كنت أتمنى أن يشير الإعلاميون الذين هاجموا أحمد دومة لهتافه على سلم نقابة الصحفيين خلال وقفة تضامنية مع أهل غزة مساء الاثنين الماضي، ولو على شكل انتقاد خافت عابر، لأزمة منعه من مواصلة دراسته العليا في الجامعات المصرية، مع أنَّ السماح له قد ينفع السلطة، لأنها على الأقل ستوجه طاقته إلى عمل آخر.
ليس بالضرورة أن تأتي هذه الإشارة على شكل انتقاد، إنما مناشدة للجهات الأمنية وإدارات الجامعات بأن يسمحوا له باستكمال هذه دراسته، على أساس القاعدة المجربة سابقًا، التي طالما عرفتها وعركتها السلطة السياسية بنسب متفاوتة خلال سنوات حكم كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك.
لا أطالب أيَّ إعلاميٍّ باستضافة دومة في مداخلة ليشرح مشكلته، فهذا فوق استطاعتهم في ظل تقييد الحريات الإعلامية. ولكنَّ الحديث من بعيد، وليكن حديث تساؤل واستفهام غير استنكاري ينطوي على إشارات وإيماءات ناصحة لا يشكّل خطورة على أحد، لا سيما وأنَّ دومة خرج من السجن بعفو رئاسي، ولن يكون مستساغًا أن يساق مرة أخرى السجن.
ليكن الاستفهام عن الموانع التي تحرم مواطنًا مصريًا من مواصلة تعليمه بالمخالفة للدستور، ورأي القانون في هذا، وعن احتمالات أن يساعد الانخراط والاستغراق في التعليم والعمل شخصًا على أن يسلك سلوكًا آمنًا، بمفهوم السلطة السياسية.
رسائل متبادلة عن المستقبل
راسلني دومة على فيسبوك يسألني عن مكان يمكن أن ينجز فيه أطروحته للماجستير عن موضوع يجمع بين السياسة والأدب. سألني ربما لأنه يعرف أنني أديب درس العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أو لأن أطروحتي للدكتوراه كانت عن "القيم السياسية في الرواية العربية"، وربما لأننا التقينا من قبل كثيرًا سواء في شوارع الثورة، أو في ندوات ثقافية، أو في برامج تليفزيونية قبل سنوات.
سألت دومة عن الأسباب التي تمنع الكليات من قبول أوراقه فأجابني بأنها "موانع أمنية"
سألته عن الكلية التي تخرّج فيها، فأجابني الحقوق. قلت له دراسة الحقوق تقربك من دراسة العلوم السياسية، وتذكرت أن بعض أساتذة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في سنواتها الأولى كانوا قادمين من كليتي الحقوق والتجارة، التي كان بها قسم للعلوم السياسية. بل إن الدكتور رفعت المحجوب، أحد عمداء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كان من أساتذة الحقوق، ودرَّس مادة الاقتصاد السياسي وله فيها تأليف.
في قسم الاقتصاد يدرس الطلاب في السنة الأولى مادتي نظرية القانون ونظرية الحق، ويدرس طلاب العلوم السياسية مواد القانون الدولي والتنظيم الدولي والدبلوماسية، وكلها مرتبطة بالقانون، وبعضها يدرسه طلبة الحقوق.
لكنَّ دومة كشاعر، قبل أن يكون ناشطًا سياسيًا أو راغبًا في أن يصبح باحثًا وصحفيًا في المستقبل، يريد أن يُعدَّ دراسة جامعية، تجمع بين الأدب والسياسة، وتكون تحديدًا عن "أدب المقاومة"، ويطبقه غالبًا أو حصرًا على المقاومة الفلسطينية، وهذا موضوع ليست له علاقة بالشأن الداخلي المصري، ولن يزعج أحدًا.
سألت دومة من جديد عن الأسباب التي تمنع الكليات من قبول أوراقه، فأجابني بأنها "موانع أمنية"، لأن هناك من يخشى وجوده بين الطلاب. وهنا أقول إن الخشية من اختلاط دومة بالطلاب مردود عليها، لأن عميد الكلية ورئيس الجامعة وقتها يمكن، وبالتنسيق كما نعرف مع أمن الجامعة، أن يقررا فصله، بغض النظر عن قانونية هذا وعدالته.
أما عن موضوع أطروحته، فلن يتم إلا بموافقة الأستاذ المشرف عليه، ثم القسم، فمجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة. وسيضمن ذلك، في ظل غياب الحرية الأكاديمية، ألَّا يكون موضوعًا مزعجًا للسلطة.
هل هناك من يحاوره؟
وبينما لم يطالب أي من هؤلاء الإعلاميين بتوفير فرصة عمل لدومة، ضمن ما يجب أن يتم مع السياسيين الشباب الذين خرجوا من السجون، ويعانون في سبيل العيش، كما تدل على ذلك شهاداتهم، فإنهم أعادوا التذكير بقضية حرق المجمع العلمي.
كان حرق المجمع العلمي عملًا مشينًا مكروهًا مرفوضًا منبوذًا، وأستعمل في وصفه كلَّ أفعال التقبيح والاستهجان، لكنه في الوقت نفسه قضية نحتاج إلى إعادة فتح التحقيق فيها.
كنت مع دومة في برنامج تليفزيوني اسمه "ناس بوك" تقدمه الإعلامية هالة سرحان، حين قال إنه ألقى زجاجة مولوتوف على المجمع، فطلبت منها الخروج إلى فاصل، لأنَّ هذا لم يكن موضوع الحلقة، ولا يمكن ترك هذه العبارة دون مراجعة.
دومة في حاجة إلى من يحاوره وليس من يعيده إلى السجن مرة أخرى
في الفاصل سألته، وأنا من يرفض إلقاء أي نار أو حجر على أي شيء أو أي أحد، لأني أكره العنف في السياسة، ولا أجد له مبررًا، "هل كنت تعرف أنَّ ما تقذفه هو المجمع العلمي؟ أجاب: لا. هل كنت الوحيد الذي يلقي المولوتوف؟ أجاب: لا. هل أنت متأكد من أن زجاجتك هي التي أشعلت النار؟ أجاب: لا. هل تستبعد أن تكون النار اشتعلت من الداخل؟ أجاب: لا".
وقتها قرَّعته بشدة، وقلت له "هذا فعل لا يفتخر به أحد، وسألته: لماذا تلقي بالمسؤولية كاملة على نفسك؟" ونبهته إلى أنَّ هذا سيكون له ثمنه فيما بعد، وقد كان.
في الحلقة نفسها، قلت إن "إيمان أتباع الأناركية أو الفوضوية، أو بمعنى أدق اللاسلطوية، كما تبلورت في رؤيتها وصيغتها وترجمتها الأكثر تعبيرًا عنها، بإسقاط أي سلطة للدولة، وإن كان منبعه هو رفض الاستبداد أو التسلط وتحكم الفساد، فإنَّ نتيجته مروعة ومدمرة. لأنَّ وقتها سيجد المجتمع نفسه أمام عدة سلطات، تنشأ فور سقوط سلطة الدولة، أو انهيار النظام السياسي، دون وجود بديل يحل محله فورًا، ويحظى برضاء شعبي يعطيه شرعية، أو تكون له مشروعية قانونية".
وسألت أحمد يومها عن مكان سكنه، فعرفت أنه حيٌّ شعبي، فقلت له "في الطريق إلى بيتك ليلًا أو نهارًا ستجد عشرين سُلطة قد قامت مكان سُلطة الدولة إن سقطتْ، إنها سلطات يُنشئها كثيرون، ولا يوجد رادع لها، أو معقب عليها، ولا تخضع لأي عقاب إن غابت سلطة الدولة. إنها سلطات يقيمها بلطجي الشارع، والمتطرف الديني، وتاجر المخدرات الكبير والصغير، وصاحب المقهى، وصاحب الدكان، وسائق التوكتوك، والجار الظلوم المتغطرس.. وهلم جرا".
تفهَّم دومة، ولهذا فإنه في حاجة إلى من يحاوره، وليس من يعيده إلى السجن مرة أخرى، بدعوى أنه لم يكن يستحق أيَّ عفو رئاسي.
المطالبون بإعادة سجن دومة يتهمونه بترديد مزاعم إسرائيل وأقاويل الإخوان حين هتف "يا دي الذل ويا دي العار.. مصر مشاركة في الحصار". والرد على ما علا به صوت دومة ويردده آخرون همسًا، لا يكون بالسجن، إنما بشرح الموقف.
وإن كان هناك ما لا يجب أن يُطرح في العلن، حسبما تعتقد السلطة حيال مسائل كثيرة، فلتهتم السلطة بإخبار رؤساء الأحزاب السياسية وقادة الرأي ونشطاء السياسة ووجهاء المجتمع المدني حول ما يجري بالفعل، ببعض ما يمكن حشره في خانة "ما يُعرف ولا يجب أن يُقال".
بالنسبة لي فإنَّ لكل مواطن، ووفق الدستور، الحق في التعبير عن رأيه. والسلطة إن لم يرق لها الرأي ترد من خلال إعلامها، وما أكثره، وبألسنة المعبرين عنها أو أتباعها. أما التهديد بسجن كل صاحب قول، مهما بلغت حدته، فليس حلًا. ولا أقول إن القانون فقط يجب أن يقام بين الطرفين، بل السياسة أيضًا، وفي الأخير تمهُّل وكياسة وصبر ومرونة، كما ينبغي أن يكون.