هناك فرق بين "الدولة" و"الأمة"، ففي العالم المعاصر توجد مئات الدول، بعضها قديم، وبعضها حديث، بعضها مستمر، وبعضها قابل للاختفاء أو الانشطار والتقسيم. لكن هناك دولًا قليلة جدًا، انتظمت في وحدة سياسية، وتحمل صفة "الأمة"، وهي عصية على الغياب، لأنها تحمل في باطنها عوامل بقائها، تتراجع ثم تعود لمكانتها، أقدمها مصر. فهي "أمة الأمم" لفضل الحضارة المصرية القديمة على العالمين، وهذه هويتها، رغم توالي القرون، واختلاف الأحوال.
الدولة مفهوم سياسي، شعب وأرض وحكومة وسيادة، بينما الأمة تنظيم اجتماعي، وإن قامت فيه إدارة أو سلطة لتسيير شؤونه. والأمة جماعة من البشر تعيش على رقعة من الأرض لفترة زمنية طويلة، تربط بين أفرادها روابط مشتركة كالدين واللغة والعرق والإقليم والعادات والتقاليد والتراث والتاريخ والآمال المشتركة.
وقد توجد الأمة فى عدة دول، وقد توجد داخل دولة واحدة، لتصبح بهذا هي التكوين الاجتماعي الذي يتحقق بمقتضاه الامتداد القانوني والمتضامن بين الأجيال المتعاقبة، التي يعي كل فرد فيها بالشخصية المتميزة لهذا التكوين، وضرورة التعبير عنه.
ووصف مصر بالأمة ليس فيه أي شيء من الاستعلاء أو الزهو، فهذه حقيقة يعرفها الآخرون. وقد يتعجبون من جهل كثيرين منا، بل أغلبنا، بها، أو تزعزع ثقتهم فيها، إما بنظرة قاصرة إلى تاريخ من الاحتلال المتواصل الذي تعرضت له مصر، أو بتقييم الأوضاع الصعبة التي تمر بها الآن، وسبق لها أن كابدت من مثلها على مدار القرون التي خلت. ولا يجرح مفهوم الأمة المنطبق على مصر انتمائها إلى "الأمة العربية"، التي يربطها اللسان، أو عضويتها في "الأمة الإسلامية" بفعل دين الأغلبية العددية.
وتدرك النخب السياسية في بعض الدول أهمية أن تكون دولتهم أمة، ونرى ذلك عند الأمريكيين الذين يحلو لهم أن يصفوا الولايات المتحدة بأنها "الأمة الأمريكية"، ويُرصِّعون خطابهم السياسي المحلي والدولي بذلك الوصف، رغم حداثة بلادهم، وتوزعها على ولايات يقوم بينها اتحاد فيدرالي، يسمح لكل ولاية بأن تختلف عن الأخريات في القوانين وبعض السياسات.
لكن هذا الوصف لأمريكا فيه كثير من التجوز والتجاوز والمجاز، بينما لا يحتاج الصينيون إلى بذل جهد كي يراهم الآخرون أمة، وكذلك الهنود والروس وغيرهم. فطبيعة التكوين التاريخي لتلك البلدان، وتجانس الثقافات السائدة فيها، وارتباط المواطن الوثيق ببلده، والصورة التي نجحت في رسم ملامحها أمام أعين العالم، يجعلها تدرك ذاتها على أنها أمة.
على النقيض من ذلك يخطئ المصريون مرتين، الأولى حين يتحدثون عن بلدهم العريق على أنه مجرد "دولة"، رغم استمراره آلاف السنين، فنراهم مثلًا يهتفون أثناء ثورة يناير "مصر دولة مش معسكر". والثانية حين تهتز ثقتهم في بعض الأحيان في تماسكها، وتملؤهم هواجس تنشأ بين حين وآخر على أنها قابلة للتقسيم أو الضياع، وفق خطط مدسوسة، أو مؤامرات مكشوفة.
وذلك الخطأ لا يقتصر على الشعب إنما يمتد إلى السلطة الحاكمة، التي رأيناها تصف مصر بأنها "شبه دولة"، على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي. فإن ارتقى بها وصفها بـ "الدولة" وقال إنه ظل يدرس معناها لخمسين سنة، قبل أن يتولى حكمها في يونيو 2014. بل الأفدح من ذلك، أن السلطة رضيت بإلغاء اسم مصر أحيانًا، مثلما حدث أيام حكم جمال عبد الناصر حين صارت بلادنا هي "الجمهورية العربية المتحدة".
لهذا أتعجب من ذلك الجدل الذي يتجدد، مثلما رأينا عقب قيام ثورة 25 يناير 2011، حول هوية مصر، هل هي عربية أم إسلامية أم قبطية أو فرعونية؟ ونرى كل حزب في ذلك بما لديهم فرحين، منافحين عنه أخذًا وردًا، ومدحًا وقدحًا. مع أن النظرة الهادئة التي تتوخى الدرس العلمي، والنظرة العقلانية، تقول بجلاء إن مصر هي مصر، وهذه هويتها وكفى، وضمن تلك الهوية كانت مصر، ولا تزال، قادرة على هضم كل الهويات، لتكون روافد ثقافية ودينية تصب في مجراها العميق الوسيع، فتزيده حيوية ومرونة.
السلطات المتعاقبة لم تُفقد مصر سمات الأمة وقسماتها
في مصر الأمة، أو الأمة المصرية، تعاقبت دول كثيرة، سادت ثم بادت. فرأينا في الألف سنة الأخيرة الدولة الطولونية، والأخشيدية، والفاطمية، والأيوبية، والمملوكية التي استمرت بطريقة غير مباشرة مع الاحتلال العثماني، حتى جاءت أسرة محمد علي وحكمت مصر نحو مائة وخمسين سنة، ثم تسلمت الحكم المؤسسة العسكرية، ولا تزال.
وقبل ذلك رأينا حكم الأسر الفرعونية المتتابعة، وحكم محتلين تعاقبوا على اغتصاب مصر، كالفرس والهكسوس والإغريق والرومان. وفي بطن تلك الحقب التي تمتد إلى قرون، كانت عهود ومراحل وأنماط متغيرة نسبيًا من الحكم.
لكن السلطات المتعاقبة لم تُفقد مصر سمات الأمة وقسماتها، لنجد المصريين يمتلكون قدرة فائقة على الاحتفاظ بصفاتهم أو جيناتهم الحضارية، المنداحة في الثقافة الشفاهية، الكلامية واللغوية والطقسية وفي الرموز والإشارات، وفي الإحالات التي تجعل الناس في بلادي، وكذلك الآخرين، مطمئنين إلى الحديث عن بلد الفراعنة، ويسحبون ذلك الوصف حتى على المنتخب الوطني لكرة القدم.
وما ساهم في الحفاظ على الأمة قدرة مصر على صهر الغريب، وطبعه بطبعها، ثقافيًا، بل صبغ الأديان نفسها التي تعاقبت على مصر، وتجاورت أو توازت، بصبغة الرؤية أو التصور أو الطريق أو المسار المصري، الذي نراه مستقرًا في التدين الشعبي، أو التدين المصري، كما يمكن وصفه، وتقديم الأدلة عليه.
كما ساهم في ذلك أيضًا أن العرق المصري هو عرق سائد وليس متنحيًا. بدليل أن التحليلات أو الفحوص الجينية أثبتت أن الأغلبية الكاسحة من المصريين تنتمي خلاياهم الجسدية إلى مصر القديمة، رغم اختلاطهم على مدار تاريخ طويل بأجناس أو أعراق مختلفة، جاء بها المحتلون أو أولئك الذين هاجروا إلى مصر واستوطنوها بلا انقطاع، وتزوج رجالهم من مصريات، فيما تزوج المصريون من أجنبيات، وتوالت الأجيال على مدار السنين.
وساهم أيضًا التجانس الاجتماعي في إعطاء المجتمع المصري مرونة ظاهرة طوال الزمن، جعلته قادرًا دومًا على ترميم شروخه، وسد فُرجه، وتجاوز أزمات اجتماعية وارتباك شديد أدى في بلاد أخرى إلى تزعزعها وتفككها لتصبح أثرًا بعد عين.
وإيماننا بأننا "أمة"، وهذا حق وحقيقة، يعطينا قدرًا كبيرًا من الثقة في أنفسنا. وهي ميزة يجب أن نترجمها أولًا في الحفاظ على بلد ورثناه وورثنا، وتلونت بشرة أغلبنا بلون أرضه، وثانيًا في الاعتزاز به، والعمل الدائم والدائب على رفعته، وثالثًا في التخلي عن المخاوف والهواجس التي يطرحها بعضنا مشككين في بقاء تلك الأمة، لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، أو لفتنة طائفية، واحتراب أهلي.
لقد رأينا أولئك الذين يتبادلون على الإنترنت خرائط مزعومة عن تقسيم مصر إلى دويلات، أو يتحدثون عن موت بلادنا إن جف النيل، أو حاجتها المادية الكبيرة والملحة التي تجعلها تمد يدها إلى الآخرين طالبة العون والمساعدة، أو معاناتها المستمرة من الاستبداد والفساد، التي لخصها الشاعر أمل دنقل في بيت شعر يقول:
"لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد"
أو نزار قباني في قصيدته التي عنونا بـ "متى يعلنون وفاة العرب"، أو حديث أدونيس عن "أمة عربية ميتة"، في مركزها بالطبع مصر، التي يراها العرب قلبهم النابض، ويؤمن بعضهم بأن دونها لا وجود حقيقي لهم، أو كما قال حافظ إبراهيم:
"أنا إن قدر الإله مماتي .. لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي"
فالحقيقة التاريخية توضح بجلاء أن مصر ما إن تنكسر حتى تنتصر، وما إن تضعف حتى تقوى، وما إن تترنح حتى تقيم ظهرها من جديد. فهي بلد مر بدورات زمنية من التراجع والتقدم، ومن الإحجام والإقدام، واستطاع أن يحقق ذلك في زمن وجيز، وكان هذا محل دهشة غير المصريين واستغرابهم.
ولا أستطيع أن أفصل تلك القدرة عن إحساس دفين يسكن أفئدة المصريين وعقولهم بأن بلدهم "أمة"، حتى لو لم يعبروا عن ذلك لفظيًا، أو يسجلوه كتابيًا، أو يستحضروه كثيرًا، خاصة في المشكلات والملمات والمصاعب الجمة التي تعترض طريقهم دون توقف.