وبعد، فلا شك أن ثَمّة صعوبات هائلة وعقبات عديدة تقف على طريق التغيير الوعر، سواء الآن، أو عندما تتفتح فرصته كزهرة ناضرة يومًا ما، لكن الفشل بالتأكيد ليس مصيرًا محتومًا. ولعله من العبث تناول عوامل التغيير دون التوقف أمام شرطين رئيسين - ومرتبطين- من شروطه، ألا وهما الحداثة والمعرفة.
فالحداثة الحقة - لا تلك الرثة المهيمنة على حيواتنا والمتوغلة تحت مسام شعوبنا - تعد، من الزاويتين الهيكلية والقيمية، من العوامل التي تسهِّل عملية الانتقال الديمقراطي.
في ظل التقليد يظل الوجود في بؤس، والوجوه في وجوم، والدهر في تكرار سقيم. فقط في ظل مجتمعات مغمورة في البُنَى التقليدية والمعتقدات البالية، يمكن أن تتطاير من الأفواه الأباطيل المحشوة خبلاً، مثل ما قال القذافي يومًا حين أفتى بأن الديمقراطية معناها الديمومة على الكراسي، أو أن يقول وزير في ملاوي دفاعًا عن رئيسه المستبد: "لا توجد معارضة في الجنة. الله نفسه لا يريد معارضة، ولذلك طرد الشيطان من جنته. فلماذا يجب على كاموزو (رئيس البلاد) أن تكون له معارضة؟" وفي مصر تكرر عبر السنوات استخدام عبارات مثل الزعيم الملهم والرئيس المفدي والقائد فلتة الزمان الذي هو هدية من السماء.
مع الحداثة، يأتي التنوير ويرتفع الوعي وتقضي الجهالة نحبها في ما يخص السياسة وما يخص غيرها. مخطئ أشد الخطأ من يظن أن موقف الناس من مسائل اجتماعية وثقافية محضة مثل الثقافة الأبوية وميراث الإناث والختان والنظرة للفنون والموقف من الأقليات ومن الآخر، منفصل عن موقفهم من قضايا الاستبداد والديمقراطية. بل هي في غالب الأمر منظومة واحدة كالأواني المستطرقة، ينفث بعضها في بعض، إما تنويرًا أو جهلاً.
كذلك لا مناص أبدًا من المعرفة، ففيها الخلاص الأخير من قيد الاستبداد، وهي بالتالي شرط رئيس من شروط التغيير الحق. فمهما صدقت نوايا الطليعة المستنيرة، ومهما بلغت درجة إخلاصها؛ فإن مجهوداتها تظل معلقة في الهواء إن جرت في محيط تهيمن عليه منظومة الجهل وسائر الأفكار والتصورات الناتجة عليها. أليس هذا ما حدث تقريبُا لتجربة يناير؟ طليعة متسلحة بأفكار العصر وروحه، ومستعدة لبذل الغالي والنفيس من أجل الوطن، لكن مكاسبها في الميدان صارت هباءً حين اتسعت القاعدة لتضم الجميع: الواعون والغافلون، نافذو البصيرة ومن ينظرون تحت أقدامهم، قوى الاستنارة وقوى الظلام.
لكن تغيير العقول يتطلب وقتًا وجهدًا وصبرًا، والمستقبل لن ينتظر طويلاً، وساعة العمل دقت بالفعل. في السطور القادمة بضعة أفكار عن سبل تجاوز المأزق الراهن. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذه مجرد أفكار عامة وأولية، هي أقرب إلى العصف الذهني منها للرؤية المكتملة، أساهم بها في النقاش العام حول المستقبل، لعلها بالاشتراك مع أفكار أخرى تزيل من الدرب حجرًا، أو تنير في العقل طريقًا:
المصالحة الوطنية ليست ترفًا، بل ضرورة سياسية وحق إنساني. ويجب أن تشمل المصالحة الجميع، إلا من ثبتت عليه بشكل فردي تهم الفساد السياسي أو الإرهاب. وفي هذا الإطار، لا ينبغي أن تؤخذ فئة أو طائفة أو حزب بجريرة بعض أفرادها من المارقين أو الفاسدين، فذلك لا يحقق عدلاً بل يطبق عقابًا جماعيًا. ولأن الجروح غائرة والميراث ثقيل، فلتعتمد المصالحة منذ البدء على عنصرين. الأول قليل من غض البصر عن أخطاء الماضي، وذلك بالتسامي فوق دواعي الكبرياء والخوف، ومشاعر البُغض والمقت، التي لا تمسك بمجتمع إلا نهشته وأقعدته عن النهوض. أما الثاني فإعمال مبدأ "المصارحة قبل المصالحة" تأكيدًا على حسن النوايا وإزالة للريبة والشكوك. وبشكل عام، من المهم أن نجعل من الماضي - كما قال توفيق الحكيم - منصة للقفز لا أريكة للاسترخاء، وأضيف من عندي: ولا سوطًا لجلد الذات والغير. أما من الناحية العملية، فإن تجارب المصالحة الوطنية التي يمكن أن ننهل من دروسها عديدة، من جنوب أفريقيا ورواندا، لميانمار وشيلي وجواتيمالا وغيرها.
إنهاء حالة التشرذم القائمة حاليًا بين جميع القوى الديمقراطية صارت ضرورة، إذ لا يعقل في مواجهة سلطة تتشبث بمواقعها باستماتة؛ أن يوجد على الساحة كل هذا العدد من القوى والتنظيمات دون أن تتحد تحت مظلة واحدة وبرنامج عمل موحد. في إطار ذلك، لعل البداية تكون بصياغة وثيقة أساسية تضم مبادئ عامة ومطالب رئيسية، تراعي الحد الأدنى للتوافق ولا تتطرق لمواطن الخلاف. ثم يلي ذلك محاولة الحصول على دعم القوى السياسية والمواطنين لها، بغرض زيادة الضغط على السلطة لتقديم تنازلات حقيقية فيما يخص المجال السياسي وأوضاع حقوق الإنسان.
توسيع معسكر الراغبين في التغيير عبر تخفيف هواجس الخائفين المتعلقة بالأمن القومي واستقرار الأوضاع، وتبديل مفاهيمهم عن الثورة والتغيير، وتبيان أن الهدف الأخير والأسمى هو هدف مشترك، ألا وهو رفاهة الشعب وسعادته. وأن الاختلاف بيننا يكمن فقط في وسائل هذا التغيير. وأيضًا إظهار أن مصر تستحق ما هو أفضل بكثير من الوضع الراهن، وأن تحقيق ذلك أمر غير عسير. فالوطن للجميع، مهما عصفت ريح الخلافات بنا، والمستقبل يظل دائمًا أهم من الماضي.
امتلاك زمام المبادرة أمر حيوي، على الأقل لإثبات أن قلب السياسة لم يكف عن الخفقان. ومع أهمية دخول كل معترك مدني أو قانوني من أجل إثبات التواجد ونشر الأفكار، وعدم ترك الساحة خالية للسلطة وأدواتها. إلا أن التركيز على الملفات المهمة أمر أكثر جدوى. فالاصطفاف خلف أهداف قليلة ومحددة أفضل من تبديد الجهود في الهرولة وراء كل القضايا. ولعل الأولوية الآن هي للتباحث في شأن الموقف من الانتخابات الرئاسية المقرر أن تبدأ إجراءاتها في غضون شهور قليلة. يأتي ذلك على الرغم من تضاؤل فرص الفوز بها. ولكن لعل الجميع يدرك أن المعارك كثيرًا ما تُحسم بالنقاط، لا الضربات القاضية. وأيًا كان الموقف من الانتخابات وغيرها من القضايا فالمهم أن يظل موقفًا دائمًا موحدًا وثابتًا.
اختيار المعارك السياسية الواجب التركيز عليها، لابد أن يكون له معايير تعتمد على أهمية الموضوع وتأثيره على فرص حلحلة الأوضاع وتقويض السلطة وتمهيد الطريق نحو تغيير أكبر. ويمكن الاقتداء في هذا الصدد بالتجربة الناجحة التي خاضها المحامي القانوني خالد علي في مواجهة اتفاقية ترسيم الحدود المصرية السعودية.
البحث عن قيادة تروِّج لمعاني الديمقراطية وتعبِّر عنها مع قيم الحرية واحترام كرامة الإنسان. فالشعوب تميل بالفطرة لشخصنة الأفكار، وأغلب الناس كما قال الملك الحسن الثاني يومًا لا يكترثون كثيرًا بالبرامج أو الخطط أو الأفكار وسائر المطلقات، وإنما بفريق من البشر يتبعونهم ويُخلصون لهم. ويُفضَّل أن يكون لهذا الفريق قائد واحد وصوت واحد. كان هذا حال عبد الناصر الذي جسد للجماهير معاني الحرية والاستقلال والنهضة، وأعفاهم من مشقة التفكير في هذه المفاهيم السياسية ومدلولاتها العملية.
وعلى الرغم من أن في جوهر هذا المنحى استسلامًا لآليات غير صحية نأمل أن تتغير، إلا أن للضرورات في هذا الزمن الوغد أحكامها.
التمييز بين معارضة سياسات السلطة، وهو حق أصيل، وبين الحفاظ على وحدة الجيش، وهو واجب لا يتزعزع. فالقوات المسلحة بحجمها ودورها وتاريخها ركن لا غنى عنه في الحفاظ على وحدة البلاد وسلامتها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال محو ارتباط الشعب بالجيش، ولا محو الذكرى العطرة لأكتوبر 1973. وإنطلاقًا من الحرص على سلامة الوطن والجيش معًا؛ فلابد من الإعلان وبلا مواربة أن العلاقات المدنية-العسكرية تعرضت لخلل شديد في السنوات القليلة الماضية. وأن لهذا الخلل تبعاته السلبية على كل مناحي الحياة في مصر. ولا حل لاستعادة التوازن المفقود في المجتمع سوى بعودة كل طرف إلى قواعده. ومن ثَم تبرز أهمية فتح حوار مع قيادات المؤسسة العسكرية، وشرح كيف أن انفتاح المجال السياسي ليس استهدافًا للجيش؛ بل هو على العكس يصب تمامًا في مصلحته، الآن ومستقبلاً.
في إطار إدارة العلاقة الشائكة مع السلطة، لم لا يتم إحياء فكرة الوفد؟ المقصود تكوين وفد بقيادة شخصية قوية لا سبيل للطعن في شرفها، وذات مصداقية وشعبية واسعة في الداخل والخارج، وعضوية مجموعة من رموز الأمة. ويكون تكوين الوفد تعبيرًا عن أن الأوضاع لم يعد من الممكن السكوت عليها، ومهمته أن يتفاوض مع السلطة رافعًا لائحة محددة من الطلبات المدعومة شعبيًا (أكرر، المقصود التفاوض حول طلبات لا رفع الطلبات انتظارًا لمكرمة أو هبة). ربما قال قائل إن السلطة عصية على الإصلاح، ولا فائدة من الحوار معها، وربما كان هذا صحيحًا. لكن التجربة خير برهان، ثم أن الفكرة في حد ذاتها ستؤدي إلى قليل من إعادة إحياء السياسة بوصفها ميدانًا للتفاوض بين مختلف قوى المجتمع. أليس هذا أفضل – ولو قليلاً – من حالة الموات التام السائدة حاليًا؟
أما اللاءات الثلاث التي ينبغي أن تحكم ميثاق العمل الوطني فهي:
أولاً، عدم اللجوء للخارج بتاتًا، لأن المسألة برمتها مصرية. أما الجبهات التي تشكل في الخارج فغير مفيدة ولا قيمة لها، لأسباب مبدأية، فضلاً عن أنها تشوه سمعة الجهود الوطنية، إضافة إلى أن التواجد بالخارج يعرضها للاستغلال من الدول المضيفة، ولها مصالحها الخاصة بالطبع.
وثانيًا، عدم اللجوء للعنف. ففضلاً عن أسئلة المشروعية الأخلاقية الواضحة فإن الجدوى السياسية له محدودة للغاية.
أما ثالث اللاءات، فهي التوقف عن التخوين والسباب والنبش في اختلافات الماضي وإطلاق الاتهامات الجزافية بحق الحلفاء والغرماء على حد سواء. قديمًا قيل: اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال. وعدالة القضايا بالفعل يلوثها السلوك والخطاب المعوج للمدافعين عنها.
ما لا يدرك كله لا يترك كله، والنزال في القضايا الكبرى يحتاج لنفس طويل، واحتساب للصبر الجميل، ثم تنويع في الوسائل وتفرقة بين المراحل المختلفة للصراع دون تململ أو شكوى، ويبقى أن إشعال شمعة خير ألف مرة من لعن الظلام أناء الليل وأطراف النهار، وهو ما وصل إليه حالنا للأسف الشديد.