مع اقتراب مراحل الحسم في الانتخابات الأمريكية، يحاول الرئيس الأمريكي جو بايدن غسل يده من دماء غزة، وإقناع المسلمين الأمريكيين، الذين كان صوتهم مرجِّحًا في بعض الولايات في الانتخابات الماضية، بتغيير توجهاتهم السلبية ضد الإدارة الأمريكية الحالية.
بايدن، الحائر بين انتخاباته وبين رغبته العقائدية في دعم إسرائيل، أعلن في خطاب حالة الاتحاد إصدار تعليماته للجيش بإنشاء ميناء مؤقت على ساحل غزة لاستقبال شحنات الغذاء والماء والدواء التي يحتاجها القطاع الذي يعاني بوادر مجاعة مصنوعة إسرائيليًا. خطوة الميناء جاءت بعدما كانت القيادة المركزية للجيش الأمريكي أعلنت في 5 مارس/آذار الماضي تنفيذ عمليات إنزال جوي لإسقاط المساعدات على غزة.
ما الداعي لإنشاء ممر بحري بينما المعابر البرية موجودة وعلى رأسها معبر رفح المصري؟
الغريب هو رد الحكومة الإسرائيلية المُرحِّب السريع الذي صدر بمجرد إعلان الإدارة الأمريكية عن الميناء، بينما هي الحكومة نفسها التي تعرقل دخول المساعدات من البَر، فما الذي جعل بحر غزة مختلفًا عن برّها؟
يطرح الممر/الميناء أسئلة أكثر مما يقدم إجابات. ويبقى السؤال الأهم ما الداعي لإنشاء ممر بحري بينما المعابر البرية موجودة، على رأسها معبر رفح المصري؟
وبخلاف السؤال الأساسي تظهر تساؤلات أخرى؛ هل يلعب الميناء دورًا آخر غير الدور الإغاثي؟ مَن سيوزِّع المساعدات على الأرض وينظم العملية؟ خاصة في ضوء ثلاثة معطيات مهمة، أولها أن الولايات المتحدة لا ترغب في الدفع بقواتها على الأرض، وثانيها أنها ترفض التعامل مع حماس وتصنفها منظمةً إرهابيةً، وثالثها أن أمريكا، مثل إسرائيل، ترغب في تقويض وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".
أهداف أمريكية وإسرائيلية للميناء
يمكن رصد أربعة مؤشرات ربما توضح الأهداف الأمريكية من الممر البحري:
أولًا، تتفاوض الولايات المتحدة مع إسرائيل لتنظيم توزيع المساعدات القادمة من البحر وتنظيم التزاحم على الشاطئ، وهو ما أشار له بايدن حين أعلن أن إسرائيل ستعمل على تأمين عملية التوزيع.
يمنع المخطط الفلسطينيين من تنظيم أنفسهم، ويمنح إسرائيل أدوارًا شُرطية، تقرر من خلالها وبإرادتها المنفردة مَن يستحق الحصول على المساعدة ومن يستحق التجويع حتى الموت، ويُمكِّن إسرائيل من تقويض أي دور لحكومة حماس على الأرض. ما يعني أن إسرائيل، أو من تسمح له، سيشكل حكومة أمر واقع، تَحِد من سلطات حماس.
ثانيًا، يتوافق المخطط مع رغبة إسرائيلية في عزل غزة تدريجيًا عن معبر رفح، أو على الأقل تقليل الاعتماد عليه. تنظر إسرائيل للمعبر بعين الريبة، وتعتبره ممرًا لتهريب ما دون المساعدات الغذائية، حيث أكدت مصادر تابعة للجيش الإسرائيلي أن الحدود المصرية هي مصدر تسليح حماس الرئيسي، وهو الادعاء الذي نفاه المسؤولون المصريون. يسهل خلق خط مساعدات لا يمر عبر رفح بتحويل المنطقة الحدودية إلى ساحة للعمليات عسكرية والنفوذ الأمني الإسرائيلي.
ثالثًا، تعاني إدارة بايدن من أزمة مع الناخبين الداعمين لفلسطين وحقوق الفلسطينيين، خاصة بعد النجاح النسبي لحملة غير ملتزم التي رفضت التصويت لبايدن في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وهو ما نتج عنه حاجة بايدن لتغيير صورته السلبية أمام هؤلاء الناخبين، ليقدم صورة الأمريكي الطيب الذي يقدم الطعام والدواء بدلًا من الشرير الذي يمنح سلاح القتل أو يقتل بنفسه بالزي الرسمي لجيش الدفاع الإسرائيلي.
رابعًا، يظهر الميناء الصناعي الأمريكي كنقطة أخرى للمراقبة والإنذار لأي خرق محتمل من قبل المقاومة الفلسطينية للحصار الإسرائيلي، لطالما اتهمت إسرائيل، إيران، بتهريب أسلحة لقطاع غزة عبر البحر المتوسط، عبر طرق تهريب معقدة باستخدام قوارب صيد صغيرة، أو في شكل بضائع مدنية يمكن إعادة استخدامها. كل هذه المؤشرات تعكس أهدافًا عسكريةً وسياسيةً، لعمل إنساني في ظاهره.
خطة مارشال للشرق الأوسط
تحاول الولايات المتحدة بمينائها الجديد إنشاء خط إغاثي لغزة مع الاحتفاظ بمساعداتها العسكرية لإسرائيل، بما يخلق وضعًا غاية في التناقض. حيث تقدم العون صباحًا للفلسطينيين بمينائها البحري ومساعداتها الغذائية، وتقتلهم ليلًا بسلاحها المحمول جوًا وبرًا وبحرًا عبر آلة الحرب الإسرائيلية.
تستند خطة مارشال على منطق بسيط، ينطلق من أن عزل أعدائنا عن الأيديولوجيا العنيفة، وتقديم خدمات مباشرة تحسن من حياتهم وأوضاعهم الاقتصادية، بالتوازي مع خلق أيديولوجيا صديقة، سينهي كونهم أعداء، ويحولهم تدريجيًا إلى حلفاء.
وبالتالي فإنشاء ميناء لغزة يقع في قلب الخطط الأمريكية لصناعة "مارشال الشرق الأوسط". إن محاولة تنفيذ خطة إنعاش اقتصادي محدود تجعل الفلسطينيين يقبلون الاحتلال مقابل وعود بالرفاه الاقتصادي هي خطة قديمة قِدم الاحتلال ذاته. وهي سياسات تتبناها إسرائيل بعض الوقت ثم تعاود تدميرها بنفسها، نظرًا لحالة الفصام التي تعيشها بين احتواء الفلسطينيين لشراء قبولهم، والتنكيل بهم لقمع مقاومتهم.
في هذا الإطار ظهرت خطط غير مُلزمة في اتفاقيات أوسلو لعام 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية لبناء ميناء ومطار في غزة، وبدأت السلطة الفلسطينية في عام 2000 بناء ميناء صغير على ساحل غزة بموافقة إسرائيلية وتمويل أوروبي.
وبعد ثلاثة أشهر فقط من بناء الميناء، سحبت إسرائيل، المصابة بالفصام، موافقتها ودمرت الميناء، وخرج تنفيذه من الأجندة الإقليمية والدولية بعد الحصار الإسرائيلي على غزة.
عادت فكرة الميناء مرة أخرى في عام 2011 حين دعا وزير النقل الإسرائيلي إلى بناء جزيرة صناعية قبالة سواحل غزة. تزامن ذلك مع اقتراح بناء رصيف لقطاع غزة في قبرص، لكنها لم تتحقق بسبب تراجع القبارصة ورفض إسرائيل إعطاء حماس رمزًا للسيادة.
جوهر خطة مارشال غير موجود لأن إسرائيل ترفض أي حياة أفضل للفلسطينيين
قد يكون الميناء الأمريكي في غزة إعادةً جزئيةً للتصور الأمريكي عن خطة مارشال، لتدخل المساعدات الأمريكية للقطاع بإخراج أمريكي، وليس عربيًا. ما يؤدي، وفقًا لوجهة النظر الأمريكية، لكسب العقول والقلوب وفصل غزة عن محيطها العربي قدر الإمكان، وإقناع الغزيين بالاستسلام.
وفي الوقت ذاته، يُمكِّن إشراف إسرائيل على توزيع المساعدات على الشاطئ من تحسين استهدافها فصائل المقاومة في حرب التجويع التي تشنها، فتمنع وتمنح الطعام لمن تختاره. كما يُمكّنها، وفقًا لتصورها، من إيجاد حلفاء بين الفلسطينيين المنتفعين.
ثمة مشكلة تلوح في الأفق
بخلاف خطة مارشال في أوروبا، التي لم تكن حكومة إسرائيل العنصرية طرفًا فيها، فإن كراهية الفلسطينيين للاستعمار الإسرائيلي ليست نابعة من سوء فهم أو ميول إرهابية يمكن تجفيفها بمشروعات اقتصادية، لكنها نابعة من قلب الواقع وعين الحقيقة.
يكره الفلسطينيون الاستعمار الإسرائيلي الذي يمثل كل الممارسات الإجرامية، بما في ذلك الإذلال والقتل الهوياتي والتطهير العرقي وسرقة الأراضي وهدم المنازل. كما يكرهون ادعاءات التفوق العنصري، التي تتبنى قناعات أن اليهودي له حق أكثر من الفلسطيني لمجرد أنه يهودي، عرقيًا أو دينيًا، بما يمنحه امتيازات أكبر في الأرض والمياه والهواء.
جوهر خطة مارشال القائم على كسب العقول والقلوب بالمساعدات والحياة الأفضل غير موجود، لأن إسرائيل ترفض في الأساس أي حياة أفضل للفلسطينيين. بل إنها ترفض حتى حقهم في الحياة، وتلك هي روح الأزمة وأساسها الذي ترفض الولايات المتحدة التعامل معه، فتخلق حلولًا وهميةً لأعراض الأزمة، وليس مسبباتها.
وصلت مساعدات الممر البحري الأولى عبر رحلة بحرية انطلقت من قبرص، الجمعة الماضي، ورست على الرصيف البدائي المؤقت الذي تم إنشاؤه مؤخرًا، وهو غير الميناء العائم الذي سيشرع الجيش الأمريكي في بنائه وتثبيته على نقطة في الشاطئ.
ستتوالى السفن على الميناء خلال الأيام المقبلة، وسيستمر بايدن في محاولة استعادة الأصوات الانتخابية المفقودة نتيجة سياساته، عبر محاولات وهمية لإنهاء الأزمة الإنسانية.