من يمعن النظر في معارك "الفكر الديني" التي شهدتها مصر على مدار القرن العشرين يخرج بنتيجة عريضة، تلخص المشهد العام للنزال الفكري الذي شحذ الهمم وألهب الحناجر، وهي أن التحديات التي طرحها أصحاب الأفكار "غير المألوفة" كانت دومًا أكبر من الاستجابات التي جاد بها من تصدوا لتلك الأفكار ومنتجيها.
لم يحدث ذلك لأن أتباع الفريق الأول أقوى حجة وأنصع برهان، بل لأن أغلب أنصار الفريق الثاني لم يحسنوا اختيار أداة النزال، مما قاد في النهاية إلى ترك تلك المعارك من دون حسم، تتجدد توابعها من آن لآخر، وجعل كثيرين يشعرون أننا نحرث البحر.
وتحت هذه النتيجة الكلية هناك استنتاجات فرعية، لا تخطئها عين بصيرة، ولا يهملها عقل فهيم:
1- كل محاولات مواجهة الفكر بغير الفكر انتهت إلى عكس ما قصد أصحابها. فالكتب التي حوربت باتهام مؤلفيها بالكفر أو العمالة، بدوافع سياسية أكبر من العناصر الفكرية في التصدي لها، باتت أكثر شهرة وأوسع رواجًا، وبدا أصحابها "أبطالًا" حتى في نظر بعض العوام، وحصدوا من المكانة ما لم يكن بوسعهم بلوغه لو ظهر من يفند أفكارهم علميًا، انطلاقًا من أن الطريق أمام البحث المنهجي يجب أن يكون خاليًا من أي عثرات.
2- إن الحكم على كثير من الأفكار التي دارت حولها تلك المعارك، لم يخل من التربص الذي صنعته الضغائن الشخصية، والسعي إلى تصفية الحسابات، والانتصار للمصالح الضيقة، حتى لو كان ذلك على حساب الحق.
3- إن التعامل مع نوايا من أثاروا تلك المعارك الفكرية على أنها "خبيثة" على الدوام، مسألة تفتقد إلى الدقة، وتحتاج إلى مراجعة وتفاديها مستقبلًا. فبعض هؤلاء وقع ضحية لنقص المعلومات وتشويهها أو التأويلات الخاطئة للنصوص، أو التسرع في إصدار الأحكام. وبعضهم أراد أن يدافع عن الإسلام فراح يجتهد، وكان يجب التعامل مع ما أنتجه على أنه اجتهاد خاطئ، وليس مؤامرة لتشويه الدين أو النيل من الهوية المصرية.
وبعضهم كان يرمي إلى منع آخرين من استغلال الإسلام في تحصيل مكانة سياسية أو مكاسب مادية، وبعضهم أراد أن يُلقي حجرًا في بحيرة الفقه الراكدة ليمنعها من التعفن، بفعل الفجوة الزمنية الواسعة بين تخرج الأحكام وحركة الواقع المعيش. وهناك من كان به علة من نقص فأراد أن يلفت الانتباه إليه فتجرأ على العقيدة، وصدم الناس في دينهم، واتبع مبدأ خالف تُعرف، طارحًا أفكارًا غريبة لا دليل عليها.
إن إحالة الخلافات الفكرية والفقهية إلى ساحات القضاء هو العجز بعينه
4- كثير من أصحاب تلك الآراء حادوا عنها، بعضهم انقلب عليها مائة وثمانين درجة، مثل خالد محمد خالد الذي ألف كتابًا بعنوان دين ودولة تراجع فيه تمامًا عما جاء في كتابه من هنا نبدأ من اقتناع بفصل الدين عن الدولة. وبعضهم راح يعدل جزئيًا في أفكاره مثل طه حسين، الذي أعاد طبع في الشعر الجاهلي بعد أن حذف منه ما أغضب الناس، لكنه لم يفعل الشيء نفسه حيال كتابه الآخر مستقبل الثقافة في مصر، الذي كانت نقطة الشد والجذب فيه تدور حول الهوية، وليس العقيدة.
أما منصور فهمي فصدمه ما قوبل به من "استهجان اجتماعي" فراح يعيد قراءة المراجع التي اعتمد عليها في أطروحته للدكتواره عن المرأة في الإسلام، فاكتشف أنه لم يتأن في الإحاطة بكل ما جاء به النص الإسلامي من قرآن وسنة وانتاج الفقهاء. فلما أحاط علمًا غيّر أفكاره، وتحول إلى الدفاع عن الإسلام، لكن هذا لم يمنعه أن يظل حتى آخر أيامه غاضبًا من عدم توافر حرية الفكر وحق الاجتهاد.
وهناك من أصر على موقفه حتى آخر أيام حياته، مثل الشيخ علي عبد الرازق، الذي بدا واثقًا مما انتهى إليه في كتابه الصغير الأثير الإسلام وأصول الحكم.
ومعنى هذا أن الجدل الفكري، ومقارعة الحجة بالحجة، وتوافر شروط النقد الذاتي، كفيل بتعديل ما اعوج من فكر، وتقويم ما شذ من رأي. أما الإرهاب الفكري، ورمي الناس بالفسوق والخيانة، فيؤدي إلى عناد حتى ولو في الباطل، بل ويساعد ضعاف النفوس على تحقيق ما يسعون إليه من شهرة أو مال.
5- من الضروري أن يثق المتدينون في عقيدتهم، وأنها أقوى من أن ينال منها رأي أو يهدمها فكر. لقد برهنت الحياة أن الإسلام مثلًا لم تضره السهام التي رُمي بها، بل زادته قوة، لأنه ينطوي على بساطة في العقيدة تتأسس على الإيمان بوحدانية الله وكمال صفاته، والعلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، وعدم إغفال النية مع ترك الحكم عليها لمن يعلم ما تخفي الصدور، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، علاوة على مواكبة قواعد وأحكام الإسلام للفطرة الإنسانية.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الإلحاد، وإن كان في أغلبه موقف نفسي أو لنقص معرفي أو ارتباك، فمن حق كل إنسان اختيار الاعتقاد الذي يؤمن به. ومن ثم، فإن القابضين على دينهم عليهم أن يتساموا في مواجهة أي رأي يرون فيه شبهة تجديف بالدين، والتصرف من منطلق أن ما هم عليه أقوى من أن تهزه سطور عارية في قصيدة، أو أفكار خارجة بين دفتي كتاب.
وعليهم فقط أن يبحثوا في الدين عما يدحض ما يطرحه مخالفوهم في الرؤية، وأن يطلبوا من الله لهم الهداية، من دون أن يتحول المؤمنون إلى قائمين مقام الله في الحكم على نوايا عباده، ومحاسبتهم عما يدور في طويتهم.
6- إن إحالة الخلافات الفكرية والفقهية إلى ساحات القضاء هو العجز بعينه. ففي أغلب الأوقات لم يكن القضاء مؤهلًا للنظر في مثل تلك القضايا، فجاءت الأحكام قاصرة مبتسرةـ تنطوي على جهل بمعنى ومبنى الأفكار محل الخلاف. وفي أوقات أخرى لم يكن القضاء بعيدًا عن الضغوط السياسية والاجتماعية في فضه لذلك النوع من المنازعات، فجاءت أحكامه جائرة.
والأفضل أن يتم تكوين لجان محايدة، يتم اختيار أعضاؤها حسب كل قضية، تدرس الأفكار التي تثير جدلًا، وتدلي برأي شامل فيها، ينهي التنازع، ويريح النفوس، ويجلي العقول التي تستغلق أحيانًا أمام الفهم.
من الخطر أن تتم تعبئة العوام خلال المعارك الفكرية، أو استغلالهم في ترجيح رأي على آخر، أو إرهاب صاحب فكر
7- بعض المعارك الفكرية قامت نظرًا لجمود الفقه الإسلامي والاكتفاء بما أنتجه الرعيل الأول من العلماء، من جهة، والخلط بين "الإلهي" و"البشري" من جهة ثانية. آن الأوان لفقه جديد، وللتفريق بين الإلهي والبشري في النصوص. فلا قدسية إلا للقرآن والأحاديث القدسية، وما ثبت صحته من الأحاديث النبوية بعد قياسها على المبادئ والأحكام التي جاءت في النص الأول والمؤسس وهو القرآن، وعلى المقاصد العامة للشرع الإسلامي.
أما الاجتهادات التي أنتجتها حركة الفقه منذ صدر الإسلام وحتى اللحظة الراهنة، فهي عمل بشري. بعضه لا يصلح مطلقًا لزماننا، ولا يجب أن يُحاط بهالة مقدسة، ولا يتمتع منتجوه بعصمة، ولا يكتسب أهميته إلا لكونه جزء من تاريخ الفقه، وفي بعضه ما يرشد إلى فهم قضايا دينية معينة، من دون أن ينسحب ذلك على جميع الفقه وكل القضايا.
8- من الخطر تعبئة العوام خلال المعارك الفكرية، أو استغلالهم في ترجيح رأي على آخر، أو إرهاب صاحب فكر. فهذه القضايا تكون من التعقيد بما لا يمكن للعامة الإحاطه بها كاملة. ومن ثم، فإن إشراكهم في المعركة يزيد الأمور حرجًا، ويسوق أهل الرأي في اتجاه ترضية الناس وكسبهم، وليس في طريق الانتصار للحق والحقيقة.
ولأن رأي العوام يميل دومًا إلى المحافظة، وينزع إلى التمسك بما هو سائد، فإن فرص إحداث تراكم معرفي أو تقدم فكري تتضاءل. في الوقت نفسه، ليس المطلوب من أصحاب الرأي، أيا كانت مواقفهم، أن يصدموا الناس فيما يعتقدون، ففي ذلك اعتداء على حريتهم، وإضرار بسلامتهم النفسية.