قبل عقود يستهجنون الأسماء الأجنبية للمحلات، حتى لو كتبت بحروف عربية. وربما كان أصحاب هذه المحلات يترددون أو يخجلون من الأسماء التي اختاروها لأنشطتهم، وهم يتقدمون للحصول على تراخيص لها، لكنهم اليوم يتقدمون في ثقة، بل وبفخر.
ليس استيعابًا بل مسخ للهوية
كانت مصر معروفة من قبل، وبحكم الثقافات التي توالت عليها بفعل تعاقب المحتلين والمهاجرين والباحثين عن عمل، بالانفتاح على الأسماء الأجنبية، لكنها لا تتركها على حالها، إنما تصهرها وتعيد سبكها ودمجها في اللغة العربية، سواء كانت أسماء أشخاص أو أشياء أو صفات أو طقوسًا.
فوجدنا على سبيل المثال أسماء عائلات تعود إلى مختلف البلدان، بعضها لاسم البلد كله مثل "العراقي" و"المغربي" و"الجزائري" و"الشامي"، وبعضها لأسماء مدن في هذه البلدان، أو قبائل أو عشائر أو عائلات تاريخية شهيرة، أو حتى لمهن شهيرة.
ووجدنا عائلات مصرية تعود أسماؤها إلى وظائف مملوكية، بحكم تجذر المماليك كأسماء وطقوس ومهن وطرق إدارة وثقافة، في التربة الاجتماعية المصرية، حسبما ورد في كتاب "تراث العبيد في حكم مصر المعاصرة.. دراسة في الاجتماع التاريخي"، وهو لمؤلف مجهول، فالخميسي هو المملوك الذي اشتروه بخمسة دراهم، والعشري بعشرة دراهم، والميهي بمائة درهم، وميتكيس بمائة كيس، والدوادار هو حامل المحبرة، والخازندار هو مسؤول الخزانة، والترابي هو العبد الذي بيع صغيرًا، والخاشوقجي هو بائع الحلوى، والشوربجي هو من يوزع المرق، والخلقاني هو بائع الملابس القديمة، والدالي هو الجندي المرتزق، وزعلوك هو العبد المعيوب، والطرخان هو المقاتل الذي كبر في السن فمنح أرضًا يتعيش من ريعها. وقد أورد لويس عوض في سيرته الذاتية أوراق العمر العديد من الأسماء المصرية التي تعود إلى العصور القبطية والبيزنطية والإسلامية.
ومصر هي البلد الذي سميت بعض شوارعه بأسماء حكام من محتليه، وبعضهم ظلم شعبه، لنجد شارع "سليم الأول" وشارع "الخليفة المأمون" و"شارع المعز لدين الله الفاطمي". وهناك شوارع تسمى بأسماء بلدان عربية كشوارع "إيران" و"دمشق" و"سوريا" وميدان "لبنان"، وهناك شارع "فيصل" و"عبد العزيز آل سعود".. إلخ. وكل دولة تمكنت في حي من الأحياء وبنت فيه قصور وسرايات وبيوت وجهائها، لا تزال أسماء شوارعها وحواريها هي أسماء رجال هذه الحقبة الكبار.
لكنَّ ذلك كله ذاب في الثقافة المصرية، القادرة دومًا على الصهر والاستيعاب، وعدَّه الناس جزءًا من تاريخ مصر وتفاعلاتها الإقليمية والدولية، ومن فضائلها الدائمة على أنها بلد مفتوح أمام الجميع، دون صدٍّ ولا تزمت.
أما ما نراه الآن من توسع، بل توحش، لسيطرة الأسماء الأجنبية على شوارع المدن المصرية، خصوصًا الكبرى، لا يدخل ضمن هذه الفضيلة، ولا يُترجم تمكن مصر من الصهر والاستيعاب، بل يبدو نوعًا من مسخ الهوية الذي يجب التصدي له، والخطأ الذي يجب تصحيحه.