تباع ثمرة التين الشوكي في السيدة زينب بجنيه واحد. وفي الحي الخامس، وهو حي مرفه، تباع بجنيهين. وفي حي فيصل الأفقر، القريب من الأهرام تباع بخمسين قرشًا. هذه ليست دولة موحدة، فحتى التين الشوكي يقسمها.
في أيام مراهقتي الخالية من الهموم، في كل مرة كانت تقترب فيها الطائرة من الساحل المصري، كان قلبي يرقص من الفرح .
ولكن كمحلل يتزايد في رأسه الشعر الأبيض، ويحاول أن يحل لوغاريتمات الحكم السلطوي في مصر، انضممت إلى مجموعة الناس الذين يخشون النوم. وحتى تعرف مصدر الكوابيس التي أخشى منها، يمكنك قراءة آخر تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش عن التعذيب السائد في مصر.
منذ عدة أسابيع، عندما نظرت من نافذة الطائرة ورأيت أول لمحة من شمال مصر، توقفت نبضات قلبي بسبب الرعب، هل سيسمحون لي بالدخول؟
كونك بالداخل أو بالخارج، لا تعتبر مسألة هامة بالنسبة لمن يحكمون، وجهة نظرهم هي: إذ قوضت سرديتنا، سنسعى لتقويض وجودك بطريقة أو بأخرى. رغم ذلك، استطعت الوصول إلى العاصمة بأمان.
ما زالت ملامسة التراب المصري تصيب المرء بالقشعريرة، رغم مرور كل هذه السنوات بالخارج، وبغض النظر عن القلق. من كان يتخيل أن ثمرة فاكهة التين الشوكي لا أكثر، ستتيح لي انغماسًا عميقًا في الواقع المصري، لأنني نفسي لم أتخيل ذلك.
ضغط لا بد منه
الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي اعتبره العديد من الناس ضروريًا، وضع الاقتصاد، الذي كان مريضًا طريح الفراش، على جهاز التنفس الصناعي. كان هذا الموضوع حاضرًا في معظم الحوارات وكأنه رفيق خفي.
وعلى الرغم من أن معظم الناس الذين تحدثت معهم، لم يكونوا يميزون بين إجمالي الناتج المحلي أو الميزان التجاري، أو التضخم الأساسي (دعك من تجاوزه لـ 30% لعدة شهور)، فهم كانوا يعرفون شيئًا واحدًا: إن الأسعار لم تتوقف عن القفزات التي يبدو أن لا نهاية لها، ذلك الذي يعانون منه.
من جهة صندوق النقد، يرى أن الجنيه المصري الذي تم تعويمه، وصل إلى حالة "توازن حقيقي"، ولكن هذا "التوازن" جعل سعر الصرف يهبط من 8.88 للدولار إلى الرقم المميت 17.67 للدولار، مدمرًا القوة الشرائية، وسقطت كل طبقة إلى درجة أقل.
بالإضافة إلى ذلك تظل الأجور المصرية راكدة إلى حد كبير، دخل الأسرة المصرية المتوسطة متوقف عند 128 دولار في الشهر وفقًا لإحصائيات شهر أغسطس/آب عام 2017. في مطعم "فلفلة"، وهو من المطاعم المفضلة في وسط البلد، يبلغ سعر طبق الفلافل المحشوة المخصص لشخص واحد تسعة جنيهات، ويعتبر هذا عبئًا ماليًا لا يقدر عليه العديد من الناس.
المشكلة هي أن الفلافل والفول يمثلان الوجبة الأساسية في مصر، وهما الشيء الوحيد الذي يفصل ملايين المصريين عن هاوية خط الفقر.
من الخمس نجوم إلى الفلافل
بطريقة ملتوية، إذا كان الجميع فقراء ويشعرون بضغط متساو، سيؤدي هذا على الأقل إلى إلى التخفيف من أثر التناقض الطبقي. ولكن بدلًا من ذلك، فالفارق الوحشي بين من يملكون ولا يملكون هو الذي يدفع مصر إلى المنطقة الخطرة.
قضيت ليلتي الأولى في القاهرة وأنا أدرس هذه الثنائية. الدولار القوي جعل الفندق الخمس نجوم الذي يطل على النيل مقبول السعر. ولكن لعدة أيام كان الفندق، الذي بُني خصيصا لخدمة 1% من السكان، مسكنًا غير متسق مع ما حوله.
تخيل نافذة باتساع 16 قدمًا في 7 أقدام تطل على نهر مجيد، حتى أن أضواء الفلائك تبني جسرًا مفترضًا يصل إليها، في غرفة يبدو أنها لا تمس، ويخجل الغبار من الدخول فيها.
على مسافة 15 دقيقة، تصل ميدان السيدة زينب الذي تجد فيه أكثر الأماكن والبشر أصالة في القاهرة. ولكن إذا كان للفقر صوتًا، سوف يصرخ هنا.
وسط الروائح النفاذة للكفتة والكباب في هذه المنطقة الفقيرة ترى الوجوه المنهكة والمضغوطة، وفي بعض الأحيان المستعدة للانقضاض.
لم يتحول الجميع لموتى أحياء بسبب قسوة الحياة اليومية بالقاهرة. المطعم الصغير الذي يقدم أطباق لحم مدخن لديه موظفين مبتسمين، ربما ممتنين لأن الزبائن ما زالوا يزورونهم.
أنهينا غداء لذيذًا جدًا بحيث لم تعد هناك مساحة لشيء آخر. ولكن على الجانب الآخر من الشارع كان يقف رجل بعربة خشبية صغيرة عليها ثمار التين الشوكي، وهي مطلب صيفي لكل الطبقات في مصر. ينزع الباعة قشرتها الشائكة لتأكل ثمرة ناعمة ولذيذة.
للوهلة الأولى، لم يكن هناك شيء مميز في بائع التين الشوكي. ولكن عندما اقتربت أكثر، أفصحت عيناه العجوزتان عن قصة مكتملة، من نوع لا تبحث عنه الحكومة أبدًا، ولا تعرف كيف تفهمه إذا وجدته.
رأيت رجلًا مستسلمًا لقدره، يجهده السعي اليومي للعمل الذي لا يبدو ناجحًا. في لحظة، أخذ يعاني ليصل إلى فكة 50 جنيهًا، وكأنه يجسد معاناة ملايين المصريين. وكاد أن يبكي عندما تركت له الباقي.
التين الشوكي مفيد أيضًا في رسم صورة توضح البنية الطبقية للمدينة. تباع الثمرة في السيدة زينب بجنيه واحد. وفي الحي الخامس، وهو حي مرفه، تباع بجنيهين. وفي حي فيصل الأفقر، القريب من الأهرام تباع بخمسين قرشًا. هذه ليست دولة موحدة، فحتى التين الشوكي يقسمها.
الانكسار ليس الشعور الوحيد الموجود في القاهرة الآن، بل الغضب والذهول أيضًا، ويمكنك أن تشهد ذلك في أماكن مفاجئة.
في مساء بارد بشكل مفاجئ، شرح زوجان في منزل بالطبقة المتوسطة العليا أن الأمور صارت صعبة للغاية. بداخل الكومباوند الذي يعيشان فيه، كانا معزولين ماديًا عن الكابوس المغبر للجماهير، ولكنهما لم يكونا معزولين عن الضغوط الاقتصادية.
بينما يملكان ما يكفي لشراء الطعام والملابس، صارت مصاريف المدارس الخاصة، التي كانت مقبولة قبل التعويم في نوفمبر/تشرين الثاني، نقطة ضغط، وصارت الخطط طويلة المدى التي كانت واضحة في الماضي ضبابية الآن.
منذ أربعة أعوام، كانا يمطران السيسي بالمديح، الآن يضرب الواقع في أماكن الوجع، لم يعودوا يهتمون بالسياسة عن قصد.
بينما لا يمثل بائع التين الشوكي ولا الزوجان الأثرياء تهديدًا للنظام، فهم يمثلون المصريين الذين دعموه في الماضي – وربما كانوا سعداء ببساطة لهزيمة الإخوان – وهم سقطوا من اهتمام القيادة التي لا تتجه إلى شيء بعينه، واهتموا أكثر بالحكم المتواصل وليس بالناس الذين يحكمونهم.
الطرق والسائحون
الطبقة العليا من المصريين تتحدث عن بلد مختلف كلية. في الحوارات التي لا تقل حماسًا عن الحوارات مع الثوريين، يتحدثون عن تحسين الطرق، التي سافرت عليها بنفسي، والتي أنشأها الجيش النظامي، وهي القوة الوحيدة التي يثق فيها السيسي.
يشيرون أيضًا إلى صناعة السياحة المتنامية، والتي تحسنت بالفعل في العام الماضي، وحققت 4.4 مليار دولار ربح، وهو صعود بنسبة 16% عن عام 2016.
ولكن المتفائلين الذين قابلتهم يتجاهلون ثلاث تفاصيل أساسية وهي أن تلك الأرقام أقل بنسبة 40% من الرقم الكلي لـ 2010 الذي حققت فيه السياحة 11.6 مليار، والارتفاع الذي شهده العام الماضي هو على الأرجح نتيجة لسعي السائحين للاستفادة من سعر الصرف المميز بالنسبة لليورو والدولار، بالإضافة إلى ذلك فحدوث هجمة إرهابية كبيرة واحدة يمكن أن يقضي على المكاسب قصيرة المدى.
يمكن أن تتساءل عن مصدر هذا التشاؤم؟ كوني سافرت مرتين خلال رحلتي من القاهرة للغردقة والعكس، فالمواقع السياحي الهام للغاية على البحر الأحمر، ما زال يفتقد الإجراءات الأمنية التي تحتفي بها السلطات في مصر.
بينما كنت في المطار في رحلة متجهة من القاهرة إلى الغردقة، صودرت ولاعتي بعدما ظهرت على جهاز كشف الحقائب، وفي عودتي لم تكن لديّ ولاعة واحدة فحسب بل ثلاث ولاعات، ولكن الولاعات والكاتب عادا إلى العاصمة بدون مشكلة. لقد أخفق في النظام أن يكتشف الولاعات فقط بعد أسبوعين من نجاحه.
إذًا فحتى في ساحة الأمن والأمان، يُظهِر اقتصاد مصر المتعثر وجهه القبيح: بينما يعاني الجميع اقتصاديًا، فالتقليد المستمر للبقشيش يمكن أن يضعف أفضل احتياطات الأمن.
ما هو مستوى الصعوبة الذي سيواجهه الإرهابي ليكرر كارثة الطائرة الروسية، حين يدخل إلى الطائرة بعد رشوة حامل الحقائب الفقير للغاية؟ إذا كانت السياحة واحدة من حبال الإنقاذ المتاحة للبلد، فهؤلاء الذين يشرفون على العملية بحاجة إلى أن يتلقوا أجورًا عالية لتقليص إمكانية الاختراق.
في هذا الأسبوع، زعمت الصحافة الحكومية – المبتكرة الأساسية لمقولة "السيسي المنقذ" - أثناء خطابه في الأمم المتحدة، أن الرئيس المصري قدم خارطة طريق للعالم. بالنسبة لهؤلاء الصحفيين، فالسؤال الذي يحتاج إلى أن يُطرَح هو: هل أنقذت خارطة طريق السيسي قناة السويس، أو السياحة المصرية أو الاقتصاد المصري حتى تنقذ العالم؟
الفاكهة المختبئة
هل تبحث عن الأمل؟ وجدت ذلك في حالات فردية رائعة – طبيب كريم، صيدلي شاب لديه إخلاص كبير لبلده، وكذلك مثقف، ومعلم نادر يقوم بعمله وسط النظام التعليمي المتردي.
ولكن للأسف تلك النجاحات التي يقوم بها أفراد منعزلين لن تغير النظام المحطم.
هناك سؤالان طُرحا باستمرار أثناء زيارتي التي استغرقت 18 يومًا، وهي مفارقة ساخرة لأن الرقم يشبه أعظم 18 يومًا في التاريخ المصري: من أين سيأتي التغيير؟ ما هو البديل للمرض الذي يصيب مصر؟
نعرف أن التغيير سيتحقق، عندما يتوقف النظام عن بناء سجون جديدة ليكمل الـ 504 موقع الذي يسجن فيه النظام 60 ألف سجين سياسي، وبدلًا من ذلك نبدأ ببناء المستشفيات والمدارس والمصانع، ولكن هذا لن يحدث بدون انفجار.
من جهة الزعماء، فلو كانوا مثل الطبيب غير الأناني، وهذا الشاب الموجود في خدمة التنظيف في الفندق الخمس نجوم، أو ابن بائع التين الشوكي، سيكون هناك أمل بعد سفك الدماء الحتمي.
ولكن إذا كان مصدر الانفجار هو الجيش ضد شعبه، بالتالي فما ينتظرنا هو الأسوأ في كل العوالم؛ المزيد من الدماء والمزيد مما نعاني منه الآن. الجيش، الذي يشبه المثل المصري الذي يقول: "باب النجار مخلع"، عليه أن يدرك حدوده وأن يكتفي بحماية حدود البلد.
كان أملي أن أقول إن هذه الرحلة جعلتني أصل لإجابات، ولكنها لم تفعل، ولكنها ألقت بعض الضوء الذي اخترق ضباب السياسة المصرية، وأتاحت بعض الوضوح الضروري. ولكن لسوء الحظ، لا يمكن للوضوح أن يحميك من الحزن الناتج عن معرفة الواقع الشائك، خاصة عندما تكون على دراية بحلاوة وعد الثمرة الموجودة أسفل قشرة هذا الواقع.