فجرت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المحتل عددًا هائلًا من التحديات أمام الحكومة المصرية، تتحكم في تشكيلها من جانب القاهرة الهواجس الأمنية، والعلاقات المتينة مع تل أبيب وعواصم غربية، والمصاعب الاقتصادية المتفاقمة، والغضب الشعبي الواسع من الحملة الوحشية التي قتلت حتى الآن أكثر من 18 ألف فلسطيني، ودمَّرت أكثر من نصف بنايات القطاع وخرَّبت معظم بنيته التحتية.
ولكن حتى قبل أن تنتهي الحرب، تواجه مصر تحديًا معقدًا بشأن التعامل مع الضغوط، والمغريات، للسماح بعبور مئات آلاف الفلسطينيين الحدود نحو أمان الإقامة في مصر "بشكل مؤقت"، في وقتٍ أدى فيه القصف الإسرائيلي الكثيف والمتسارع من الشمال إلى الجنوب إلى نزوح 1.9 مليون من سكان القطاع، ليتكدَّسوا في مساحة صغيرة للغاية يواجهون فيها صعوبات جمّة لتلبية احتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء وماء ومأوى في ظروف غير آمنة وغير إنسانية، مُتحسِّبين طوال الوقت لسقوط القنابل والصواريخ على رؤوسهم ورؤوس أطفالهم الذين قتلت منهم إسرائيل ثمانية آلاف، خلال شهرين فقط من حملتها الانتقامية من عمليات حماس الجريئة المفاجئة في 7 أكتوبر.
ووفقًا لمصادر دبلوماسية غربية تحدثت إلى كاتب هذه السطور، فإن الولايات المتحدة ووسطاء أوروبيين أبلغوا القاهرة أكثر من مرة، أنه قد يكون من الأفضل السماح لعدد كبير من فلسطينيي غزة، بلغ مليونًا في بعض التقديرات، بدخول مصر.
ورفضت القاهرة هذه السيناريوهات بشكل قاطع وعلني في الأسابيع الأولى للحرب في شهر أكتوبر/تشرين الأول. ومع ذلك، لا تزال الطلبات قائمة، ويمكن أن تنتهي بقبول مصر بعضها بعد إدخال تعديلات عليها.
من شأن هذه العروض أن تخدم المصالح العسكرية الإسرائيلية قصيرة الأمد، بتفريغ غزة من أكبر عددٍ ممكن من المدنيين، لتواصل عملياتها العسكرية بحرية أكبر، كما أنها تصبُّ في مصالحها الاستراتيجية طويلة الأمد، بتفريغ المناطق الفلسطينية من سكانها عمومًا.
أبدت أجهزة أمنية مصرية قلقها من توافد مئات آلاف الفلسطينيين قد يكون من بينهم أعضاء ومؤيدون لحماس
في مواجهة المخاوف الأمنية المصرية التي عبّر عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي، من أنَّ دخول عدد كبير من الفلسطينيين إلى سيناء قد يؤدي إلى انطلاق أعمال عسكرية من شبه الجزيرة، قليلة السكان، ضد إسرائيل، ما قد يُدخل مصر في صراع لا تريده، ألمحت ثلاثة مصادر غربية ومصرية مطلعة على تطورات هذه المناقشات إلى تعديلات أُدخلت على ذلك المقترح، أبرزها ألَّا يقيم النازحون الفلسطينيون المحتملون في سيناء، بل يُنقلون لعدة محافظات في وادي النيل، وأن تقدم إسرائيل والولايات المتحدة ضمانات قوية لعودة هؤلاء الفلسطينيين، الذين لن يحصلوا على صفة وحماية اللاجئ بل سيُطلق عليهم اسم "ضيوف" إلى غزة.
علاوة على ذلك، لم يكُن مفاجئًا أن تُبدي أجهزة أمنية مصرية قلقها من توافد مئات آلاف الفلسطينيين، قد يكون من بينهم أعضاء ومؤيدون لحماس التي تعتنق تاريخيًا أفكار الإخوان المسلمين، إلى مصر. هنا رجّحت المصادر، التي تحدثت إلى كاتب هذه السطور بشرط عدم ذكر أسمائها، إمكانية مواجهة ذلك التحدي التكتيكي بفحصٍ دقيق لكلِّ أسماء المرشحين لدخول مصر بالتعاون مع دول أخرى، حيث لن ترغب إسرائيل بدورها في مغادرة بعض من تشك فيهم إلى خارج القطاع.
مأزق التعاطف والمسؤولية
مع تنحية بعض الأصوات الإعلامية ومحبي الإثارة وهالات الضوء، لا شك أن هناك تيارًا قويًا ومتعاطفًا للغاية مع الفلسطينيين في الفضاء العام للمجتمع المصري، وإن كان التضييق الهائل الذي تفرضه الحكومة يجعل من المستحيل إجراء استطلاعات رأي مفيدة في هذا الصدد.
ولكن من بيانات شيخ الأزهر، واحتجاجات طلاب الجامعات، ومتظاهري سلالم نقابة الصحفيين، والسيل المنهمر من المحتوى على السوشيال ميديا، يشعر المراقب بسهولة بشحنات الغضب تجاه آلة القتل الجهنمية التي تستهدف أهل غزة. لا شكَّ أنَّ أغلب المصريين، مثل الكثيرين حول العالم، مدفوعون بتعاطف إنساني قد يدفعهم للقبول بدخول الفلسطينيين حمايةً لهم.
ومن ناحية أخرى، فهناك قطاع يخشى من المسؤولية التاريخية التي قد تتحملها مصر إذا سمحت بعبور الفلسطينيين، بما يعنيه ذلك من مساعدة اليمين الإسرائيلي في تحقيق حلمه الذي عبر عنه بعض كبار المسؤولين الحاليين والسابقين صراحة، بتهجير أكبر عدد ممكن من أهل غزة لمصر.
سيكون هذا الأمر أشبه بما جرى في نكبة 1948 عندما نزح 750 ألف فلسطيني من قراهم وبلداتهم على وقع تهديدات الميليشيات الصهيونية المسلحة، معتقدين أنهم سيعودون بعد نهاية العنف، ولكنهم لم يعودوا قط. أكثر من 80% من سكان غزة اليوم هم أحفاد هؤلاء النازحين وفقًا لسجلات الأونروا.
وعلى كل حال، فباستثناء حالات الغضب الشعبي المتفاقم بشأن الأوضاع الاقتصادية المتدنية، لا يهتم النظام المصري السلطوي كثيرًا بالرأي العام ولا يأخذه غالبًا في الحسبان. لكنَّ الغضب شعورٌ معدٍ، وقشة قبول الفلسطينيين (أو رفضهم) قد تفجر مخزون بارود الغضب المتراكم لأسباب داخلية معظمها اقتصادية.
وتبقى هناك عوامل أخرى ربما أكثر أهمية في تشكيل حسابات وقرارات النخبة الضيقة الحاكمة في مصر، إلى جانب المخاوف الأمنية التي عبَّر عنها المسؤولون المصريون علنًا وفي غرف المفاوضات المغلقة، من تحول سيناء إلى منصة لاستهداف إسرائيل، أو اندماج فلسطينيين من مؤيدي حماس في نسيج المجتمع المصري.
جزرة المساعدات الاقتصادية
على الرغم من سماعي في جلسات خاصة تأكيدات مسؤولين غربيين أنَّ المحادثات الجارية بشأن تقديم مساعدات اقتصادية لمصر سواء من الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي أو أطراف أخرى، لا تتعلق بقبول "اللاجئين" الفلسطينيين من غزة، فإنَّ تقارير أشارت إلى ارتباط عروض زيادة الدعم المالي لمساعدة مصر، بالحاجة للتعامل مع تداعيات الأزمة الاقتصادية الناتجة عن غزة بشكل خاص، ودعم الخطط الأوروبية لكبح جماح الهجرة غير المنتظمة نحو شواطئ شمال المتوسط.
تواجه مصر أزمة اقتصادية خطيرة مع ارتفاع معدلات التضخم والديون وانخفاض قيمة الجنيه، وهي مرشحة للتفاقم، ليس فقط بسبب فشل السياسات الداخلية، بل أيضًا نتيجة تباطؤ الاقتصاد العالمي وتأثيرات حرب أوكرانيا وحرب غزة. تؤثر هذه العوامل مجتمعة على إيرادات مصر السياحية؛ إحدى أهم مصادر العملة الصعبة.
ربما تجد مصر نفسها أمام حلٍّ سيئ إذا قرر عشرات آلاف الفلسطينيين السير نحو المعبر
وبالنسبة لنظام تفتقر سياسته الخارجية إلى أي إطار ومحددات استراتيجية واضحة، باتت الاتفاقات التكتيكية قصيرة النظر تهيمن على تعامل القاهرة مع الأزمات الخارجية بغض النظر عن التبعات الاستراتيجية متوسطة وطويلة المدى. ولهذا تظل الحوافز الاقتصادية واستمرار الدعم السياسي الغربي، وبعض المخاوف الأمنية الضيقة، العوامل الأهم في تشكيل قرار القاهرة بشأن استقبال الفلسطينيين.
في غياب أي حوار سياسي حقيقي في المجال العام، حيث برلمان بعيد عن بحث المسائل السياسية الجادة، وأحزاب ورقية، وإعلام معظمه مستأنس، وأجهزة أمنية مهيمنة، يستحيل إجراء مناقشة جادة حول الآثار متوسطة وطويلة الأمد على مصر، إذا انتقل إليها عدد ضخم من فلسطينيي غزة. وهكذا ستتخذ الحلقة الضيقة الحاكمة قرارها بطريقة غامضة متأثرة في الأغلب باستحقاقات اقتصادية عاجلة إذا تمكنت من إدارة المخاوف الأمنية.
لن تكون المكاسب المحتملة قصيرة الأجل ناجعة لوقت طويل في حل الأزمة الاقتصادية، حيث إن المشكلات عميقة وتتسبب في بعضها سياسات حكومية فاشلة أو عقبات هيكلية بعضها خارج سيطرة الحكومة.
المؤلم في كل هذا هو أنه، وعلى بعد بعض مئات الكيلومترات من غرف صناعة القرار القليلة والغامضة في القاهرة، تتصاعد معاناة مئات آلاف الفلسطينيين، وربما تجد مصر نفسها مجبرة على حلٍّ سيئ إذا تزايدت أعداد من يسقطون بسبب تفشِّي الأمراض وسوء التغذية، فضلًا عن القنابل الإسرائيلية، فقرر عشرات الآلاف منهم السير نحو المعبر سعيًا لنجاة محفوفة بالمخاطر.